ضمن الأشياء المخيفة وسط التصريحات الرسمية الحديث عن محدودي الدخل والعدالة الاجتماعية في قرار ما، ببساطة لأن الحديث الذي أمتد في مصر على مدار عقود، ارتبط بالسلعة الأكثر شهرة وهي الحزام الذي لابد أن يزيد شده، وليس الحال الذي يفترض أن يتم تحسينه. أصبحت تلك العبارات المكون الأساسي الذي يتم توارثه مهما تغيرت الحكومات شكلا واستمرت السياسات موضوعا. هي الأغلفة التي يعاد استخدامها لتعليب السياسات التي يتكرر استخدامها، ولكن مخاطرها تتعاظم مع الوقت لأن فقراء الأمس يزدادون فقرا، ومعاناة الأمس تزداد تعمقا، ومقارنات الأمس تزداد سوءا.
يتجاوز ما يحدث في مصر فكرة الاستهلاك المتكرر إلى حد الخوف لما يرتبط به من ضغوط على محدوي الدخل، والأكثر معاناة، والتوسع في الفجوة بين من يملك ومن لا يملك، وما يحق الحصول عليه من خدمات في قطاعات أساسية، وخاصة التعليم، ظلت تلعب دورا اساسيا في زيادة محتويات زمزمية الأمل، وتصور أن هناك فرص حراك اجتماعي أفضل إن لم يحدث للآباء قد يحدث للأبناء.
واقع ظهر واضحا وبشكل مثير للغضب مع تناقضات عديدة في فترة زمنية متقاربة، وأن كان الظلم لا يحرك أحدا بالضرورة، والشعور بالظلم هو الذي يفعل، يمكن أن ندرك بعض أسباب الغضب المختلف الذي صاحب ردود الفعل على ارتفاع تذاكر مترو الأنفاق، وغضب الأهالي، من خطط التغيير في التعليم.
جاء رفع أسعار تذاكر مترو الأنفاق، يوم الخميس كما يكرر النظام، في سياق مضاعف من الشعور بالظلم، ولهذا لم يكن مجرد القشة كما يرى البعض، وربما لا يصل إلى حد ثورة كما يطرح البعض أيضا، وربما يتم تجاوزه عبر سياسة تفريغ القدر التي تحاول تقليص الغضب عبر تقديم ما يبدو وكأنه مساعدات، أو عبر التهديد بزيادات أكبر كانت محتملة في إطار سياسة الإنجاز بالغياب بما يجعل الزيادة الأخيرة، وفقا للخطاب الرسمي، أقل مما كان مفترضا ومكسبا للفقراء والأكثر غضبا.
شهدت الفترة السابقة، زيادة دخول الوزراء والنواب وغيرهم من مسؤولين باسم العدالة الاجتماعية، والحديث عن تغيير التعليم والتوقف عن تعليم الإنكليزية بشكل معين في بعض المدارس باسم العدالة الاجتماعية ومصلحة الطالب، وضغوط ارتفاع الأسعار في أكثر من سلعة وخدمة وصولا إلى زيادة أسعار تذاكر المترو باسم العدالة الاجتماعية ومصلحة الشعب.
يصبح من الصعب أن تقنع شخص ما بأن الاستقطاع منه مكسب، سواء تعلق الأمر بنمط تعليمي أو أسعار سلع وخدمات. وفي نفس الوقت، من الصعب أن تقنع نفس الفرد، أن تقليص ما لديه أو لدى الأبناء من فرص، عبر التعليم، وما لديه من دخل محدود، عبر زيادة الأسعار هو عدالة اجتماعية. وتزداد الصعوبة أن جاءت بعد زيادات أخرى، ليست قليلة، لمن يملك، باسم العدالة الاجتماعية أيضا.
تبدو العدالة الاجتماعية فضفاضة في مصر بشكل غريب، فمن جانب هي زيادة الدخول بحيث تصل إلى الحدث الأقصى الذي حدده القانون بالنسبة للمسؤولين وغيرهم ممن تم الإعلان عن زيادة مرتباتهم. وهي أيضا، استقطاع الدخول عبر زيادة أسعار سلع وخدمات يدفع ثمنها عموم الشعب الذي لم ير من العدالة الاجتماعية أحاديث ايجابية عن زيادة الدخول أو الاقتراب من المستويات الأعلى في معدل الأجور.
