هناك كثير جدا من الشخصيات التي عرفتها في الحياة. يتقدم العمروتزداد الشخصيات. وإذا أضفت إليها ما قرأته من روايات أو حكايات أو أساطير سأجد نفسي محاصرا أو محاطا بكم هائل لا يمكن تذكره كله بسهولة. لكن بعيدا عن الأدب والقراءات فأجمل الشخصيات التي عرفتها كانوا نوعين. نوع من الناس العاديين الذين يتعاملون مع الحياة باعتبارها حقيقة نهائية يجب الصبر عليها وعدم القنوط من أحوالها، فما هو مقدر لك ستراه والصبر مفتاح الفرج.
هؤلاء كانوا جميعا فقراء راضين بفقرهم ولا يتسع العالم حولهم إلا بقدر سماعهم للراديو الذي يحبونه جدا قبل دخول التليفزيون مصر أو بعده حين كان غالي الثمن. في عز الصراع مع إسرائيل في الخمسينيات والستينيات كنت تسمع الواحد منهم يسألك هي إسرائيل دي فين؟ تضحك وتقول له فلسطين.
يقول لك صح أنا سمعت عن فلسطين لأن كان فيه زمان برتقال يافاوي يأتي إلى مصر. ويسألك صحيح لماذا لم يعد يأتي البرتقال اليافاوي؟ هل عبد الناصر منع استيراده مثلما منع استيراد السلمون؟ فتقول له الآن لا توجد فلسطين لأن إسرائيل اغتصبت الأرض ويافا صارت تابعة لإسرائيل. فيقول لك مندهشا: ربنا يخرب بيوتهم حتي البرتقال أخذوه! هؤلاء كانوا مثلهم مثل المدرسة زمان أحد أسباب اندفاعي إلى الأدب، ومن بين الأدب اخترت فن الحكي، الرواية، رغم أني كنت طالبا نجيبا جدا في الرياضيات ودرجاتي في الجبر والميكانيكا وحساب المثلثات والتفاضل والتكامل كانت دائما نهائية أو أقل بدرجة أو درجتين على الأكثر . أجل، كنت قبل اختراع الآلة الحاسبة أضرب ثلاثة أرقام في ثلاثة أرقام في عقلي قبل أن ينتهي منها زملائي الذين يستخدمون الورقة والقلم. ياإلهي! أين ذهبت هذه القدرات؟ لعلها الأرقام هي التي ضاعت!
من هؤلاء البشر بائع في محل بقالة اسمه عم أحمد، كان يحكي لنا حكاية الحرب العالمية الثانية فيقول إن كل أسلحة هتلر وموسيليني في الصحراء الغربية لم يأت بها من ألمانيا أو إيطاليا. إنما كان القائد روميل يجلس أمام غرفة القيادة في مرسي مطروح والجنود حوله ويضع أمامه برميلا مملوءا بالماء ينفخ فيه فتخرج منه المدافع. ينفخ أكثر فتخرج الدبابات والطائرات يأخذها الجنود ويجرون إلى الميدان. نضحك ونسأله: طيب والإنجليز كانوا بيعملوا إيه؟ يقول كان مونتوجمري القائد الإنجليزي يضع أمامه برميلا في مدينة برج العرب حيث مقر القيادة وينفخ فيه فتخرج الأسلحة وتجري بها الجنود إلى العلمين تقابل روميل قبل أن يصل إلى الإسكندرية.
هكذا كانت معركة العلمين الكبرى التي تغيرت بها الحرب العالمية الثانية في كل الدنيا إذ بعدها لم ينتصر المحور في أي معركة في العالم، ولم ينهزم الحلفاء في أي معركة أمام المحور، فكانت علامة فارقة في الحرب. وهكذا حين وقفت يوما أمام مقابر الحلفاء في العلمين ملأت روحي البهجة والدهشة وتذكرت عم أحمد ومشيت بين المقابر أقرأ أسماء الضحايا من كل الدنيا، من آسيا وافريقيا وأوروبا، وأضحك. وفي الوقت نفسه كانت معركة العلمين قد تملكت من روحي منذ الصغر فصارت رواية «لا أحد ينام في الإسكندرية «عن الحرب العالمية الثانية التي لم أرها أو أعشها. وغير عم أحمد كان هناك كثيرون جدا لا يمكن إحصاؤهم منهم موظف في حوالي الخمسين كان يلجأ إليه الغرباء في المنطقة التي نسنكن فيها في كرموز ليكتب لهم خطابات إلى أهاليهم فهم لا يعرفون الكتابة. كان بعد أن ينتهي من كتابة خطاب ينظر إلينا نحن الذين نلعب كرة القدم في الشارع وتوقفنا عن اللعب لنتفرج عليه وهو يكتب الخطاب، يقول لنا: لا أعرف لماذا يرسلون الخطابات إلى أهلهم في الريف فيجعلونني أعرف كل أسرارهم، والغريب إنهم لا يجعلونني أقرأ لهم الخطابات الواردة ردا على خطاباتهم. إنهم مجانين يراسلون شخصيات وهمية.
