عندما حصل «حزب الحرية النمساوي»، الذي ينتمي إلى أقصى اليمين، على 27 بالمئة من الأصوات في الانتخابات النيابية التي شهدتها النمسا في خريف سنة 1999، ثم اتفق مع «حزب الشعب النمساوي» المحافظ على تشكيل حكومة ائتلافية في أوائل العام التالي، قامت الدنيا ولم تقعد. وقد قرّر الاتحاد الأوروبي، الذي كان يضم آنذاك خمس عشرة دولة، فرض عقوبات على النمسا ترافقت مع شبه مقاطعة لحكومتها. أما أجهزة الإعلام الديمقراطية والليبرالية في شتى البلدان الغربية، فندّدت بالمحافظين النمساويين الذين آثروا أن يتحالفوا مع أقصى اليمين على تجديد ائتلافهم الحكومي مع الاشتراكيين الديمقراطيين.
في انتخابات عام 1999 كان محافظو «حزب الشعب» قد حصلوا على نسبة مماثلة لنسبة «حزب الحرية»، أما «الحزب الاشتراكي الديمقراطي» فقد جاء في المرتبة الأولى حاصلاً على ما يناهز ثلث الأصوات. وقد رأى المحافظون أن ائتلافهم السابق مع الاشتراكيين أدّى إلى فقدانهم قسماً من قاعدتهم الانتخابية لصالح أقصى اليمين، فرأوا أن يستعيدوا ما خسروه بعقد ائتلاف مع هذا الأخير. كانت رياح أوروبا في ذلك الحين تنفخ في أشرعة الاشتراكيين الديمقراطيين على حساب المحافظين. فقد كان الاشتراكيون يحكمون أهم الدول الأوروبية: ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وغيرها من الدول الأصغر.
هذا وقد عرف الاتحاد الأوروبي صدمة سياسية أولى في إيطاليا سنة 1994 مع وصول الشعبوي اليميني سيلفيو برلسكوني المتحالف مع أقصى اليمين إلى الحكم في شهر أيار/مايو، غير أنه دام على رأس الحكومة أقل من سنة. وقد جاءت معاملة النمسا الصغيرة بقساوة محاولةً لدرء خطر انتشار الوباء وتحوّل مشاركة أقصى اليمين في الحكم إلى أمر عادي. والحقيقة أن مناورة المحافظين النمساويين أفلحت، إذ أنهم تمكّنوا من سحب البساط من تحت أرجل «حزب الحرية» وإضعافه لمدة، وذلك لأنهم دخلوا في مزايدة يمينية معه فاسترجعوا ذلك القسم من الناخبين الذي كان قد هجرهم. لكن ذلك تمّ على حساب «وسطيتهم» المحافظة التقليدية. وقد تكررت الدورة ذاتها في النمسا في نهاية العام الماضي: ائتلاف المحافظين مع الاشتراكيين فسح مجالاً أمام «حزب الحرية» لينمو من جديد، الأمر الذي حثّ المحافظين على تشديد خطابهم اليميني من جديد وإعادة عقد ائتلاف حكومي مع أقصى اليمين، وسط صمت الاتحاد الأوروبي هذه المرة.
وفي قصة النمسا سرّ التحوّلات الكبرى التي تشهدها منذ سنوات الحياة السياسية في الديمقراطيات الليبرالية الغربية. فقد بدأ الأمر بانزلاق المشهد السياسي الغربي برمّته نحو اليمين مع استكمال حلول النهج النيوليبرالي محل نهج الإصلاح الاجتماعي الذي ساد في الدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. حصل ذلك المسار بتلازم مع صعود الاتحاد السوفييتي بعد الحرب ومن ثم أفوله التدريحي بدءًا من السبعينيات وحتى انهياره ومنظومته في بداية التسعينيات. ثم ركبت الاشتراكية الديمقراطية الموجة النيوليبرالية، بالرغم من أنها أتت إلى السلطة في تلك المرحلة بفضل اختيارها من قبل ناخبين أرادوا سدّ الطريق أمام تلك الموجة دفاعاً عن المكاسب الاجتماعية التي تحقّقت في العقود السابقة. ولمّا تبيّن أن الاشتراكيين الديمقراطيين قد اعتنقوا الوصفات النيوليبرالية التي كان اليمين المحافظ بطلَها، إلى حدّ عقدهم في أكثر من بلد، ولاسيما ألمانيا، ائتلافاً مع المحافظين، حاد عنهم الكثير من ناخبيهم. وقد فضّل بعضهم الأصل على النسخة عنه بينما بحث آخرون عن معارضة جذرية للأوضاع السائدة بالتصويت لأقصى اليمين.
هكذا، بدأ أفول الاشتراكية الديمقراطية الطويل الذي أوصلها إلى الحضيض الذي بلغته حالياً في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، متلازماً مع صعود أقصى اليمين. أما اليمين المحافظ التقليدي فيشهد بدوره أفولاً بسبب انتقاله التدريجي إلى مواقع أقصى اليمين، بما حدا قسماً متعاظماً من ناخبيه إلى تفضيل التصويت للأصل. ولا تختلف الصورة في الولايات المتحدة مع احتلال الحزب الديمقراطي فيها موقعاً مشابهاً لذلك الذي يحتله الاشتراكيون الديمقراطيون في أوروبا. وكان الحزب الديمقراطي قد عاد إلى الحكم برئاسة بيل كلينتون في عام 1993 بعد إثنتي عشرة سنة أمضاها في المعارضة إزاء الهجمة اليمينية النيوليبرالية التي دشّنها رونالد ريغن. إلا أنه ما لبث أن تبيّن أن كلينتون تكيّف مع تلك الهجمة واستكملها بدل دحرها وإعادة ربط ما فكّته، تماماً مثلما استكمل توني بلير على رأس «حزب العمّال» البريطاني الهجمة النيوليبرالية التي دشّنتها مارغريت ثاتشر واستكمل غرهارد شرودر على رأس الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان التغييرات النيوليبرالية عينها في بلاده.
وقد حاد قسم كبير من الناخبين الأمريكيين عن الديمقراطيين وجرى انتخاب الجمهوري اليميني، جورج دبليو بوش، بعد كلينتون. عندها برز نجم باراك أوباما وقد عقد عليه الكثيرون آمالاً كبرى لسمعته التقدّمية التي عزّزها كونه ينتمي إلى الأقلية السوداء المضطهَدة. وقد تكرّرت الحكاية ذاتها: خيّب أوباما آمال قسم كبير من الذين صوّتوا له، فلم يصوّتوا لمرشحة الحزب الديمقراطي بعده، هيلاري كلينتون، لاسيما أن تجربة زوجها زادت من الحذر تجاهها. في هذه الأثناء كان الحزب الجمهوري يستكمل انزلاقه نحو اليمين المتشدّد بفعل تنافس أعضائه الفاعلين على كسب الأصوات التي تتأثّر بالشعبويين اليمينيين. فوصل دونالد ترامب إلى الحكم، وهو أكثر الرؤساء يمينية في تاريخ الولايات المتحدة بما يُعدّ هزيمة للجناح التقليدي «الوسطي» من حزب الجمهوريين.
وثمة برهان آخر عن القاعدة المذكورة، تشكّله الحالتان اللتان رأينا فيهما اليسار التقليدي يستعيد دوره كيسار فعلي، بل يجذّر هذا الدور بحيث يستعيد الموقع السياسي الذي احتلّه في المرحلة الأكثر جذرية من تاريخه: حالتا جيريمي كوربين في حزب العمال البريطاني وبيرني ساندرز في الحزب الديمقراطي الأمريكي. فتحت قيادة الأول، استعاد حزب العمّال حتى الآن قسماً كبيراً من المساحة الانتخابية التي كان قد فقدها، إلى حدّ أن استطلاعات الرأي تتنبأ بفوزه على حزب المحافظين لو أُجريت انتخابات برلمانية اليوم. وكانت الاستطلاعات في عام 2016 تتنبّأ بفوز ساندرز على ترامب بشوط بعيد لو تواجها في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
والعبرة واضحة تماماً: إن انزلاق المجتمعات الغربية نحو أقصى اليمين الذي يروّج للعنصرية ويحوّل المهاجرين واللاجئين إلى أكباش محرقة للأزمة الاجتماعية، ذلك الانزلاق لن ينتهي سوى بظهور وصعود قوى يسارية تنادي بوضع حد للهجمة النيوليبرالية ولسياسات التقشّف الملازمة لها، وتدعو إلى إعادة احياء برنامج الاصلاحات الاجتماعية التقدمية التي كان اليسار بطلَها عندما كان وفياً لمبادئه.
٭ كاتب وأكاديمي من لبنان
جلبير الأشقر
وان لا أصنف شخصي باليميني. ولكن عن اي يسار يتكلم الكاتب؟؟؟؟ عالم هذه الفترة هو العالم الذي وجد منذ زمن بعيد، واعني هو عالم راءسمالي ، وقد تكون ثورة اكتوبر الذي اختطفها لينين وأيدلوجيته ونظامه من قوى ديمقراطيه ووطنيه تقدميه ، هو من أعطى قبلة الحياة لنظام إمبريالي كان له القدره على التأقلم ، وربما كان هناك تغير أفضل لو قامت الثوره التى تصورها ماركس في عقر الدول الامبرياليه، ، واذا عدنا للموضوع ، هل هذا يعني انتظار يسار وهمي في الدول الاوربيه خصوصا ، لتحريرنا من خرابنا وأوهامنا؟؟؟بَعضُنَا ينتظر الانتخابات الامريكيه، واخرون جيفارا ولينين اخر ، ونهاية الامر ، ماحك جلدك غير ظفرك.