الشعر على مر العصور وعلى اختلاف اللغات التي كُتب بها هو لسان وميكروفون المقهورين والمضطهدين. وفي الحالة العربية لدينا في تجربة شعراء الصعاليك أحسن ما يُمثل هذا الرهان القديم، عندما ثار هؤلاء الشعراء على سلطة القبيلة، وخرجوا يعترضون سبل القوافل من أجل إطعام الفقراء والمعدمين حد أن أشعارهم جاءت حافلة بالكثير من المبادئ والمواقف التي تنتصر لحقوق الإنسان بالمفهوم المعاصر. المسألة قديمة جداً والشاعر الحقيقي هو الذي يستلهم مشروعه الشعري من مطالب الشعوب وتطلعات المهمشين، في وقتٍ ولى فيه زمن مطولات المديح، في ظل ما تعيشه الشعوب القاطنة بين المحيط والخليج من متغيرات حقيقية على جميع الأصعدة، وارتفاع ترمومتر مطالب هذه الشعوب بخصوص الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
ولقد أبانت القصيدة العربية عن وظيفتها التأثيرية خلال انتفاضات الربيع العربي، عندما ساهم خطاب الشعر إلى جانب خطاب وسائل الإعلام المختلفة، في تأجيج شرارة هذه الانتفاضات، حيث ردد المحتجون أشعار محمود درويش وأحمد فؤاد نجم وقصيدة الشابي الشهيرة «إرادة الحياة»، ما يؤكد أن الشعر مهد للثورة وتنبأ بها منذ عقود طويلة. وبالموازاة كُتبت قصائد أخرى إبان الثورة، ولاقت رواجًا كبيراً وإن غلبت الغنائية والتسرع على الكثير منها، مثلما وجَبَ الانتباه كقراء إلى الإصدارات الشعرية التي ظهرت بعد خمود الثورات، وشكلت إلى جانب الكتابة السردية الإرهاصات القوية لما يصح تسميته بـ» أدب الربيع العربي» على اعتبار أن الشعر والأدب عموماً لم يستنفد جميع لغته، بالقياس إلى بشاعة الصورة التي وصلتنا عبر القنوات التلفزيونية، إلى الدرجة التي تم فيها رفس المواطنين بالخيول ودهسهم يسيارات الجيب. وعلى اعتبار، أيضاً، أن هذه الثورات لم تخمد بعد، وإن ذبلت شوكتها وحادت عن مطالبها الأساسية عندما تحولت إلى صراعات عقائدية وإثنية كما هو حاصل الآن في سوريا وليبيا، ما يشي بأن منعطفاً مهما ستشهده الكتابة الشعرية في هذه البلدان، على غرار تجربة «ميليشيا الثقافة « في العراق التي استلهم شعراؤها قصائدهم من واقع الحرب والخراب.
في ظل هذه النتائج المخيبة للآمال واستمرار القتل اليومي وتنامي مشاهد الرعب وغزارة صور الألم المستفزة في أكثر من بلدٍ، يصعب تقبل ارتكان الشاعر إلى الصمت بمبرر أن خيالات الشعر أبعد ما تكون عن واقع الدبابة وحسابات العسكر. وهل هناك صورة ناصعة للفن في هذه المرحلة الحرجة أكثر من فن الخراب والدمار الذي شاهدناه جميعاً، وأكثر فداحة من هؤلاء القتلى الذين خذلنا أرواحهم عندما ذهبنا نشحذ لغتنا في وصف أغراضنا الشخصية، بدعوى أن قصيدة النثر تحفل بالتفاصيل الصغيرة؟
ومهما يكن من ألمٍ وخسارة، فإن ثورات الربيع العربي كشفت عن أهمية الشعر وقدرته على احتواء توترات الشعوب، سواء كانت إثنية عربية، أو إثنيات أخرى، كما كذبت أولئك القائلين بموت الشعر، وبأننا نعيش أبهى زمن الرواية.
في المقابل أسقطت هذه الثورات أسماء شعراء معروفين وتركت قصائدهم جانبا ، حين اصطف هؤلاء في الجهة المضادة وبرعوا في خرجات إعلامية تؤيد الطاغية والقتلة، بل أسعفت العبقرية الشعرية بعضهم ليتساءل: أي ربيع عربي؟ في استخفاف صريح بالثورات التي ليست سوى مؤامرة خارجية تقف وراءها أمريكا، حسب زعم هؤلاء الذين خذلوا قراءهم وتحولوا إلى مروحةٍ يدوية في يد السلطة والأنظمة الفاسدة، من خلال مقالات رأي يفهم القارئ العادي اتجاهها قبل أن يفهمه اللبيب، ما عرض مشروعهم الشعري إلى مساءلة نقدية قبل المساءلة الجماهيرية.
نفهم الشعر في هذه المنطقة الواضحة والصريحة باعتباره رصدًا للفظاعات والبقع السوداء. وضد مشاهد الرعب والدمار وصور التجويع والتهجير التي تتقاطر علينا يومياً عبر القنوات التلفزية، ومواقع التواصل الاجتماعي، وضد الإرهاب بجميع أنواعه، بل إن إرهاباً منظماً استهدف ويستهدف حياة الشعراء والكتاب في السنوات الأخيرة، من خلال جرجرتهم إلى المحاكم والزج بهم في السجون بعد محاكمات صورية وهزلية بتهمة المساس بالدين والتآمر على مصالح الوطن. وعدد شعراء العربية الذين يعيشون في المنافي والأصقاع البعيدة يضاهي عدد الذين اختاروا مواصلة الحياة في أوطانهم مفضلين لعبة القط والفأر مع السلطة، ومحتمين بوظيفة حكومية يعيلون بها أسرهم.
ونفهم، أيضًا، أن القصيدة صياغة فنية جميلة لتجارب الإنسان ورؤية جديدة للعالم والأشياء. لكننا ضد هذه الطلاسم والأحاجي التي تقدم على أنها حداثة شعرية والتي نفرت قارئ الشعر وأوصلت القصيدة العربية إلى الباب المسدود. وإن أكبر المتآمرين على الشعر هم هؤلاء الذين حولوا الكتابة الشعرية إلى معادلات رياضية صعبة، وأوغلوا في الغموض حد أن لا أحد يفهمهم. لا القراء ولا النقاد. أما الأمسيات الشعرية فلا أحد أصبح يفكر في الذهاب إليها، فضلاً عن أن صفحات شعراء قصيدة النثر على الفيسبوك والتويتر هي الأفقر بخصوص المتابعة والتفاعل. وبودي أن أنقل هنا شكوى أساتذة اللغة العربية من الكثير من النصوص التي تُقدم في المنهاج الدراسي على أنها نماذج الحداثة الشعرية، وذلك حين تعذر عليهم إيجاد مداخل حقيقية لهذه النصوص وشرحها للتلاميذ، بل قرأتُ في جريدةٍ أن أساتذة العربية في بلادٍ عربية طالبوا وزير التعليم بإحضار الشعراء إلى الأقسام لشرح ما كتبوه للتلاميذ المقبلين على اجتياز امتحانات البكلوريا. وهل حضر الشعراء فعلاً وتوفقوا في شرحهم أم تذرعوا بأن الشعر لا يُشرح؟ لا أدري، لكن مأساة الحداثة الشعرية تبدأ من هنا.
كاتب مغربي
حسن بولهويشات