ليتَ الفتى حَجَرٌ يا ليتني حَجَرُ / أكُلَّما وَجَدَتْ أُنثى أُنوثتها أضاءني البرقُ من خصري وأحرقني.
محمود درويش
يقول ابن المقفع عن العرب: «إنّهم أهل بلد قفْر ووحشة من الإنس، احتاج كلّ واحد منهم من وحدته إلى فكره ونظره وعقله». وقد استخلص زكي نجيب محمود من هذه القولة أنّ العربي كان يعتمد على ومضات البصيرة ولا يحيا مع الاشياء، فلم يكن يرسمها لأنّها لا تمتزج بنفسه. ولعلّه تعجّل القول في حمل العرب على عموهم، ورأى في الخصيصة التي التقطها ابن المقفّع؛ احتجاجا على المتناهي واحتماءً باللامتناهي. والعرب لم يكونوا كلّهم أهل وبر أو بادية، بل كان فيهم أهل المدر أو الحضر؛ وما قاله ابن المقفّع يخصّ الأعراب ويسمّون عربا أيضا. وفي قولته إشادة بهؤلاء الأعراب إذ جعلهم أهل فكر ونظر وعقل. وهو رأي ينهض له سند كبير من شعرهم الذي قام على الإصابة في الوصف أي قلب السمع بصرا، والمقاربة في التشبيه، والتشبيه ذو مرتكز عقليّ إذ هو قياس وموازنة بين أشياء تحتفظ بوضوحها وتمايزها سواء حضرت أداة التشبيه أو اختفت. وهو ليس كالاستعارة من حيث هي إخبار غير مألوف، وبنية تداخل بالمطابقة تختفي فيها الحدود والفواصل بين الماهيات والأشياء.
والأشياء في نظر العربيّ القديم هذا الرّحّالة الذي كان يسلك طريقا لا تفضي إلى أيّ مكان؛ هي التي جعلت على ما نرجّح من أدب العرب منظوما أو منثورا محاولة لتثبيت لحظة هاربة والتشبّث بها. وكانت الذكرى قادح هذا الأدب منذ أن أنشد أمرؤ القيس»قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «حيث حسّ الزّمن في الشّعر وبخاصّة في مقدّمة القصيدة مثلما هو في قصص الحبّ عند العرب المسلمين؛ حسّ فاجع يشي بزوال الاشياء وتلاشيها. بل إنّ الامنية التي كانت تستبدّ بالعربيّ القديم هي أن يصبح هو نفسه شيئا أو مادّة غفلا، أو أن يجمع في آن بين خفض العيش ولينه أو سعته، وبين صلابة الحجر واستدارته وشدّته؛ كما يقول تميم بن مقبل في هذا البيت الذي عرف محمود درويش كيف يوظّفه:
ما أطيبَ العيشَ لو أنّ الفتى حجرٌ / تنْبو الحوادث عنه وهو ملمومُ
ولكن هل يعني ذلك أنّ الاشياء لا تخبّئ بالنّسبة إلى العربي «أيـّة دلالة متـعالية أو أيّ معـنى ميتا فيزيائي» وأنّ»شعوره بالانفصال عنها هو شعور كامل بذاته المستقلّة» كما يقرّر أدونيس متعجّلا هو أيضا؟
إنّ في أخبار قدماء العرب إشارات كثيرة إلى أنّ الأشياء في المجتمع الجاهلي كانت محفوفة بقداسة مثيرة أو هي متلبّسة بلبُوس التصورّ الأسطوري؛ فقد عبد العرب «الأشجار وأغصانها وجذورها والعظم والرّيش والناب والمخلب والحافر والسنّ والظّفر والحجر وأنواع الحيوانات وآلات الحرب والشمس والقمر». وهي ظاهرة ترتدّ إلى «المذهب الحيوي» الذي يعتقد مريدوه بوجود روح أو قوّة سحريّة مؤثّرة في الأشياء وعناصر الطبيعة. ولا يفوتني أن أشير في السياق الذي أنا به، إلى أنّ مترجمي دراسات في حضارة الإسلام لهاملتون جب آثروا أن يترجموا مصطلحAnimism بـ«النسميّة»، وسوّغوا ذلك بالنسمة التي تعني النفس أو الروح؛ وبأنّ اللفظة الأنجليزيّة وهي لاتينيّة الأصل، تعني المبدأ القائل بوجود الأرواح أو النسم في المظاهر الطبيعيّة. كما أنّ بين اللفظتين الأنجليزيّة والعربيّة «النسميّة» تقاربًا صوتيّا ملحوظا.
غير أنّ السؤال الذي ينشأ: هل كان العربي القديم ينظر إلى أشياء الطبيعة على أنـّها مجرّد أدوات تستخدم للنّفع ويقف منها موقف المعتزل المحايد؟ أي أنّه كان يحيا «مع» الاشياء وليس «في» الاشياء؟
إنّ هذا القول قد ينطبق على فنّ الرّقش أو التّوريق الإسلامي (الأرابيسك)، هذا الفنّ الذي لا يرسم كائنات الطبيعة وأشياءها، وإنّما يستبدل بها خطوطا وزوايا ومربّعات ومثلثّات ودوائر. أمّا في الشّعر وقصص الحبّ، فإنّ حضور الأشياء حضور لافت . وشاهد ذلك هذا الجسد المجزّأ أو»المشيّأ» الذي تحويه هذه النّصوص، وفي صورته يتعاشق الجسد (جسد الانثى) والجسم (الأشياء أو كلّ ما يشغل حيّزا من الفضاء)، ويتواشج المتخيّل والمرئيّ.
إنّ الجسد الذي يحتفي به شعر العرب وقصصهم في الحبّ جسد مضخّم، ولكن ما أن يشرع القاصّ أو الرّاوي في وصفه حتى تتخلّع أعضاؤه، وتتفكّك عناصره، فإذا الجسد هذا الكيان المتلاحم فسيفساء مؤلّفة من أجزاء شبقيّة. وإذا الجسد هذه الوحدة العضويّة التي يشدّ بعضها بعضا رقع مشتتّـة و«أشياء» مقطّعة.
والقاصّ مثل الشاّعر مأخوذ بتجزئة الجسد إلى شعر وجبين وحاجب وعين وشفة وأنف وجيد ونهد ومعصم وسرّة وعجيزة وفخذ وساق… وهي تجزئة تشمل جسد الإنسان (المرأة) مثلما تشمل جسم الحيوان وأشياء الطّبيعة ومفرداتها: فقوام المرأة قوام ظبية وعيناها عينا غزال أو بقرة وجيدها جيد جؤدرة ونهدها رماّنة أو حقّ وشعرها عناقيد كرم وأسنانها درر وشفتاها وردتان… بل انّ المثل الأعلى لجمال جسد المرأة عند قدماء العرب موزّع أو مشتّت بين القبائل؛ وكلّ قبيلة تختصّ بجزء من أجزائه وعنصر من عناصر جماله: فالأطراف الجميلة في خزاعة، والقامة الجميلة في بني مرّة، والعينان الجميلتان في بني فزارة، والثغر الجميل في طيء:
خزاعيةُ الأطراف مرّيّة الحشا / فزاريّةُ العينين طائيّة الفمِ
والانسان إنّما يجزّئ عادة الأشياء التي يملكها أو يرغب في الاستئثار بها والقبض عليها مخافة أن تفلت منه.
ولكنّها قد تنطوي على دلالة اجتماعيّة أكثر منها دلالة ميتافيزيقيّة متعالية؛ إذ أنّ العرب عامّة لم يعرفوا قبل الإسلام حياة خارجة عن الطّبيعة فـ»الطّبيعة هي المذهب والحقيقة التي لا حقيقة بعدها عندهم. بل انّ الرّوح في اعتقاداتهم لم يكن شيئا مفارقا أو مستورا وراء الحجب الطبيعيّة؛ فهو طائر يدرك ويلمس أي انّه حياة وحركة. وإذا كان ذلك كذلك فإنّ الجسد المجزّأ أو المشيّأ قد لايكون سوى تعبير عن رمزيّة اجتماعيّة متبادلة، فمثلما يشحن هذا الجسد الواقع بالمعنى فإنّ الواقع يشحنه هو الآخر بالمعنى بنية ووظيفة.
