«الشعوب هي التي تُسلس القياد لمضطهدها، لأنها لو كفّت عن خدمته لضمنت خلاصها، إن الشعب هو الذي يستَرِقُّ نفسه بنفسه، وهو الذي يذبح نفسه بيده، إذ لمّا كان يملك الخيار بين أن يكون عبداً أو يكون حراً، تخلى عن حريته ووضع القيد في عنقه، ولمّا كان بوسعه أن يعيش في ظل قوانين جيدة، فضّل العيش في ظل القلق والاضطهاد والظلم، لمجرد إرضاء هذا الطاغية، إن الشعب هو الذي يرضى ببؤسه، لا بل يسعى وراءه».
ربما أراحك بعض الشيء معرفة أن هذا الكلام البليغ الذي ينطبق على أحوال شعوبنا اليوم، كان مكتوباً عن الشعب الفرنسي، وربما بدد تلك الراحة القليلة معرفة أنه نُشِر في منتصف القرن التاسع عشر، بعد وفاة مؤلفه إتيان دو لا بويسي، الذي كتب هذه السطور عن (العبودية المختارة) وهو دون سن الثامنة عشرة، في مقالة ملأها بأمثلة كثيرة عن الطغاة والطغيان في العصور القديمة اليونانية والرومانية ليأخذ راحته في انتقاد الوضع السياسي القائم في بلاده، ومع ذلك لم تنشر مقالته إلا بعد وفاته في عام 1576 على يد بعض الكتبة البروتستانت المعارضين للمَلَكية المطلقة، قبل أكثر من قرنين من قيام الثورة الفرنسية التي أطاحت بها، ولم يكن يتصور أحد أن تقوم بعد إجهاض كل الانتفاضات التي قامت بها المقاطعات الفرنسية المحرومة ضد العسف الضريبي والقمع المتوحش.
بروح رافضة للعبودية وعقل مندهش منها، يتساءل دو لا بويسي عن الأسباب التي تجعل الشعوب تتحمل وطأة طغاة لا يملكون من القوة إلا ما منحه لهم محكوموهم، وعما يجعل الناس مفتونين وخائفين من طاغية كان سينهزم من تلقاء ذاته إن لم ترض البلاد باستعباده لها، فيصرخ في وجوه مواطنيه: «أنتم من يأوي اللص الذي يسرقكم، وشركاء السجان الذي يقتلكم وخونة أنفسكم، تغرسون زرعكم لكي يقتلعه.. تُغذّون أطفالكم ليكون أفضل ما يصنعه بهم أن يسوقهم إلى حروبه، ويقودهم إلى المجزرة، أنتم تشقون ليرتع هو في مسرّاته ويستغرق في ملذاته الدنيئة، صمموا على ألا تخدموا بعد الآن وسترون أنفسكم أحراراً، لا أريد منكم أن تدفعوه دفعاً، ولا أن تخلعوه خلعاً، بل كفوا عن مساعدته فقط، ولسوف ترونه ينهار كتمثال ضخم أُزيحت قاعدته فهوى وتحطم».
ورغم تأكيد لا بويسي على دور الشعوب في اختيار العبودية، إلا إنه يضع الاستبداد والطغيان في سياق أشمل، حين يؤكد على أن الطغاة لا يتمكنون بفعل القوة وحدها من السيطرة على شعوبهم: «إن من يظن أن الرماح والحرّاس ومواقع الرصد هي التي تحمي الطغاة يرتكب خطأ فادحاً، فالطغاة يستخدمون هذه الأدوات من أجل المظاهر وكفزاعة وليس بناء على ثقتهم فيها»، مشيراً إلى أن من يساعد الطاغية على تثبيت طغيانه هو الطبقة الحاكمة المرتبطة به والتي يكون على قمتها قلة من الرجال لا يتجاوز عددهم الأربعة أو الخمسة، تحتهم يوجد مئات من التابعين المستفيدين منهم، وتحت أولئك المئات يوجد آلاف يوعدون بمناصب إدارية ومصالح مالية، يرتكبون من أجلها كثيراً من الشرور بحيث لا يمكنهم الاستمرار إلا في ظل بقاء الحاكم، ولا البقاء بمنأى عن العقوبات إلا بفضله، ومن تحت هؤلاء تطول سلسلة الأتباع التي من أراد أن يتتبعها وجد الملايين الذين تشدهم هذه السلسلة إلى الطاغية، ما يجعل الطاغية يستعبد رعاياه، بعضهم عن طريق بعض، ويقوم بحراسته أولئك الذين كان من المنطقي أن يحترس منهم.
يقسم لا بويسي الطغاة إلى ثلاثة أصناف: صنفٌ يحكم لأن الشعب قد انتخبه، وصنفٌ انتزع الملك بقوة السلاح، وصنفٌ ثالث جاءه الملك بالوراثة، لكنه لا يرى اختلافاً بين الثلاثة في أسلوب الحكم، «فالذين انتخبهم الشعب يسوسونه كما لو أنه ثور ينبغي تذليله، والغزاة كما لو أنه غنيمة لهم، والوارثون يفكرون في معاملته معاملة العبيد الذين يمتلكونهم بشكل طبيعي»، ثم يؤكد أن «الناس جميعاً ما دام لديهم شيء من الإنسانية، لا يستسلمون للعبودية على وجه التحقيق إلا في حالة من اثنتين: إما أن يكونوا مكرهين وإما مخدوعين، ليس بخداع الغير لهم بل في معظم الأحيان بخداع بعضهم بعضاً»، مشيراً إلى سهولة تعرض القسم الأعظم من سكان المدن لخداع الطغاة، لأن من طبعهم الارتياب في من يحبهم، مشيراً إلى «طغاة اليوم الذين لا يقترفون شراً خصوصاً في نتائجه، إلا مهدوا له ببعض العبارات الجميلة عن المصلحة العامة ورفاهية الجماعة، لأنك تعلم علم اليقين الصيغ الجاهزة التي يمكنها استخدامهم لتحسين بلاغتهم، ولكم يبعث على الأسى سماع الأحاديث عن الوسائل التي اعتمدها طغاة الأزمان السالفة لتأسيس طغيانهم، والحيل التي استخدموها حتى أسلست الدهماء لهم القياد وكان خداعهم لها سهلاً في كل أوان، وكان نجاحهم في خداعها أكبر كلما بالغوا في السخرية منها».
يتحدث لا بويسي عن العادة بوصفها السبب الأول للعبودية المختارة، خاصة حين تأتي أجيال لم يسبق لها قط أن ذاقت طعم الحرية، فتخدم الطغاة غير آسفة، وتعتبر وضعها الذي ولدت فيه شأناً طبيعياً، ومع ذلك لا يأمن الطغاة لذلك فيحرصون على محاربة كل ما يمكن الناس من الإحساس والفهم والتعارف على بعضهم بعضا، ولذلك لا تجدي حماسة المخلصين للحرية مهما كثر عددهم، طالما ظلوا تحت سلطان الطاغية محرومين من حرية العمل والتعبير وحتى حرية التفكير، ليفقد الناس الشجاعة حين يفقدون الحرية، ثم يفتقدون إلى الحيوية، فتصبح قلوبهم ضعيفة وعاجزة، وهو ما يعلمه الطغاة جيداً، فيحرصون دائماً على أن يزداد الناس خوراً وعجزاً، ومع ذلك يظل الطغاة حريصين على إيذاء الجميع والارتياب في الجميع، فلا يطمئن الطاغية أبداً «إلى استتباب سلطانه ما لم يصل به الأمر إلى القضاء على آخر رجل ذي مكانة ونباهة في رعيته».
يختلط الوعي اليقظ باليأس المرير في حديث إتيان دو لا بويسي عن (العبودية المختارة) التي سادت زمانه وتمكنت من أبناء شعبه، فنراه يقرر في مطلع حديثه، أنه ليس من الحكمة أن يتم وعظ الشعب الذي فقد منذ زمن بعيد كل معرفة، ولم يعد يشعر بالألم لأن مرضه مميت، وهو ما يجعل الأطباء محقين في نهيهم عن مسّ الجراح التي لا تبرأ، لكنه مع ذلك لا يكف عن الحديث بحماس عن محاولة تنظيف الجراح ووصف الدواء الناجع لها، وبعد أن يبلغ في ذلك أقصى طاقته، يحرص على تذكير نفسه بحدود ما يمكنه فعله، فيختم رسالته قائلاً: «لنرفع أعيننا نحو السماء صوناً لكرامتنا، أعتقد ولست بمخدوع أن الله الغفور الرحيم لما كان الطغيان أبغض شيء إليه، قد أعد للطغاة وشركائهم عقابا خاصا في الدار الآخرة»، بدون أن يدرك وهو غارق في حسرته التي عجلت بأجله، أن شعب فرنسا سيحسم معركته مع الطغيان السياسي الصريح، ثم بعد موجات من التقلبات السياسية الدامية، سيصبح الشعب بعدها عرضة لأشكال متجددة من الطغيان، بعضها يجلبه الناس لأنفسهم بأنفسهم، لكنهم على الأقل أثبتوا ولو لمرة أن عقاب الطغاة ينبغي ألا يتم تأجيله للآخــــرة، بل من الأفضل والألذ إنفاذه في الحياة الدنيا.
…..
ـ «العبودية المختارة» ـ إتيان دو لا بويسي ـ ترجمة صالح الأشمر ـ دار الساقي
٭ كاتب مصري
بلال فضل
الفرق بين الاقلية السائدة و العبيد هو التنظيم. فالاقلية السائدة او الطاغية منظمة بينما العبيد يفتقرون للتنظيم. وهذا هو السر المعروف
قالها الافوه الاودي قبل 1500 سنة: لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم و لا سراة اذا جهالهم سادوا
اهم ما يخشاه المتسلطون هو تنظيم العبيد. و هم في ملاحقة مستمرة لاي تنظيم. و في تضييق على اي تفكير. و تجريف لاي نخب قيادية او فكرية.
طبعا يوجد في المجتمعات المستعبدة نخب فكرية و قيادية و لكنها ضعيفة او قليلة لاتكفي لتحريك وتوجيه القاطرة الضخمة. و هذا هو سبب فشل الانتفاضات التحررية و مثال ذلك الربيع العربي