هي فضفاضة أيضا وأنت تطالب من يرغب في تعليم الأبناء الإنكليزية منذ الصغر بوصفها لغة تؤهل لفرص أفضل في سوق العمل، مع تجاوز أشياء كثيرة مثل الوساطة والمحسوبية التي لا تتيح التساوي، بالتوجه إلى مدارس اللغات التي لا تملك تلك الأسر القدرة المادية على دفع تكلفتها. يتعامل المسؤول مع الشعب بوصفه مجرد مستهلك عليه أن يدفع، وان لم يملك ليس عليه ان يعترض ولكن عليه ان يقبل ما يقدم له. تبدو بوضوح صورة المواطن العسكري الذي تحدث عنه الرئيس وهو يشيد بالدولة الآسيوية التي توقفت حدود اهتمامه بها على أن الطفل، كان مطيعا ويحصل على ما يقدم له من غذاء دون نقاش أو اعتراض، تجاوز أشياء كثيرة في هذه الدولة والمجتمع، كما تجاوز أن الحديث هنا عن وجبة طعام مدرسية لا تحدد ما يحصل عليه الطفل في منزله وحياته من فرص وقدرة على الاختيار تتجاوز حدود الطعم إلى أشياء أكثر أهمية، كما تجاوز أنها وجبة صحية تقدم بتكلفة رمزية ضمن التعليم الحكومي. بعيدا عن كل هذا، تحول حديث المسؤول عن التعامل مع خطط التغيير بوصفها أوامر يفترض الا تناقش فيها لأنك لا تملك، ولأن المواطن الصالح في تعريف السلطة لا يعترض.
لم يقف المواطن أمام حديث التغيير في التعليم بوصفه أمرا هامشيا، ببساطة لأن الأبناء هم أمل تحقيق ما لم يستطع الآباء تحقيقه. في نفس الوقت لم يكن من السهولة أن تتحدث عن مبررات من نوعية ان التعليم باللغة العربية يرتبط بالمزيد من الولاء والوطنية وغيرها من العبارات الكبرى التي تم استخدامها ببساطة لأن هذا يفترض وفقا للمنطق أن من لا يحصل على تعليمه باللغة العربية مشكوك في ما لديه من ولاء ومواطنة، ويفترض الابتعاد عن اختيار هؤلاء في المناصب المهمة في الدولة.
أن كانت اللغة العربية هي وعاء المواطنة حقا، هل يفترض إقالة وزير ومسؤول لا يتحدث العربية جيدا أو نال تعليمه بلغات أخرى؟
يصبح من الطبيعي القول بأن تلك التبريرات لا تقنع أحدا، وفي الواقع هي لا تقدم من أجل اقناع أحد لأن المسؤول لا يهتم برأي الشعب، حتى النائب في البرلمان الذي يفترض أن يأتي بالانتخاب، يتحدث عن مبررات أخرى من نوعية معرفة مصلحة الشعب أكثر منه، والوقوف في وجه الجماهير وعدم الاهتمام بالشعبية وكأنها أمور تستحق الثناء والشكر في عالم الحكم حقا؟!
جاء قرار رفع أسعار تذاكر المترو مثيرا لأحاديث غاضبة اعتبرت الأعلى صوتا منذ تولى السيسي السلطة، وطرحت تساؤلات مهمة حول التبريرات التي قدمت لرفع الأسعار، بما فيها الأحاديث المتهافتة عن رخص أسعار تذاكر المترو عالميا، وكل ما قدم للقول بان الأرقام المجردة لسعر تذاكر المترو في مصر أقل من غيرها مع وضع أرقام بالدولار واليورو من باب أن المواطن الصالح هو الذي يقبل الغذاء المقدم دون نقاش، وأن لم يكن لديه إلا الماء عليه التمتع بعفة النفس وعدم الشكوى، وكلها بالطبع رؤى من خارج الحكم والسياسة، ولجنة الأخلاق القائمة على قياس العلاقات داخل الأسرة الواحدة وافتراض الحاكم هو المعيار، لا يفترض أن تكون مقياس نقاش في علاقة السلطة بالشعب، ولا أن تكون مدخلا لتجاوز أن السلطة لا تملك ولا تعلو على الشعب صاحب السلطة الحقيقية.
تشابه السياق مع ما هو معتاد عليه، مع حديث مكرر عن تحديث خدمة، لا يحدث بالضرورة وسط أحاديث الديون وسدادها، والحديث عن الضرر الأخف بافتراض أن المخطط كان رفع التذاكر بدرجة أكبر (إنجاز الغياب)، إلى جانب تذاكر العالم.
تبدو قضية المقارنات هنا تحديدا كاشفة عن حجم المغالطات حين تتجاوز عن النسب من الدخل وتتحدث عن الرقم المجرد لسعر التذكرة، وتتجاوز عن أساليب ومعدلات الزيادات في الأسعار ومعدل الزيادة التي يواجهها المواطن المصري، وحين تتجاوز عن ما تملكه تلك الدول من شبكات دعم اجتماعي مقابل واقع المواطن المصري، وحين تتحدث عن تذكرة المترو وكأنها أمر منفصل عن سياق من الزيادات المستمرة في كل السلع والخدمات في وقت لا يتم فيه استخدام العدالة الاجتماعية لزيادة الدخول بشكل يتناسب حتى مع تلك الأسعار.
٭ كاتبة مصرية
عبير ياسين