كان ينبغي منذ البداية إدخال من قدِموا لمشاهدة العرض في طقسه. ولم يقتصر ذلك على افتعال محاورة ما تجري مع أحد الحاضرين أو نزول مؤدّ إلى حيث مقاعدهم. هنا في «بطاقة إلى أتلانتس» جرى إدخال الآتين إلى ذلك الطقس، كل بمفرده.
كانت لينا عيسى كأنها تعمّد الداخل، أو تباركه، أو تقيم الرابط الأول بينه وبين البحر. «هذا الملح فلينثر فيه» تقول فيما هي تضع في اليدين الملتصقتين والمتكورتين على شكل جرن صغير قدرَ ما تسعان من الملح. وهذا لن يزول تماما بعد أن ينثر، كما ينثر الرماد، في الماء، بل سيبقى ملتصقا باليدين، صعب الإزالة، ومحسوسا مذاقه المتخيّل، حارقا في اللعاب.
كما أنه سيزيد البحر قربا منا، وقد صرنا «نحن»، على الرغم من أننا لم نكن بعيدين عنه. كنا عند حافته، هناك في ذلك الجانب المجهول منه، المختبئ عما اعتاد المتنزّهون رؤيته من شاطئ عين المريسة. كانت تلك الحافة، الممتدة في مساحة مسرح أو ملعب صغير، قد غابت عن الرؤية منذ 1975، وقد أقفل عليها، حرفيا، بباب سيئ الصنع فبدونا، إذ دخلنا، كأننا أضفنا إلى بيروت مساحة كانت مجهولة. وهناك، في الحافة، ينبغي أن يكون كل شيء بحريا: الحبال الأربعون أو الخمسون الممدودة كالمراسي، الموسيقى التي يعزفها هناك على مرتفع صغير الأرجنتيني سانتيغو كوردوبا، وكذلك تلك الإطارات الكثيرة المجلوبة فكرتها من وجه آخر مختلف من وجوه البحر، والمتحول دورها لتصير رفيقة لراكبي زوارق الهاربين من بلدانهم إلى أتلانتس، رمز «المدينة الضائعة في البحر».
ثم البحر نفسه، ذاك الذي كان علينا أن نُدخل في موقفه (بحسب ما اقترح النفري) لا أن يظل كما نراه حين نتنزه على الكورنيش أو حتى حين نعوم في مائه غير شاعرين إلا بالمساحة الضيّقة التي تحيط بأجسامنا. هنا، في القسم الأول من العرض سعت لينا عيسى، برقصها على الحافة الأكثر قربا من الماء، إلى استحضاره أسطورة وتاريخا ميثولوجيا، جامعة بين الفرعونيات الحارسات والأثينيات المودِّعات أو المنتظرات عودة البحّارة الذين لم ينبئ البحر بقدومهم، وربما لن يعودوا أبدا. بدفعنا هكذا إلى أن نذهب في الزمن البحري، صرنا نصغي إلى ما يؤدّيه البحر نفسه، مشتركا مع المؤدّين وطاغيا على حضورهم في الآن نفسه. كان قد بدأ يتحرّك، ويرتفع معلنا عن تلك القوة الهائلة التي لم يفلح شعراء التاريخ إلا في قبس العارض والقليل منها.
أما هناك، خلفنا، نحن من كنا ندير وجوهنا إلى الماء، كان الشاب المتصادم بوجوده، ذاهبا وعائدا في ركضه كأن بين مكانين: مكان الهرب ومكان الاحتمال. ربما كانت سوريا مكان هربه، أو ليبيا، أو الصومال، أو بلاد أخرى. وها هو الشاب (ميار ألكسان) بدأ تدلّيه إلى أسفل الجدار، متردّدا أيضا فيما هو يتعلقّ بين ما افترضنا أنه الهنا والهناك، ثم متدثّرا، أو مكتفا، بما تمسّح به من غشاء أبيض، الذي ربما كان كلس الأرض أو ملح البحر.
في أثناء ذلك كانت لينا عيسى قد نزلت إلى الماء وابتعدت مسافة في البحر. وإذ التقيا فمن أجل أن يكونا معا مؤدّيين ذلك الفاصل الأكثر راهنية، والأكثر هولا أيضا، في خطر البحر. الحوارات التي تجري بين المقبلين على الغرق لا ترتقي، كما جرى بين من كانوا هناك في الزورق، مقبلين على الغرق أو مجاورين لمن سيصيرون غرقى بعد دقائق أو بعد لحظات. ماذا يشعر الذين على ذلك الحد الفاصل بين الموت والنجاة، ماذا يقولون، وهل يظل الكلام معبّرا عن شيء أصلا، وهل يستحقّ أن يوجد، أو أن يظل موجودا في ذلك الانخطاف النهائي عن الوجود؟ ثم ماذا يجري للجسد لحظة ملامسته ذلك السطح الذي لن يبلغ الجسد الغارق قاعَه. في ما يمكن أن يسمى «ألف باء الموت غرقا» يؤدّي ميار ألكسان كيف يحصل ذلك الاختناق المؤدي إلى الموت، كيف تنقفل الخلايا، ثم يتجمع الدم في الصدر، ثم تمتلئ الرئتان بالدم، ثم يخرج من الفم ذلك الزبد الأبيض. أما أداء ذلك أو تصويره فكان أكثر ضراوة إذ جرى تقليص البحر إلى وعاء زجاجي (إكواريوم) راح مقدّما العرض كلاهما يؤديان فيه، بالوجوه والأيدي، لحظات الموت غرقا. كان ذلك الأداء في رهبة الموت ذاته، إذ بدا الوجهان، فيما هما يبقيان تحت الماء حتى فزع مشاهديهما، ثم يرتفعان ليبدآ فاصل اختناق جديدا، تمثيلا لموت يحدث على مقربة منا. أما الأضواء البيضاء التي رُفعت وُطيّرت مثل قناديل بحرية فبدت لنا أشباحَ الموت البحري أو ملائكته.
*في الجزء الخلفي مما كان سابقا مسبح عجرم في بيروت بدأ مساء الجمعة 2 أيلول/ سبتمبر عرض «بطاقة إلى أتلانتس»، وهو عرض أدائي وتجهيز سمعي بصري عن علاقة الإنسان وجسده بالبحر، مبني على وقائع الهروب الأخيرة نحو المجهول، كما على مآسي الغرق والموت التي أضيفت إلى ما نعرفه، وما لا نعرفه، عن تاريخ البحار.
العرض للينا عيسى وميار ألكسان، بمشاركة موسيقية من العازف والمؤلف سانتياغو كوردوبا، وهو سيستمر حتى العاشر من الشهر الجاري.
كاتب لبناني