الجسد المجزّأ يحيل على واقع مجزّأ، والواقع الـمجّزأ يحيل على جسد مـجزّأ. ذلك ما يمكن تقريره بكثير من الاطمئنان استئناسا بهذه النّصوص. فكثيرا ما يستحضر الرّاوي أو الشّخصيّة غائب الذّكرى ويستـعيد حميم اللّحظة، وهو يفزع الى التّفاصيل فيجزّئ جسد الأنثى إلى شرائح. على أن لا يفضي بنا ذلك إلى استنتاج متعجّل، كأنْ نرى في هذا الضّرب من الوصف انصرافا عن الأنثى إلى أعضاء جسدها وأشيائها، إذ لو صحّ ذلك لأمكن القول إنّ عشّاق العرب كلّهم منصرفون إلى «الفيتيشية» أو عبادة الأشياء بنسبة أو بأخرى، فيما الجسد المجزّأ قاسم مشترك بينهم؛ وملمح عامّ ملازم لقصصهم وشعرهم. وربّما استثنينا نصوصا «خلاعيّة» في ألف ليلة وليلة، أو مقامات جلال الدين السيوطي «رشف الزّلال من السحر الحلال» وهو ضرب من التّوظيف الأدبيّ، وطريقة خاصّة في تحوير نصّ سابق وإحلاله في نصّ لاحق حيث المصطلح (القرآني ـ النّحوي ـ البلاغي ـ العروضي ـ الهندسي) لا يكافئ مـنـزلة المفهوم الذي وضع لـه، وإنّما يتعدّاه إلى الجسد والجنس، وما هو أوفر حياة وأوْفى دلالة، حيث تغدو اللّغة نفسها حـمّـالة «مفاهيم» و«صور» جنسيّة ليس إلاّ.
وهو نصّ يغيب فيه الحبّ، ولا يحضر إلاّ الجنس والأشياء، ولكن على طريقة العرب في الجمع بين الإمتاع والإفادة أو الحسن والنافع؛ إذ هو ينضوي إلى»الأملوحة» أو النادرة أي ما لذّ واستملح من الكلام الذي يتولّد من استعمال الأداة الواحدة استعمالا متعدّدا؛ وهو ما ينشئ «المعنى المزدوج» ويدفع بالقارئ إلى عقد المعاني المختلفة.
فإذا كانت المرأة «شيئا» أو «بضاعة» أو «متاعا» فإنّ الاحتفاء بالجسد مجزّأ قد يخفي نزوعا إلى الاتّصال بجسد الأنثى من حيث هو جنس خالص، لا من حيث هو كيان يفعل وينفعل. ومن ثمّة فإنّ مديح الحبّ في أكثر هذا الأدب مديح للجسد، أو هو حبّ حسّي إيروسي. ولكنّه ليس «مجرّد حبّ طبيعي بيولوجي على نحو ما يقول أدونيس وهو يقرّر أنّ «المرأة فيه لا تعرف الرّجل. وهي لا تأمل بأن تصير الآخر أو تتخطّاه». وأنّه ليس هناك امرأة بل نساء. وكأنّ هدف العاشق أن ينفذ إلى جسد الانثى فيتذوّق أطايبه دون أن ينفذ إلى انسانيّة المرأة. ففي هذا قدر غير يسير من التّمحّل والاعتساف على صورة العاشق أو المعشوقة في أدب الحبّ عند العرب، وعلى عالم أسمائهم وأشيائهم.
٭ كاتب تونسي
منصف الوهايبي
مبدع متألق سيدي الدكتور…كلّما قرأت لحضرتك ؛ تذكرت الأديب والفيلسوف المصريّ الرائع زكي مبارك.فلا تحرمنا من كتاباتك ؛ فإنما القلم
نبض القلب.ويكفي أنّ ماسك القلم يضعه بين السبابة والابهام.وهما الاصبعان المرتبطان بالنابضين : القلب والعقل.
لايسعني إلا أن أشكر الأستاذ منصف الوهايبي على عمق التحليل ، والغوص فيما لايرى من ثقافتنا العربة .فالقلم الوهايبي يمتاز بفصاحته ودرايته بكل دقيقة من الشعر العربي ، ولا يخاف من نشر درره ونوايا قائله .كما لا ينسى ما يقوله النثريون أو ما قرره النقاد المتربصون .وبهذا نخرج من ما يكتبه عالمنا الوهايبي بالمعرفة السليمة ، والصفاء الفكري المستقر .كل هذا يذكرني بمدرسة جينيف النقدية العتيدة المناقضة لنقاد باريس الذين هاموا بها غلطا في معظم الأحيان بعض أهل الأدب عندنا .فلأستاذنا منصف كل االإنصاف والهبات