قد يكون سن الرشد أو البلوغ المتعارف عليه، قاسما مشتركا بين معظم البشر، لكن سن الإبداع لا وقت محدد له، لأن هناك من أبدعوا واجترحوا ما يشبه المعجزات، دون العاشرة أو بعدها بقليل، ومنهم الموسيقار موزار وشامبليون، الذي فكك رموز حجر رشيد، وآرثر رامبو الذي رحل في السادسة والثلاثين، لكنه أنجز معظم إبداعه الشعري دون العشرين، وكذلك الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، الذي لم يكمل الخامسة والعشرين من عمره وأبدع شعرا أعلن قيامته في كل الحراكات العربية التي تطالب بالحرية وتقاوم الاستبداد.
وبالمقابل هناك من هم على شاكلة النابغة الذبياني، الذي سمي بالنابغة لأنه بدأ قول الشعر في سن متأخر، شأن هنري ميلر الذي بدأ الكتابة بعد السابعة والثلاثين من عمره، وكذلك الشاعر الأمريكي روبرت فروست، وكان لا بد من هذه التداعيات قبل التوقف عند ظاهرة فريدة، جسّدها فتى فرنسي اسمه أيتان دو لابويسيه في مقالة عبرت العصور والأجيال، بعنوان «العبودية المختارة»، وقد كتبها في سن السادسة عشر في القرن السادس عشر، وترجمها إلى العربية صالح الأشمر، وصدرت عن دار الساقي عام 2016. والمقالة كما يصفها كثير من النقاد والمؤرخين الفرنسيين حظيت بأكبر قدر من التأويل، وتعددت قراءاتها بحيث أتاحت للأهواء والإسقاطات أن تجد فيها متسعا للتعبير عن مختلف النوايا، ولم تنشر المقالة في حياة مؤلفها والذي نشرها، بعد موت كاتبها، هو مونتاني في كتاب بعنوان «مقالات».
خلاصة المقالة رغم أنها بحد ذاتها تختزل عدة أطروحات، هي أن الكاتب الشاب الذي كان ينتمي إلى عائلة من القضاة ودرس الإنسانيات في وقت مبكر، عاش في زمن بلغ فيه الاضطهاد والاستبداد ذروته، خصوصا في المجال الديني، وسؤال المقالة المحوري هو، لماذا يخضع الناس لحكم طاغية ثم يتأقلمون مع هذا الوضع، بحيث يألفون كل تفاصيله؟ والإجابة تزاوج بين السبب التقليدي للخضوع وبلوغه حالة من الاستنقاع، وهو الخوف، وبين العادة، أي تحول غير المألوف إلى مألوف لفرط الديمومة والتكرار، ويستشهد صاحب مقالة العبودية المختارة بحروب الإغريق، التي خيضت دفاعا عن الحرية، ومنها معارك ميليتادس وماراثون وليونيداس، ويقول إنها معارك ستبقى حية في الذاكرة البشرية على امتداد الزمن، ورغم أن الطرف الآخر في تلك الحروب كان الفرس، إلا أن ما حققته من ظفر كان ضد العبودية لصالح الحرية.
أكثر من أربعة قرون هي الفاصل بين مقالة أيتان دو لابويسيه وبين كتاب جوستان لوبون عن سايكولوجيا الجماهير، وقد نجد جذور بعض الأفكار التي تناولها لوبون في تلك المقالة، خصوصا ما يتعلق بالنفاق السياسي، وما تقترفه الحواشي من تزلف حتى لو تطلب ذلك التطوع للدفاع عن خطايا الطاغية، ولم يكن مصطلح كالماسوشية، أو التلذذ في الألم قد ظهر في زمن الكاتب، لأنه من معجم علم النفس الحديث، لكن المصطلحات لا تخترع الواقع بقدر ما تكشف المستتر منه، فهل الشعوب التي تخضع للاستبداد زمنا طويلا تتأقلم معه؟
وهذا ما عبّر عنه جان جاك روسو بقوله إن البؤس وحده لا يخلق العصيان، بل هو الوعي بالبؤس، ومن يستغرقون في واقعهم متآلفين مع كل إفرازاته من الشقاء، قد يقولون لأنفسهم ليس بالإمكان أفضل مما كان، وينقل أيتان عن ليكورغ مشرّع إسبارطة أنه ربى كلبين رضعا من ثدي واحد وضع أحدهما في المطبخ، وترك الآخر يجري في الحقول، وحين أراد أن يبرهن على أن الناس ينشأون على ما تربوا عليه، وضع الكلبين في وسط الشارع ووضع بينهما طبق حساء وأرنبا بريا فركض أحدهما نحو الحساء وانطلق الثاني نحو الأرنب.
إنه يعيد الكثير من مكونات الشخصية الإنسانية إلى التربية المبكرة، ومن ولد في زمن الاستعباد والارتهان وفقدان الإحساس بالذات، قد لا يعرف ما هو أبعد من ذلك.
ومن أطرف الأمثلة في المقالة ما يرويه مؤلفها عن أبقراط الذي يقسم كل من يحترفون مهنة الطب باسمه، عرفانا بالوفاء والريادة، يقول إن ملك الفرس قدّم له الهدايا الثمينة وحاول التقرب منه، لكنه أجابه بأن ضميره لا يسمح له بذلك، وأنه لن يعالج غرباء يريدون قتل اليونانيين.
لقد كتب الكثير عن هذه الجدلية الخالدة، وهي جدلية الحرية والاستعباد، منذ سبارتاكوس حتى آخر حراك إنساني، يحاول استرداد الحرية المسروقة، وما قاله صاحب مقالة العبودية المختارة ليس أول السطر في هذه الدراما التاريخية، لكنه استطاع في سن مبكر تشخيص مواقف وحالات أصبحت مجالا حيويا لعلماء نفس واجتماع وأنثربولوجيا بعد خمسة قرون من رحيله.
ورغم تطور البشرية من حيث الإدراك وأنماط الإنتاج وطرائق التفكير، إلا أن هناك قضايا عاشت مع الإنسان منذ الكهف وفي كل زمان ومكان، وفي مقدمتها سؤالان هما سؤال الوجود وسؤال الحرية، ولو تحققت الإجابة الشافية على هذين السؤالين، لما واصل العقل الكدح بحثا عن السبب الذي يبطل العجب.
إن العبودية بكل أنماطها الظاهر منها والمخفي والمباشر وغيرالمباشر، ليست قدرا يتعذر الفكاك منه، لكن أسوأ ما يمكن أن يصاب به مجتمع في العالم هو، أن يألف القيود ويتأقلم مع الاستعباد، بحيث تصبح الحرية عبئا لا يقوى على حمله، لأن الخوف من الحرية، كما يقول أريك فروم يفتضح من استمرأوا عبوديتهم وحولوا الطغاة إلى أوثان.
٭ كاتب أردني
خيري منصور
تحياتي للكاتب : { ويستشهد صاحب مقالة العبودية المختارة بحروب الإغريق، التي خيضت دفاعا عن الحرية..}.حروب الإغريق لم تكن من أجل الحريّة بل من أجل السيادة على المدن الإغريقية المتناثرة…ولم يفلح في ذلك سوى الأسكندرالمقدوني.وفي قولك { لكن أسوأ ما يمكن أن يصاب به مجتمع في العالم هو، أن يألف القيود ويتأقلم مع الاستعباد، بحيث تصبح الحرية عبئا لا يقوى على حمله…}.لا يوجد إنسان واعٍ ولوكان عبداً يباع في سوق النخاسة يتأقلم مع العبودية وقيودها…إنّ الأخطرمن العبودية أنْ لا يكون ثمة بديل حقيقي من الحريّة.الحريّة ليست دعوة إنْ لم تكن ممارسة حقيقية ؛ وأغلب الحريّات مجرد ديكوروفلكور.ولأنْ لا وجود لحرية حقيقة ؛ فالعبودية وحرية الديكورسيّان.إنّ أول مشروع حقيقي للحريّة كان بخروج النبيّ موسى ببني إسرائيل من طغيان فرعون.ولم تتكررالحريّة الحقيقية إلا بهجرة المسلمين من مكة إلى مدينة يثرب.ومخطأ منْ يظنّ أنّ الثورة الفرنسية هي ثورة الحريّة الجديدة رغم أنّ أحد شعاراتها الحريّة إلى جانب الإخاء والمساواة بل هي ثورالمقاصل.إذن العبودية المختارة هي صنوالحريّة المختارة حتى يظهر( موسى ) جديد نحوحرية السّماء الواقعية قبل حرية الأرض الغبراء الدموية.وهذا لن يكون…والسبب أنّ تحقيق الحريّة الحقيقة معناه موت جدلية الصراع بين الخيروالشرّ.ولهذا بعد حرية خروج بني إسرائيل من فرعون كان عليهم التيه لأربعين سنة في الصحراء.فلابدّ من المرايا العاكسة قائمة مضيئة ؛ ليبقى اتقاد الصراع لديمومة الجنس البشري حضارياً و( حثيثاً ).مع مودتي.