العرب يسلمون بلادهم لإيران ثم يتباكون عليها

عندما تستمع إلى الخطاب العربي السياسي والإعلامي والشعبي تأخذ الانطباع أن العرب، من شدة توجسهم وتخوفهم وكرههم لإيران، يقفون لها بالمرصاد، ويراقبون تحركاتها لحظة بلحظة كي لا تتجاوز حدودها، وكي يردعوها دائماً وأبداً. ومن يتابع الحملات الإعلامية وغيرها ضد إيران سينام قرير العين، وسيطمئن على مستقبل بلادنا من الخطر الإيراني، لأن تلك الحملات تجعلك تظن رغماً عنك بان العرب محصنون جيداً ضد التغلغل الإيراني. لكن الواقع معاكس تماماً للهيصة السياسية والإعلامية والشعبية المناهضة لإيران في العديد من بلداننا. أسمع كلامك أصدقك، أشوف أفعالك أتعجب.
حتى الإيرانيون أنفسهم باتوا يسخرون من حملات الهواء الساخن العربية ضد إيران وتحركاتها. وأتذكر أن الدبلوماسي الإيراني الشهير أمير الموسوي قال لي بنوع من السخرية والتهكم قبل أشهر قليلة بالفم الملآن: « في كل مكان يتصدى فيه العرب لإيران يخسرون، ويقومون بالنتيجة بتسليم المكان لإيران». ويستشهد الموسوي بالمثل العراقي ساخراً: «انظر كيف حاربنا العرب في العراق، ثم سلمونا العراق على طبق من ذهب. هم يزرعون، ونحن نحصد». لا شك أن الموسوي مصيب تماماً في سخريته وتوصيفه للواقع المؤلم.
هل تذكرون أن العرب كانوا أول من شعر بالتهديد الإيراني بعد اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، ورأوا في الزعيم الإيراني الخميني خطراً محدقاً، خاصة بعد أن راح يهدد بتصدير الثورة. عندئذ اتخذ العرب القرار الصحيح بدعم العراق لحماية البوابة الشرقية العربية. وراحوا يلمّعون الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ونظامه. ونتذكر في ذلك الوقت أن صورة صدام كانت تتصدر أغلفة المجلات والصفحات الأولى في الجرائد العربية والخليجية خصوصاً. ولا بأس في ذلك أبداً، لا سيما وأن المرحلة كانت تتطلب ظهور زعيم قادر للتصدي للخطر الإيراني.
وقد نجح العرب أيضاً في اختيار صدام حسين دون غيره لمواجهة الإيرانيين، على اعتبار أنه معروف بعدائه الشديد للفرس. وراح العرب يدعمون صدام وقتها بقوة في حربه ضد الخميني. وقد نجح العراق في صد التهديد الإيراني ووقفه عند حده بعد ثمان سنوات مريرة من الحرب. وقد قال الخميني وقتها إنه قبل «بتجرع السم» وقبول وقف الحرب مع العراق.
لكن المضحك لاحقاً أن بعض العرب الذين دعموا صدام لحماية المنطقة من الخطر الإيراني بدأوا يضايقون العراق بدل أن يشكروه. لقد نسي بعضهم التضحيات العراقية التاريخية لوقف إيران عند حدها، لا بل نسوا أيضاً أن إيران يمكن أن تعود لتهددهم من جديد، فيما لو سقط العراق. وعندما قررت أمريكا مهاجمة العراق انضم العرب جماعات وفرادى إلى جانب أمريكا لضرب العراق دون أن يدروا أنهم سيقولون يوماً: «أكلت يوم أكل الثور الأبيض».
سقط العراق عام 2003، وبدأ الحلم الإيراني يتحقق شيئاً فشيئاً، خاصة وأن إيران استغلت الكاوبوي الأمريكي لتحقيق مطامعها التاريخية في العراق. وقد قال نائب الرئيس الإيراني وقتها علي أبطحي: «لولا إيران لما سقطت بغداد». وكما نلاحظ الآن بعد اثني عشر عاماً على الغزو الأمريكي، أصبح العراق عملياً تابعاً لإيران أمنياً وعسكرياً واقتصادياً.
وقد ساهم الاحتلال الإيراني للعراق في تقوية النفوذ الإيراني في لبنان الموجود أصلاً منذ ستينات القرن الماضي. صحيح أن العرب هم من صنع اتفاق «الطائف» الذي أنهى الحرب اللبنانية، لكنهم أيضاً سلموا لبنان لإيران. فبدل أن يستثمروا بذراع عسكري في لبنان يحمي البلد، ويحمي مصالحهم، استثمروا في السياحة، بينما كانت إيران من تحت الطاولة تستثمر في حزب الله الذي أصبح الآن بعد خمسة وعشرين عاماً على الطائف الحاكم بأمره في لبنان، سياسياً وعسكرياً، بينما أصبحت الأطراف المحسوبة على العرب صفراً على الشمال.
وحدث ولا حرج عن سوريا التي تغاضى العرب عن النفوذ الإيراني فيها منذ استلام آل الأسد السلطة عام 1970.
والنتيجة الآن أن إيران تغلغلت في سوريا، وسيطرت عليها بمباركة النظام، لا بل قامت بحملات تشييع كبرى تحت مرأى ومسمع العرب. والآن هي القوة الأساسية مع ميليشياتها التي تقاتل في سوريا ضد السوريين والعرب جميعاً بعد أن هيمنت على القرار السوري السياسي والعسكري.
حتى في اليمن، يتساءل البعض: كيف سمح العرب لإيران بأن تعبث بما يُعتبر خاصرتهم الرخوة؟ كيف سمحوا لها بأن تتغلغل في اليمن، وتدعم الحوثيين، وتصنع منهم حزب الله آخر يهدد المنطقة بأكملها؟
ولولا استيقاظ العرب متأخرين، لربما أصبح الخطر الحوثي المدعوم إيرانياً مضاعفاً.
وإذا لم ينتبه العرب إلى داخل بلدانهم، فإن إيران ستخترقها، خاصة وأنها الآن باتت تعبث بشكل مكشوف في بعض البلدان الخليجية، لا بل إن أزلام إيران في بعض دول الخليج أصبحوا يتبجحون بقوتهم ونفوذهم على الملأ، دون أن تقوى بعض الحكومات على مجرد مساءلتهم.
كم هم مساكين، إن لم نقل مغفلين أولئك العرب الذين صدعوا رؤوسنا بالحديث عن الخطر الإيراني الرافضي، بينما هم في الواقع يسلمون بلادهم لإيران الواحدة تلو الأخرى على طبق من ذهب، ثم يتباكون عليها، ويحذرون من الخطر الفارسي.

