بدأت، أخيراً، المعركة النهائية للسيطرة على مدينة الرقة، عاصمة «دولة الخلافة» في سوريا. ويبدو من أحدث الأخبار، أنها مسألة أيام أو أسابيع قليلة قبل إعلان انتهاء الاحتلال الداعشي لها. فهناك أخبار تتحدث عن حصول اتفاق لانسحاب قوات داعش بلا قتال باتجاه البادية السورية جنوباً، بينها وبين «قوات سوريا الديمقراطية» التي تقود الهجوم على المدينة. وهذا ليس بالأمر المستبعد بالنظر إلى سوابق أخرى أخلت فيها داعش مواقعها حين تيقنت من الهزيمة المحتومة.
وعلى رغم ذلك يواصل طيران «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة قصفه التدميري للمدينة وجوارها المباشر مخلفاً مئات القتلى من المدنيين، منهم من كانوا في طريقهم إلى النزوح. سواء تعلق الأمر بالإدارة الأمريكية، أو بالقوات البرية المهاجمة، فكلاهما يسعى إلى «كسب معركة شرسة» حتى لو كان داعش في طريقه إلى الانسحاب بلا قتال. فكلما كبرت المعركة إعلامياً، ارتفع مردودها السياسي الذي هو بيت القصيد لدى كل الأطراف المتحاربة.
ويسعى النظام الكيماوي، أي إيران، إلى الحصول على حصته من «وليمة» الرقة الدموية، من خلال اندفاع ميليشياته لاستلام مدينة مسكنة من داعش على الطريق إلى مدينة الرقة. من المستبعد، في الشروط المنظورة، أن تسمح واشنطن بتقدم هذه القوات عميقاً باتجاه الرقة، وهي التي لم تتردد في ضربها، مرتين، في معركة أخرى، بعيدة جغرافياً، قرب معبر التنف الحدودي. فالواضح أن الأمريكيين قد رسموا حدود منطقة نفوذهم التي لن يسمحوا للإيرانيين وتابعه الكيماوي بالاقتراب منها. أما النظام ومشغِّلوه فما زالوا يحاولون اختبار الأمريكيين هنا وعينهم على دير الزور أكثر مما على الرقة نفسها. فما زال النظام يحتل قسماً من مدينة دير الزور، ويبدو أنه سيتمسك بوجوده هناك طمعاً في شراكة مع الأمريكيين في تحريرها من داعش، ما دام الغموض الأمريكي سارياً بصدد خططها بشأن تلك المدينة.
غير أن الوجه السياسي لمعركة الرقة يكاد يطغى على وجهها العسكري، ويتمحور حول السؤال الحارق: من سيسيطر على المدينة ويدير شؤونها بعد طرد داعش منها؟
المؤسف، من زاوية النظر السورية، أن تشتعل هذه المعركة بأدوات التنافر القومي ـ العرقي، في الوقت الذي لا تحسب فيه القوى المقررة أي حساب للسوريين أو لأهالي الرقة تحديداً. ففي الوقت الذي تسعى فيه قوات «حزب الاتحاد الديمقراطي» (الكردي) إلى توسيع رقعة سيطرتها الميدانية والقيام بالدور المطلوب منها أمريكياً في «محاربة الإرهاب» على أفضل وجه، طمعاً في تحالف استراتيجي مع الدولة العظمى الوحيدة، يتذمر رأي عام عربي معارض للنظام من هذا الدور الكردي، معترضاً على «احتلال كردي» محتمل للمدينة «العربية» إذا وافق الأمريكيون على ذلك. اعتراضاً أكثر حدة من معارضته لاحتلال داعش طوال السنوات السابقة، مع كل الفظائع التي ارتكبها هذا الأخير بحق الأهالي، فقط لأن «المحتل» الجديد المحتمل كردي لا عربي.
والحال أن الأمريكيين أكثر براغماتية من أن يتركوا إدارة المدينة ذات الغالبية العربية لقوات كردية، مهما بلغ اعتمادهم الميداني عليها، وبصرف النظر عن رؤاهم بعيدة المدى بشأن مستقبل الكيان السوري أو مستقبل علاقتهم مع المكون الكردي. ففي حسابات الأمريكيين بشأن الحروب الدائرة في سوريا، يحسب حساب للحساسيات التركية أكثر مما للحساسيات الأهلية في الرقة وغيرها من المناطق الشمالية القريبة من الحدود التركية.
ومن هذا المنظور يتوقع أن يعتمد الأمريكيون على إدارة مختلطة لمدينة الرقة بعد تحريرها من داعش، يغلب عليها المكون الأهلي العربي. فهذا مطلب تركي أيضاً إضافة إلى أن من شأنه نزع فتيل نزاعات محتملة بين العرب والكرد لا يريدها الأمريكيون. وتلوح في أفق الرقة فرصة حقيقية لتكون منطقة محررة ومحمية معاً من هجمات الطيران الأسدي أو الروسي، بخلاف ما كانت عليه الحال إبان تحريرها من النظام وقبل احتلالها من داعش. ومن المحتمل أن يتعمم نموذج الرقة هذا في المناطق الخاضعة للنفوذ الأمريكي بصورة عامة. هذا يعني نصف مساحة سوريا تقريباً. هل هذا جيد؟
يتوقف التقييم على زاوية النظر. فمن زاوية النظر الوطنية يبدو هذا تقسيماً فعلياً للأرض، وليس على أساس عرقي كما قد يعتبر البعض، بين مناطق نفوذ إحداها أمريكية. في حين تتوزع المناطق الأخرى بين الروس والأتراك والإيرانيين (ما لم تقرر أمريكا طرد هؤلاء الأخيرين من كل سوريا). ولن تكون الرقة ضمن منطقة النفوذ التركية التي قد تشمل، في مرحلة لاحقة، محافظة إدلب كما يتردد، بما في ذلك منطقة عفرين الكردية.
أما من زاوية نظر تعذر الوصول إلى حل سياسي مقبول ـ وهو ما يبدو حالياً وفي الأمد المنظور ـ واستمرار النزيف السوري بشراً وعمراناً، فقد يبدو تحرير الرقة تطوراً إيجابياً بوصفه تخفيفاً لآلام جزء من السوريين وتمكينهم من استعادة شيء من شروط الحياة الطبيعية.
ومن زاوية نظر موازين القوى في الصراع الدائر في سوريا، سيكون لتحرير الرقة أثر إيجابي على تعديل التوازنات القائمة لغير مصلحة الإيرانيين والروس وتابعهم السوري، من غير أن يصب بالمقابل في مصلحة تركيا. وميدانياً سيكون الرابح الأكبر هو حزب الاتحاد الديمقراطي.
وإذا تخلى الحزب المذكور عن ممارساته المشينة حيثما سيطرت قواته، سواء بحق الكرد أو العرب من السكان، فسيكون الفوز بمعركة الرقة لمصلحة القضية الكردية أيضاً. وإن كانت صفحة سوابقه لا تبشر بتحول مماثل.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي