في ظل تداعي الخلافة العباسية وانحسارها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، أخذت تتولد لدى عموم المسلمين حاجة ماسة بالانتماء إلى شيء يمكن أن يلبي الحاجات الدينية والاجتماعية لديهم. وفي ظل هذه الظروف أخذت تنتشر الطرق الصوفية وتقيم الزوايا لسد حاجات المجتمع من عبادة وتعليم وعلاج، كما لعبت الطرق الصوفية دور الوسيط بين السكان والحكام الجدد الذين أخذوا يتعاقبون على حكم البلاد. كما ساهمت لاحقاً الغزوات الصليبية التي أخذت تشهدها ثغور الدولة الإسلامية في بلاد الشام في ازدياد حضور التصوف في بلاد الشام، خاصة أن المتصوفة لم يشاركوا في الجهاد فحسب، بل أثروا أيضاً على الرأي العام وفي دفع بعض الأمراء المتخاذلين للقتال ضد الصليبيين. وبحلول القرن السادس عشر، كانت الصوفية تتحول إلى عمود مهم من أعمدة المجتمع العثماني، خاصة أنها استطاعت العمل على إقامة علاقات أكثر تكاملية مع الروابط المهنية الحضرية، ومع بعض التنظيمات العسكرية (كما هو الحال مع جنود الإنكشارية العثمانيين).
ولعل من أهم الطرق والمدارس الصوفية التي انتقل تأثيرها إلى بلاد الشام وباقي الأقاليم الإسلامية، وما تزال حية إلى يومنا هذا يمكن أن نشير هنا إلى الطريقة القادرية (الجيلانية) التي أسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني (ت561هـ/ 1165م) في بغداد، وامتد تأثيرها في وقت مبكر إلى بلاد الشام عن طريق أبي عبد الله محمد البطائحي الذي استوطن بعلبك. ومن فروع القادرية في دمشق الطريقة الداودية، أنشأها أبو بكر بن داود (ت806/ 1403) وأسس الزاوية الداودية بسفح جبل قاسيون. والطريقة الصمادية، أنشأها محمد الصمادي (997،1588) ولها زاوية في محلة الشاغور.
كما عرفت بلاد الشام الطريقة الشاذلية التي أسسها الشيخ علي أبو الحسن الشاذلي (ت656هـ/1258م) انطلاقاً من شاذلة في تونس، وقد عرف عن الطريقة الشاذلية بأنها أول من ساهم في إدخال القهوة إلى بلاد الشام، الأمر الذي أثار خلافاً فقهياً (حول تحريم القهوة) لمدة ثلاثة قرون، وهو خلاف كان يعكس في أحد أوجهه مدى انتشار ونفوذ الرؤية الصوفية داخل بلاد الشام. وكذلك يمكن أن نشير في هذا السياق إلى الطريقة السعدية التي عادة ما تنسب إلى الطريقة الرفاعية، إلا أن الدراسات الجديدة تؤكد أن هذه الطريقة أخذت بالتشكل في بلاد الشام على يد الشيخ سعد الدين الجباوي (نسبة إلى جبا الحولان تمييزاً لها عن جبا حوران)، وبناء على هذه المعطيات الجديدة، فإن ما يميز هذه الطريقة عن الطرق السابقة، أنها تعد الطريقة الوحيدة التي تشكلت في بلاد الشام ومن ثم لاحقاً شهدت حضوراً وانتشاراً خارج الحياة المحلية لبلاد لشام (تركيا ومنها إلى البلقان) بعكس الطرق السابقة التي جاءت من خارج بلاد الشام.
وفيما يتعلق بالشيخ سعد الدين الجباوي، ينقل المؤرخ نجم الدين الغزي الدمشقي في كتابه «الكواكب السائرة في أعيان المئة العاشرة» حكاية كانت قد شاعت عن الشيخ حسن بين أتباعه تقول إنه «كان من قطاع الطرق ثم فتح الله تعالى عليه وكوشف بالنبي» وحول علاقته بالطرق الأخرى، إذ أن هناك من نسبه إلى أخيه الأكبر الشيخ مزيد لينتهي إلى أن «الشيخ مزيد أخذ الطريقة الرفاعية عن الشيخ أحمد الرفاعي»، لتكون بذلك الطريقة السعدية متفرعة عن الرفاعية.
