العبقرية الشعبية

حجم الخط
0

■ غادرنا عبد الرحمن الأبنودي بعد أن أنجز ما وعد. دواوين شعرية رائعة، وتسجيل «السيرة الهلالية» بصوت جابر أبو حسين، وروايته، وتحويلها إلى نص مقروء في خمسة مجلدات. لست أدري هل اهتمامه بالثقافة الشعبية هو الذي قاده إلى أن يكون شاعرا؟ أم أن مراودته للشعر هي التي قادته للاضطلاع بعمل يقوم به الأكاديمي، وهو يفكر في لملمة أطراف السيرة الهلالية من خلال أشهر رواتها؟ وفي الحالتين معا، أعتبر العبقرية الشعبية وراء أي إبداع عظيم.
تعرفت على الخال الأبنودي وأنا طالب في السبعينيات. اقتنيت ديوانه «أحمد إسماعين»، وكان أول ما قرأت له، فأعجبت بعوالمه وعمقها الشعبي وشفافية لغته الشعرية، وأضفته إلى لائحة شعرائي المفضلين آنذاك. كان شعراء مصر بالعامية يفرضون وجودهم على القارئ العربي. فؤاد نجم تعرفت الجامعة المغربية على قصائده المسجلة والمغناة بصوت الشيخ إمام، وكنت أعرف صلاح جاهين، وقبله بيرم التونسي الذي كانت كل دواوينه في مكتبتي في فاس.
أحببت الشعر، وكان ما يزال وقتها ديوان العرب؟ وكان شعراء العامية في مصر، وبالأخص بيرم، والأبنودي ونجم مفضلين عندي. وكنت دائما أتساءل: لماذا لم ينبغ في مصر شعراء معاصرون على شاكلة الروائيين والقاصين الذين أغنوا المكتبة السردية العربية، وقدموا علامات باهرة، بينما نجدها في العامية، تقدم شعراء متميزين؟ كنت أرى الشعر والتشكيل في العراق، والرواية في مصر، والمسرح في الشام، ولكل عالم مميزات. وكان جوابي في ما يتعلق بمصر يكمن في كلمة واحدة: الحدوتة. الشعب المصري راو بالفطرة. ومن لا شيء يخلق حكاية، وفي كل مرة يرويها بصورة مختلفة. والحدوتة إبداع شعبي بامتياز، وفيه تتجلى العبقرية الشعبية.
إن هذه العبقرية، لأنها وليدة تراث عتيق، تعبير عن صفاء الإنسان وطبيعته الأولى في مختلف أوضاعه وحالاته وتناقضاته. وكلما كانت «الثقافة»، غير متصلة بـ»الطبيعة» في أبعادها الإنسانية تحولت إلى التكلف والاصطناع. إن الذين يفرقون بين الطبيعة والثقافة، ويضعون الحواجز بينهما، هم الذين باعدوا بين الإنسان وفطرته، وحولوه إلى رقم. وهم الذين يميزون بين الثقافة العالمة والشعبية، وبين البادية والمدينة. الثقافة «تثقيف» للطبيعة لا إلغاء لها. وفي هذه العملية ارتقاء بالطبيعة إلى مستوى أعلى. ألم يفْدِ المتنبي ظباء بادية ما عرفن بها «مضغ» الكلام، ولا «صبغ» الحواجيب؟
ليس «مضغ الكلام» سوى التكلف. كما أن «صبغ الحواجب» ليس غير التصنع. وكلاهما نقيض الإبداع. وتكمن العبقرية الشعبية في كونها إبداعا إنسانيا حقيقيا لا علاقة له بالتصنع أو التكلف. وكل الكتاب والفنانين الذين أحببتهم وأتفاعل أكثر مع إبداعاتهم ينهلون باستمرار من معين الثقافة الشعبية. هل أذكر بورخيس وكويللو؟ ومن القدماء رابلي وسيرفانتيس؟ حتى إيطالو كالفينو كنت أتساءل عن سر عبقريته، وعندما علمت بعد اطلاعي على جمعه الحكايات الشعبية الإيطالية في بداية حياته الأدبية، انكشف الستر، وزال السؤال.
لا غرابة في أن تقدم لنا مصر شعراء العامية قامات سامقة. إنهم ارتبطوا بثقافة الشعب وخيالاته ولغته. والخال واحد من تلك العلامات التي اتصلت بالثقافة الشعبية فقدمت نصوصا ستظل تحتفظ بسر عبقريتها الطبيعية. وكلما ابتعد المبدع والفنان عن «الأصول» الثقافية الشعبية كان كالمنبتّ لا ظهرا أبقى، ولا أرضا قطع. ولا تجدي الموهبة ولا الثقافة إذا لم تتأسسا على «الطبيعة» الكامنة في إنسانية الإنسان. وأعتبر من عوامل تراجع الإبداع الأدبي العربي، وعدم قدرته على فرض وجوده عالميا، انفصاله عن ثقافته الشعبية.
الثقافة الشعبية العربية غنية ومتنوعة وذات تاريخ، ولقد حالت الرؤية المثقفية دون الاهتمام بها والبحث فيها على الوجه الأمثل. في زياراتي الأولى إلى القاهرة، كنت مغرما بجمع ما أعثر عليه من تسجيلات عتيقة للأغاني الشعبية. وتوفرت لي من ذلك بعض أجزاء من الهلالية برواية جابر أبو حسين، قبل أن يصدرها الأبنودي في كتاب، وقبل أن تتوفر لدي كاملة بعد الجلسة الرائعة مع الأبنودي في بيته، وكان معنا الشاعر محمد بنيس. كما حصلت على رواية علي جرمون للسيرة نفسها في حوالي ثلاثين شريطا. وعند المقارنة بين الرواية والأداء لدى كل منهما نجد العطاء الزاخر للفنان الشعبي الذي لا نلتفت إليه. وقبل عرض مسرحية «شفيقة ومتولي»، كان الراوي حنفي ناصف يصدح بالقصة على الربابة، وكنت أتابع معه بعض المقاطع التي لا يمكن أن تنسى. فتعجب جابر عصفور، فسألته عن الراوي ولم يكن يعرفه. فقلت له، ما قاله المستشرق السوفييتي كوديلين لشاعر موريتاني: إن عندكم كنــوزا حقيقية، لكنكم لا تأبهون بها؟
لقد ساهمت الرؤية المثقفية في استهجان الثقافة الشعبية. كما لعبت النظرة الأكاديمية في بعض الأقطار العربية على إهمالها بتخوفات لا معنى لها. ولقد انعكست هذه النظرة وتلك الرؤية على الواقع، فأقمنا حواجز بين المدينة والبادية، وظلت إحداهما دليلا على التقدم، بينما الأخرى علامة على التخلف، وبدون تجاوز هذا التمايز، سيظل إبداعنا بلا أصول، وواقعنا بلا مستقبل.
قام الأبنودي بتقديم رواية من الهلالــــية، وسجلها بالصوت والصــورة والكتابة. إنجاز عظيم من شاعر كبير.
ناقد مغربي

سعيد يقطين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية