عندما يكذب السياسي في خطابه، فإن كذبته طال الزمن أو قصر ستنكشف، وقد يتجاوز الناس عن أكاذيب الساسة لأنهم يعرفون أن للسياسية دروبا قذرة تلوث بألعابها ودهاليزها ضمائر من يخوضون صراعاتها.
كما أن الكل يتذكر «إكذب، إكذب، حتى يصدقك الناس»، المقولة التي تنسب إلى جوزيف غوبلز وزير دعاية هتلر، لكن الصدمة تكمن عندما يلبسون السياسة ثوب الدين، فيخطب رجل الدين بعمامته البيضاء أو السوداء في الناس من على منبر ليحدثهم بأكاذيب السياسة، وهذه تماما هي اللحظة الفارقة التي تتبلور فيها صدمة من يستمع لمغالطات وأكاذيب عامر الكفيشي، الذي يعرف بخطيب حزب الدعوة الاسلامية في العراق، والذي يسبق اسمه لقب الشيخ الدكتور، ورغم أن سيرته كعضو سابق في البرلمان العراقي عن حزب الدعوة – كتلة دولة القانون- تشير إلى تاريخه النضالي منذ هروبه من العراق بداية ثمانينيات القرن الماضي إلى دمشق، وبقائه هناك حتى إسقاط نظام صدام حسين على يد القوات الامريكية، إذ عاد مع قيادات حزبه ليتسنموا المناصب، إلا أنه لم يكن وجها معروفا ضمن ما يعرف بقيادة او مجلس شورى حزب الدعوة، بينما كان من بين القيادات المعروفة شعبيا ابراهيم الجعفري وجواد ابو اسراء المالكي، الذي أصبح لاحقا نوري المالكي، وعلي الاديب وخضير الخزاعي، والملاحظ أن كل هؤلاء لم يكونوا رجال دين، اما عامر الكفيشي فكان يمثل حالة خاصة في قيادة الحزب، لانه رجل دين يرتدي الزي الديني ويضع العمامة البيضاء. وتقول سيرته إنه اكمل الماجستير والدكتوراه في الدراسات الاسلامية في لبنان، بعد أن تخرج اصلا من قسم الهندسة الكهربائية في بغداد قبيل هروبه إلى منفاه.
امتاز ظهور خطيب الحزب الحاكم بملامحه المتجهمة الخالية من سماحة الخطيب الديني من على شاشة حزب الدعوة جناح نوري المالكي، اي «قناة آفاق»، في برنامج ديني اسبوعي اسمه «حديث الجمعة»، ورغم أن سمة البرنامج من الاسم إلى صيغة التقديم المقاربة لصيغة خطبة الجمعة او المحاضرة الدينية إلى جو المنبر الذي يستعمله الخطباء، إلا اننا نكتشف بعد دقائق من بدء البرنامج انه برنامج توجيه سياسي بامتياز، حيث يتناول الشيخ الكفيشي محاور سياسية يناقشها في محاضرته، بصيغة أثارت لدى الكثيرين من متابعي البرنامج ذكريات نمط التوجيه السياسي البعثي، أيام نظام صدام حسين، لا فرق بين الاثنين سوى تغيير بسيط في الخطاب من الأمة العربية إلى الأمة الاسلامية، وتمجيد المذهب بدل تمجيد الحزب الحاكم، واعتبار رجال الحكم الحالي أطهارا انقياء، لا يأتيهم الباطل من بين ايديهم ولا من خلفهم، كما كان حال رجال العهد السابق وبطانة الرئيس، ولا يلتفت الشيخ إلى طوفان الفساد وفقدان الأمن والخدمات، الفساد الذي أكل الاخضر واليابس في البلد، لكنه يفعل ذلك احيانا، ولكن لمن يا ترى سيوجه اصبع الاتهام؟
بعد الافتتاح التقليدي للخطبة الدينية التي تبدأ بحمد الله والثناء علية والصلاة على محمد واله الطيبين الطاهرين، ينطلق لسان الشيخ الذرب في تفصيل الاتهامات وخلق تكتلات وهمية من أعداء العراق، عبر تشكيلة أو خلطة ينفرد هو بوصفها ويصب جام لعناته عليها، وهذه الكتلة العدوة يقف وراءها مخطط امريكي صهيوني يعمل على تحريك العملاء، الذين يحددهم سماحته بأنهم (المدنيّون والعلمانيّون والشيوعيّون واليساريّون والبعثيّون والقوميّون والملحدون)، وإن أتى على ذكر الفساد في مفاصل الدولة، فإنه يشير الى أن الامر لا يعدو افردا لا يمثلون الاسلام السياسي من بعيد أو قريب، والأدهى وصفه لهؤلاء الفاسدين بأنهم إسلاميون مزيفون، ليردفها بعبارة عجيبة «تسللوا إلى مواقع السلطة من خلال العلمانية، ومن خلال التيار المدني».
كما اطلق الشيخ الكفيشي مؤخرا (محاضرات يناير وفبراير الجاري) سلسلة من احاديث الجمعة المتصلة التي تناقش موضوعا هو «الحرب الناعمة» التي تشنها كل قوى العالم بقيادة امريكا والصهيونية العالمية، أو كما يسميها سماحته «الغزو الصليبي الصهيوني» لتدمر تجربة الإسلاميين في العراق، فيذكر مثلا ضمن ما يذكر أن غيرترود بيل، المعروفة بمس بيل التي لعبت دورا محوريا في تشكيل الدولة العراقية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، والتي كان لها حصة الاسد في تنصيب الامير فيصل بن الحسين ملكا على العراق، كانت جاسوسة بريطانية ويستشهد بفقرات قالتها في مذكراتها، وينسب الشيخ الكفيشي لمس بيل كذبا القول؛ «عندما قمنا باحتلال العراق رأينا التفاف الشعب حول المرجعية، وعلاقة الشباب برجال الدين، وتمسكهم بدينهم الاسلامي، وفكرنا كيف يمكن أن ننتصر على هذا الشعب، ولم نجد حلا إلا في إشاعة ونشر المدارس الحديثة، التي ستقوم بنشر العلوم الحديثة وستجعل الشباب ينفضون عن رجال الدين» ليضيف الكفيشي في محاضرته الغرائبية القول؛ لكن مراجعنا العظام كشفوا هذه المؤامرة، وحرموا عبر فتاواهم دخول المدارس الحديثة، لذلك امتنع الناس عنها، لكن المشكلة إنهم لم يقدموا للناس بديلا، فاضطر الناس لإدخال أولادهم للمدارس الحديثة بعد ذلك.
ليبدأ بعدها الشيخ الكفيشي هجوما على المدارس العصرية ومؤسسات التعليم الحديثة باعتبارها مؤامرة استعمارية، ويضرب مثلا بآية الله محسن الأمين ودوره في فتح مدارس وفق الرؤية الاسلامية، التي تمثل بديلا عن المدارس الحديثة التي يسعى لمنع الجيل الجديد من الدخول اليها، وهي أكاذيب أخرى رد عليها آية الله محمد حسين فضل الله في مقال قديم له تناول فيه سيرة السيد الامين فقال؛ «أما بصدد جهود السيد الامين في محاربة الامية والجهل في المنطقة الّتي حلّ فيها بدمشق، فقد تحدث عن ذلك السيد الامين قائلاً؛ «لقد وجدنا أن معظم الأطفال يبقون أمّيّين بدون تعليم، وبعضهم يتعلّمون القراءة والكتابة في بعض الكتاتيب على الطّراز القديم»، فأسّس مدرسة للذكور وأخرى للإناث، في وقت كان المجتمع التقليدي يستنكر تعليم الذّكور على المنهج الحديث. أمّا تعليم الإناث، فقد كان من المحرّمات التقليديّة، ولكنه خاض الثورة على ذلك كله»، ويذكر فضل الله أن السيد الامين بكل مكانته العلمية السامية كان يدرس طلبة الابتدائية دعما لنشر المدارس الحديثة وتشجيعا للاهالي والمدرسين، ويأتي الشيخ الكفيشي اليوم ليدعو إلى مقاطعة المدارس الحديثة لانها مؤامرة استعمارية.
ولا يفوت الشيخ في كل محاضرة أن يضيف اتهامات ويبين الخطة الشيطانية لامريكا التي تريد أن تدمر العراق عبر دعم أعدائه (العلمانيين والملحدين والشيوعيين) وهم بالطبع اعداء الاسلام، لأنه يعتبر نفسه المتحدث الحصري باسم الاسلام، فيلجأ إلى تسويق الاكاذيب للمساكين المستمعين لسماحة الشيخ الدكتور الذي يدعي أن المعلومات التي سيذكرها موجودة في مذكرات بول بريمر الحاكم الأمريكي لسلطة الائتلاف في العراق بعد 2003، وبإمكان من يشاء مراجعتها، ثم يذكر أن البريطانيين اقترحوا على بريمر ترشيح شيوعي في عملية توسيع مجلس الحكم، ولأن الشيخ الكفيشي جاهل بابسط تفاصيل تاريخ العراق الحديث، فانه يذكر: «أن الحاكم المدني بريمر استمع لنصيحة البريطانيين في شأن تعيين أحد الشيوعيين عضواً في مجلس الحكم، وأن الامريكيين تفاوضوا مع عزيز الحاج للقبول بالمنصب باعتباره رئيسا للحزب الشيوعي العراقي»، لكنهم بعد ذلك استقروا على شاب شيوعي ليكون في مجلس الحكم، لأن البريطانيين كانوا يدعمون الحزب الشيوعي منذ الاربعينيات، لتقوية الملحدين ليقفوا بوجه المد الاسلامي». والشيخ لا يعلم أن عزيز الحاج انشق عن الحزب الشيوعي منذ 1967، وانه ترك الحزب منذ 1969، وان من دخل مجلس الحكم لم يكن شابا شيوعيا انما هو سكرتير الحزب الشيوعي حميد مجيد، الذي كان حليف نضال لحزب الشيخ الكفيشي «حزب الدعوة» ضد نظام صدام حسين.
ولابد أن يتبادر إلى ذهن اي مشاهد يتابع نظريات المؤامرة التي يطلقها الشيخ الكفيشي بعد تغليفها بأكاذيبه الفاقعة، وهو يشن حملته الشعواء على الاحتلال الامريكي تساؤلا مفاده؛ إذن من كان وراء اعادتك انت وحزبك إلى العراق؟ ألم يبارك الامريكيون تسنم ثلاثة من قيادات حزبك «حزب الدعوة» لرئاسة الحكومة منذ 2005 حتى الان، ولو كان عداؤك للامريكيين حقيقيا هل كان بإمكان حزبك أن يحكم العراق؟ أم ستبقى محاضراتك ترفع شعار غوبلزالى ما شاء الله؟
كاتب عراقي
صادق الطائي