غير أن الكتاب الصادر في مجلدين «الطريقة السعدية في بلاد الشام» للباحث السوري محمد غازي حسين آغا (يعود في نسبه إلى السادة السعديين في مدينة حمص) الذي كتبه استناداً إلى المصادر السعدية ينتهي إلى رؤية مغايرة للرؤية السابقة حول جذور الطريقة السعدية. ووفقاً للكاتب يعود نسب والد الشيخ سعد الدين (يونس الحسيني) إلى الأشراف الأدارسة في المغرب، وقد استقر لاحقاً في مكة ووجه من هناك بعض أولاده ومن تبعهم للجهاد ضد الفرنجة في بلاد الشام.
وبناء على ذلك، اختار الشيخ سعد الدين خربة جبا ليبني فيها رباطاً ومسجداً وليدفن هناك. وقد قام لاحقاً حفيده الشيخ حسن السعدي الجباوي بالانتقال إلى دمشق وحول تربة غير مكتملة لنائب الشام المملوكي إينال الجمكي في حي الميدان إلى أول زاوية للطريقة السعدية. وتوفي هناك في التاريخ الذي حدده المؤرخ الدمشقي المعاصر ابن طولون (914 هـ ـ 1508م) أي قبيل سنوات قليلة من دخول العثمانيين لدمشق.
وقد قام حفيد آخر للشيخ سعد الدين يحمل الاسم نفسه (الشيخ حسن) ببناء مسجد الذبان في نهاية ضاحية الشاغور جنوب دمشق في جوار مقبرة باب الصغير، وقد تحول هذا المسجد إلى زاوية للطريقة السعدية، وبذلك أصبحت الثانية من حيث الأقدمية والأهمية بالنسبة للطريقة السعدية في دمشق. وقد هدمت هذه الزاوية التاريخية لأجل شق طريق جديد في 1972 كما ينقل حسين آغا، ونقل الضريح الشيخ إلى مكان مجاور في محلة السويقة، ولا يزال هناك إلى الآن.
وبعد دخول العثمانيين لدمشق، أخذت الطريقة تنتشر إلى تركيا المجاورة، ومنها إلى البلقان، لتكون بذلك أول طريقة تخرج من بلاد الشام باتجاه الولايات العثمانية. وفيما يتعلق بانتشار الطريقة في البلقان يرى المؤرخ الكوسوفي/السوري محمد الأرناؤوط في دراسته «انتقال الطريقة السعدية من بلاد الشام إلى بلاد البلقان وحضورها هناك» أن انتقال وانتشار الطريقة يرتبط بشخصية مركزية (الشيخ سليمان بن حسين) والتي اشتهرت باسم «عاجز بابا» (1637-1728). وتقول الرواية التاريخية أن الشيخ سليمان قد ذهب إلى إسطنبول، وأخذ إجازة الخلافة بالطريقة من الشيخ إبراهيم الشامي، الذي يوحي لقبه أنه قد جاء لتوه من دمشق التي كانت تعرف عند الأتراك باسم «شام» أو «شام شريف». أما الكرامة المروية عنه وعن شيخه الذي أخذ الإجازة منه فتقول أن خليفة الطريقة السعدية الشيخ إبراهيم قد جاء إلى إسطنبول بالصدفة في الفترة التي كان فيها سليمان وصديقه عبد السلام يعيشان معاً في إسطنبول.
وكان الشيخ إبراهيم يبدو عليه الفقر ويعيش على الصدقات ونام الليل في جامع آيا صوفيا. وفي أحد الأيام مرضت ابنة السلطان وعجز الأطباء عن علاجها فأخبر أحد رجال الحاشية السلطان عن الشيخ إبراهيم فأحضره في الحال وتمكن من علاجها. وقد فرح السلطان كثيراً بشفاء ابنته وقدم هدية كبيرة للشيخ إبراهيم ولكنه رفض ذلك. ولما سمع سليمان بهذا الأمر رغب مع صديقه عبد السلام بزيارة الشيخ إبراهيم في جامع آيا صوفيا. وبعد أن وجداه سألهما عما يريدان فأخبراه أنهما يريدان أن يكونا من مريديه، فقال لهما الشيخ أنهما يبدوان من الأغنياء ولا يمكن أن يصبحا مريدين لفقير مثله. ولما أصرا قال لهما «إذا أردتما تعالا عندي في الفجر واستعدا لطريق طويل». وفي فجر اليوم التالي استعد سليمان وعبد السلام ووضعا ما معهما من ليرات ذهبية في أحزمتهما، فأخذهما إلى شاطئ البحر وألقى هناك الجلد الجاف الذي يتدثر به في الماء وطلب منهم الصعود معه، ولكن الجلد أخذ يغرق معهم فطلب الشيخ إبراهيم منهما إلقاء الثعبانين (الليرات الذهبية) التي معهما ليتمكنا من النجاة. ومع إلقاء الليرات استوى الجلد وأصبحا مريدين له. حينها طلب الشيخ من سليمان أن يقوم بنشر الطريقة في البلقان.