٭ كاتب وإعلامي سوري
[email protected]

د. فيصل القاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول جبل النار -الولايات المتحدة الامريكية:

    مقال اكثر من رائع في وصف حال مع العرب وإيران .

    1. يقول صالح:

      إيران ليست العدو. العدو هو الصهاينة الذين يحتلون فلسطين والذين هم أصل البلاء والعنف والدمار في جميع أنحاء الوطن العربي. والتدخل في شؤون العرب من قبل الاستعماريين الأوروبيين ومن الولايات المتحدة سبب آخر. بعد إسقاط الشاه كان أول شيء فعله الإيرانيون هو تحويل السفارة الصهيونية في طهران إلى سفارة فلسطينية بصلاحيات كاملة وهي ما زالت هناك. وباعتراف حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية وغيرها من فصائل المقاومة، فإن إيران هي التي ساعدت غزة لتقاوم العدوان الصهيوين. والجميع اعترف بأن كل قطعة سلاح في غزة جاءت من إيران أو أن إيران ساعدت في صناعتها.
      لم يكن للمرحوم صدام حسين أن يبدأ حربا ضد إيران بدل التحالف معها. العرب يخطؤون دائما ولا يحسنون التصرف ولا التخطيط وبعد ذلك نسعى لتحميلهم وزر أخطاء السياسات العربية العقيمة.
      ينبغي بالدكتور القاسم أن يكون أكثر إيجابية في تناول المسألة السورية في ظل الكوارث التي تحصل حول العالم بسببها وأن يكون صوتا مبشرا بالتصالح والمصالحة الوطنية والإعمار بدل الحديث عن الخطر الفارسي، كما يفعل بعض العرب.

