هذا الكتاب، وعنوانه الكامل «النص الغائب في الشعر العربي المعاصر أمل دنقل نموذجا»، للباحث والإعلامي الموريتاني الدكتور الشيخ سيدي عبد الله أستاذ الأدب العربي في جامعة نواكشوط، جاء جديدا في معناه ومبناه، فانتثرت جواهره بين يدي القارئ دراسة علمية لمفاهيم النص الغائب والتناص وأصولهما في البلاغة العربية مثل السرقات والمعارضات والنقائض وغيرها.
وأبدع المؤلف في تطبيق نظرية النص الغائب على شعر الشاعر المصري الراحل أمل دنقل وذلك لعدة أسباب، أكد أن من أهمها توظيفه المفرط للنصوص الغائبة في شعره، لدرجة أنك لا يمكن أن تجد له قصيدة خالية من أي توظيف للأسطورة أو الحكاية أو غيرها، والثاني هو وعيه بهذا التوظيف، الذي أكد المؤلف أنه توصل إليه في البحث، عندما لاحظ أن الشاعر أمل دنقل ينظر إلى هوية نصه الغائب، ومن ثم يرى إن كانت تلائم موضوع القصيدة أم لا.
ومما استنتجه المؤلف من غيابات بحثه، أن الشاعر أمل دنقل وظف في شعره نصوصا غائبة تنتمي إلى هويات مختلفة أهمها «التراث العربي الإسلامي- والروماني واليوناني والفرعوني والشعبي والفارسي» مع تفاوت في مدى التوظيف وأهميته، بالإضافة إلى حضور نصوص غائبة معاصرة في شعره.
وجاءت لغة أمل دنقل الشعرية لتلفت نظر المؤلف لكونها أثارت جدلا نقديا واسعا حيث اتهمها البعض بالوضوح والمباشرة، وهو ما يشكل مفارقة هامة ذلك «أن كثافة الترميز في الشعر تعبد الطريق أمام ظاهرة الغموض» غير أن أمل دنقل، يقول المؤلف «كان نشازا في هذا الحكم فنصوصه الغائبة هي سر وضوح شعره».
ومن دواعي تطبيق المؤلف في كتابه، لنظرية النص الغائب على شعر أمل دنقل، ظهوره في فترة زمنية، وسمت جيلها الشعري بمسحة خاصة، وهي فترة النكسة التي فتحت الباب واسعا أمام التساؤلات حول الوجود العربي الراهن وعلاقته بالماضي وهو ما يمكن أن نفهم من خلاله السر وراء التفات هذا الجيل الشعري إلى التراث وتوظيفه بكثرة في شعره.
وكان وعي أمل دنقل بأهمية القارئ في العملية الإبداعية، دافعا آخر لاهتمام المؤلف به، حيث أن دنقل كان حسب استنتاجات المؤلف يؤمن «بأن الشعر رسالة لا بد لها من متلقي، ويتجلى هذا الوعي عنده في كثرة إيراده للنصوص الموازية في شعره، والمتمثلة في التعريف بالشخصيات، والتذييل والتصدير، والتواريخ التي يضعها تحت بعض قصائده، وكذا العناوين الناطقة بدور الشخصية التي تم توظيفها في النص، وهي العناوين التي وضعها لثلاثة من دواوينه».
ويدافع المؤلف في توضيحات لـ«القدس العربي»، عن مسألة التبادل بين الثقافات التي عكس كتابه جوانب منها، فيقول «من أهم مبادئ الشعرية المفتوحة أنه مثلما تتحكم خاصية التأثر والتأثير في أدب وثقافة أمة واحدة، فإنها تتحكم في آداب الأمم مجتمعة، وهو ما أدى إلى استفادة النقد العربي الحديث من النتاج النظري للنقد الأوروبي حيث دخلت النظريات والمفاهيم النقدية الغربية إلى مخادع النقد العربي، وهو الشيء الذي استفاد منه أيضا النتاج الشعري العربي الحديث، الذي انفتحت أمامه أبواب وآفاق إبداعية جديدة، جعلت الشاعر باستطاعته توظيف الأجناس الأدبية الأخرى دون أي حرج أو خوف من القدح والاتهام».