وبالعودة إلى التاريخ تقول الروايات – وفقاً لأرناؤوط – إن الشيخ سليمان توجه إلى بلاده مع أولاده الثلاثة (دانيال ولطف الله وعبد الوهاب) وتوقف في طريق عودته في مدينة جاكوفا في كوسوفا، التي كانت تنمو بسرعة آنذاك كمركز تجاري وإسلامي، وهناك حظي بدعم من مراد آغا بن آدم باشا متصرف شكودرا المجاورة، الذي بنى له التكية السعدية ثم المدرسة الكبرى الأولى في إطار وقفه الذي وثقه فيه 1732. وقد اشتهرت هذه التكية وما تزال باسم «التكية الكبرى» أو التكية الأم لكون الطريقة السعدية قد انطلقت منها لتنتشر في المناطق المجاورة، وبالتحديد في ألبانيا إذ ينقل الأرناؤوط عن الشيخ رجب في كتابه «التصوف الإسلامي والبكتاشية» أن السعدية قد أصبحت من الطرق المعروفة في ألبانيا، فقد انتشرت تكاياها في لسكوفيكو وتبلينا وجيروكاسترا وتيرانا وتروبويا. أما فيما يتعلق بصربيا، فانتشرت الطريقة السعدية في بلغراد والمناطق الجنوبية الغربية ذات الغالبية الألبانية، وبالتحديد في نيش وفرانيه وليسكوفاتس. وفيما يتعلق ببلغراد، التي كانت تسمى «دمشق الأوروبية» حتى مطلع القرن العشرين، فقد قام أحد اتباع الطريقة خلال خدمته في بلغراد (الدفترار حسني آغا) بناء تكية في 1783 للشيخ مصطفى. كما قام الشيخ محمد خراباتي ابن أحمد الذي أخذ إجازة بالطريقة من «المعلم الثاني» الشيخ سلمان بإنشاء تكية للطريقة السعدية في نيش وبقي على رأسها إلى أن توفي في 1755م، وأخذ الإجازة بالخلافة عنه الشيخ علي الذي أسس تكية للطريقة السعدية في لسكوفاتس التي ساهمت في نشر الطريقة السعدية في المناطق المجاورة.
غير أن الحروب الروسية العثمانية 1877-1878 وما أدت إليه من انحسار الوجود العثماني في صربيا، دفع بالكثير من المسلمين في بلغراد ونيش وفرانيه وليسكوفاتس إلى الهجرة نحو الولايات المجاورة التي بقيت ضمن الدولة العثمانية، إذ عرفوا هناك باسم المهاجرين.
وباستثناء ألبانيا التي أعلنت استقلالها في أواخر 1912 واستقرت حدودها الحالية في 1920 بعد انضمامها إلى عصبة الأمم آنذاك، يرى أرناؤوط أن المسلمين في المناطق الأخرى المذكورة (كوسوفا ومقدونيا وصربيا والبوسنة) أصبحوا في أواخر 1918 ضمن الدولة الجديدة التي نشأت آنذاك (مملكة يوغوسلافيا) وقد تميزت الدولة الجديدة منذ سنواتها الأولى بسياسة ترهيب ضد المسلمين وهو ما أدى إلى هجرة مئات الألوف من المسلمين إلى تركيا خلال مرحلة ما بين الحربين وتدمير وإغلاق بعض الجوامع والتكايا نتيجة لذلك. وكان للتطور السياسي الآخر (وصول الأحزاب الشيوعية إلى الحكم) أثره الكبير على السعديين، سواء في يوغوسلافيا أو ألبانيا. ففي ألبانيا قام النظام الشيوعي باتخاذ موقف معاد للدين، ونتيجة لذلك قام بإغلاق الجوامع والتكايا، كما عمل على إرسال كل رجال الدين إلى «معسكرات العمل» لتعلم مهن أخرى، واستمرت هذه الحالة بحسب الأرناؤوط إلى نهاية 1990 إذ اجتاحت التحولات الديمقراطية أوروبا الشرقية، وأعيد بالتدريج فتح الجوامع والتكايا في ألبانيا بما في ذلك السعدية منها. وقد تتوج هذا الأمر في تيرانا خلال شهر نيسان/إبريل 1994 بافتتاح «المؤتمر الوطني للطرق العلية» الذي هدف إلى إرساء التعاون بين الطرق الموجودة (البكتاشية والخلوتية والقادرية والسعدية الخ) خلال المرحلة الجديدة التي أخذت تمر بها ألبانيا.
٭ كاتب سوري
محمد تركي الربيعو