  2. يقول محي الدين-الجزائر:

    فقاعات هوائية لا تلبث أن تنفجر دون صوت تحت تأثير النسمات الخفيفة لمنطق دبلوماسي من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول:إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً، وهذا الشيء عند العرب لا يتجاوز فراش أحمر على المطار، ومقابلة متلفزة من الرئيس المستقبِل، يصبح العربان بعدها أصدقاء حميميين لعدو الأمس.

  3. يقول محمد امريكا:

    وكمان بدربولهم الشرطة والجيش والطيارين وبيرسلوهم علشان يقمعوا ويقتلوا شعوبهم

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    مشروع ايران هو مشروع امبراطوري فارسي بعباءة شيعية
    فالمعروف أن الشيعة يتبعون أوامر مراجعهم الدينية بعكس السنة
    ولهذا استغل حكام ايران هذه الثغرة بكسب الولاءات من جميع الشيعة

    جميع الشيعة العرب ولاؤهم لايران لأنها بنظرهم من تحمي مذهبهم
    ولا تصدقوا غير ذلك فالتقية دين عندهم ومن ينكر هذا فهو ليس شيعي

    أنا آسف أن أتكلم بهذه الطريقة الطائفية البغيضة ولكنها الحقيقة المرة

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول محمد خليل المغرب:

    النزعة الشعوبية المعادية للعرب ،ليست وليدة المرحلة الحالية

  6. يقول ساميه السوريه:

    متى ســـتدركون أيها الـــعرب ســنة وشــــيعة ومســــيحون ودروز … أيها العـــرب بكل مللهم؛ أن هـــدف الــفرس هو تدمــير بلادكــــــم ….

  7. يقول عصام حمادي:

    ياراجل السعودية عملت اليمن بغطرسة وكبرياء وعملت أبناء اليمن بعنصرية وبنوا السياج الكهربائية على طول الحدود وكان حرس الحدود يشعلون الحرائق في المتسللين على العشرات واليوتيوب مليان عمليات حرق شباب يمنيين آخرهم في 2014 حوالي خمسة شبان وعوملت اليمن كدولة غريبة وطرد الملايين من اليمنيين في 1990 من الخليج بسبب موقف صالح من غزو الكويت ومنع شباب اليمن من فرص العمل في الخليج وحوصر حصار خانق وجاع اليمن وعانى من فقر مدقع وصار من أفقر دول الأرض إلى جوار دول النفط الغنية واليوم يتباكون على اليمن ويصرفون مئات المليارات كي لا تذهب اليمن لاحضان إيران في حين كان اليمن لامس أنواع المساعدة لذلك كلام موسوي مليار في المية صحيح

  8. يقول jamal espana:

    horaà

  9. يقول حي يقظان:

    الأخ فيصل القاسم،

    أولئك المسؤولون العرب الذين صدَّعوا رؤوسنا بالحديث عن الخطر الإيراني الرافضي، ليسوا في واقع الأمر سوى “طراطير” لهم أدوارٌ تنفيذية معينة، أدوارٌ تم تخصيصُها لهم بعناية فائقة منذ زمن ليس بالقصير. فإن التزموا بهذه الأدوار التنفيذية التزامًا “وفيًّا” و”مخلصًا” كان لهم الاستمرار بمناصبهم “الراقية” ومواصلة العيش “الرغيد”،
    والأخ محمد خليل،

    كلامك صحيح مائة بالمائة: النزعة الشعوبية المعادية للعرب المسلمين هي المقابل التاريخي للنزعة اللاسامية المعادية للعبرانيين اليهود. فلهذه النزعة الشعوبية، إذن، تاريخٌ مديدٌ يزيد عن عشرة قرون، ولعل أشهر من تحدث عنها من الأدباء القروسطيين بشيءٍ من الموضوعية والتفصيل، الأديب الفذّ الجاحظ الغني عن التعريف.

  10. يقول ،،ابو سالمUSA:

    اثبت التاريخ ان الحكام العرب لا يخضعون الا لكل من عاداهم،والحالة موجودة ،منها دول الغرب الاستعمارية،وبعدها اسراءيل وإيران،

1 2 3 4

إشترك في قائمتنا البريدية