وإذا كان هناك من يرى في هذه الاستفادة، يضيف الدكتور الشيخ، نوعا من التبعية الفكرية، وإعداما للخصوصية فإن حركة التحديث الشعري اليوم، أثبتت العكس، حيث إن ثورة شعرية جديدة استطاعت أن تأخذ لها مكانا بين الأمكنة، بل إنها ـ وبسبب الانفتاح -استطاعت أن تصل إلى جزر إبداعية لم تطأها قبلها قدم فاتح.
ويضيف «إن الاستفادة من الآخر لا تعني نكران الذات، فما دام الآخر يعترف باستفادته منا أيام كنا نعطي دون أن نأخذ، فما هو الضير في أن نستفيد نحن اليوم منه؟ ولنعتبر ذلك ردا منه لجميل طوقنا به عنقه من قبل».
هكذا، يتابع المؤلف، أعيدت دراسة الماضي الشعري والنقدي العربي بمناهج ومفاهيم جديدة، وتم التخلي بعد دراسة وتحليل عن الكثير من المصطلحات والمفاهيم لصالح مفاهيم ومصطلحات تتماشى مع العصر ومع متطلبات الإبداع الجديد، كما تمت خلخلة التوزيع الجغرافي للإبداع العربي، فلم يعد المشرق ـ اليوم ـ هو مركز الإبداع الشعري والنقدي العربي، ولم تعد منطقة المغرب مجرد محيط مستهلك، أو صدى مردد. بل يمكن القول إن صمام الأمان للحداثة الشعرية العربية اليوم في يد النقاد والمترجمين المغاربيين دون إقصاء أو نكران لأي جهد آخر، وذلك لأن نقطة الضعف الرئيسية في النقد العربي منذ عصر النهضة هي فقدانه لمبدأ التراكم والتعالي النرجسي إزاء الآخر.
وأضاف «انطلاقا من ذلك فقد حاولتُ أن أقوم بمقارنة بين نظريتين نقديتين مختلفتي المنبع هما نظرية (السرقات الشعرية) والتي حبلت بها كتب النقد العربي القديم وشكلت محكا لبروز الشاعرية، وخفوتها كما أنها كانت متحكمة في صياغة جميع النظريات النقدية الأخرى، ما جعلها الغول الذي يخشاه الشعراء ويتنافسون في طرق التحايل عليه والنجاة منه، والأخرى نظرية (التناص) أو (النص الغائب) التي أفرزتها الاجتهادات النقدية الأوروبية في ستينات القرن الماضي، والتي كانت على العكس من سابقتها، منجما إبداعيا يستفيد منه المبدعون الشعراء وغير الشعراء، وأصبحت مجالا يرتادونه عن قصد لأنه أحد مقاييس الشاعرية التي يرغب الجميع في الامتياز بها».
وكانت خلاصة المؤلف في خياره النقدي هي تأكيده «أن المقارنة بين هاتين النظريتين محسومة سلفا، نظرا لإفاضة كتب النقد العربي الحديث فيها، لذا ارتأى أن تكون المقارنة مطبقة على نتاج شاعر معاصر، وهنا وقع اختياره على الشاعر أمل دنقل ليكون ديوانه ميدانا للتطبيق.
الشيخ سيدي عبد الله: «النص الغائب في الشعر العربي المعاصر أمل دنقل نموذجا»
دار الكرامة، الرباط 2016
300 صفحة.
الشيخ سيدي عبد الله يدرس «النص الغائب في الشعر العربي المعاصر»: مفاهيم التناص وتوظيف الهويات عند أمل دنقل
عبد الله مولود