ذات مرة قرر أن يخرج من هذا العالم الوهمي فجلس جواره صعيدي يمليه خطابا لأبيه. كان الصعيدي يقول «أبي الغالي» وهو يكتب «ابي الحمار». يقول الصعيدي «وحشتوني جدا أنت وأمي واخواتي» وهو يكتب «ربنا ياخدكم كلكم انت وأمي واخواتي» وهكذا. وضع الخطاب في المظروف وكتب عليه العنوان وقال لصاحبه أن يرسله. لم نعرف ما كتب إلا بعد أسبوعين حين حضر أهل الصعيدي وأوسعوه ضربا في الشارع وكادوا يقتلونه. اختفى الموظف من المنطقة ليظهر بعد شهر. كانت الأمور قد هدأت وراح يعتذر للصعيدي ويقبل رأسه ويحتضنه ولما سألناه نحن الصبية لماذا فعلت ذلك؟ قال: كنت لا أصدق أن هؤلاء الناس يرسلون خطابات لشخصيات حقيقية. الآن صدقت. مسألة مخاطبة الفراغ هذه مشت في كثير من أعمالي. فيها جانبها الفلسفي الوجودي الذي لم أكن أعرفه وكان هو يعرفه دون قراءة في الفلسفة. هذان مثالان على الهامشيين العاديين، وهناك مئات منهم يحتاجون كتابا. لكن سأعطي مثالا آخر علي الناس غير العاديين وغير المتوافقين مع المجتمع، منهم تلميذ قابلته في السنة الأولى الإعدادية عام 1959.
جعلتني الصدفة جواره في «التختة» وفوجئت، ومدرس اللغة العربية الشيخ الوقور يتحدث، به وهو يمارس العادة السرية. أصابني الرعب ورآه هو في عيني فأخرج «مطواة» صغيرة من جيبه وقال لي سأقتلك لو تحدثت واستمر يمارس العادة السرية. طبعا فشل هذا الولد وفصل من المدرسة لأسباب أخرى على رأسها إنه كان يرسب فهو لا يجيب على الأسئلة ولا يحضر الامتحان ويقول لي: ما معنى الامتحان؟ لقد شرحوا لنا الدروس فلماذا يسألوننا فيها؟ نحن أحرار يا أخي. صار بعد ذلك زعيم عصابة للسرقة من الميناء وتجارة المخدرات وقتله البوليس عام 1973 ورأيت جنازته. عرفت أن من قتله هو مساعده الذي سماه الناس بعد ذلك «بدران» على اسم بدران الذي خان أدهم الشرقاوي. بعد خمس سنين من وفاته كنت أكتب في رواية فقفز فيها لكن الرواية لم تكن تحتمله. قررت استبعاده لكنه كان يقفز إلى الرواية في كل صفحة فتوقفت عن كتابة الرواية نفسها! الآن وبعد حوالي أربعين سنة أكتب عنه في روايتي الجديدة التي لم أنته منها بعد. أعيش معه أياما لا تنسى من الجنون والمغامرات وهو يعاتبني دائما قائلا: «كتبت عني صفحة أو اتنين وتوقفت. لا أنت أخرجتني من الموت ولا تركتني في مقبرتي. كفر عن ذنوبك الآن!» نسيت كل جرائمه وجعلته كما قال لماذا يمتحنوننا في أشياء شرحوها لنا. نحن ولدنا أحرارا يا أخي. مثل هذا الخارج عن المألوف كثير وإن كانوا أقل من البسطاء العاديين الراضين بالقضاء والقدر. لكن كلهم كانوا يبنون لأنفسهم عالما من خيال يعينهم على هذا العالم القاتل.
كاتب وروائي مصري
إبراهيم عبد المجيد