القدس المحتلة – غيداء ماهر: «أقوى الرجال هم الأكثر عزلة، لا شيء في الخارج سوى مصنع للحماقة، واختلاط الحمقى بالحمقى، هذا كل ما في الأمر»، تشارلز بوكوفسكي.
دين كيث سيمونتون في تحليله للعبقرية استنتج أن أغلب من لديهم إنجازات إبداعية هم منتجون بشكل عال، وأن العبقرية الإبداعية تتطلب الحد الأدنى من الذكاء والمعرفة، بالإضافة إلى القدرة على إيجاد الترابط، وإدراك العلاقات المتباينة بين الأفكار. أما عن شخصياتهم، فيتميز العباقرة المبدعون بأنهم منفتحون على الخبرة المتنوعة، ويتحملون الغموض، ولديهم عدد كبير من الاهتمامات، كما أنهم انطوائيون، وربما يكونون مستقلين بشكل مفرط.
صدر قبل ثلاث سنوات كتاب «ما لا يدرك» للكاتب الأرجنتيني لويس جروس، وهو كاتب وأستاذ جامعي، وترجمته الدكتورة زينب بنياية من المغرب. يجمع المؤلف، ثلاثة من أبرز الأدباء العالميين، فرانز كافكا وفرناند بيسوا وسيزار بافيزي. يسلط الضوء على أسلوب حياتهم، تحديدا الحياة الاجتماعية، إذ لم يستطع أحد من هؤلاء الكتاب أن ينشئ روابط ثابتة مع الآخرين، ولا مع الزمن الذي عاش فيه، ولا مع الحياة بوجه عام. لكن العلاقات التي أقامها هؤلاء مع النساء كانت إشكالية إلى حد كبير سواء على المستوى العاطفي أو الجسدي، وقد كان صعبا عليهم، بوجه خاص، أن يصلوا إليهن. يقول لويس جروس: «ركزت على النساء تحديدا، لأني أرى فيهن صورة ممكنة لما لا يدرك، واستعارة نموذجية لكل ما يسعى إليه بتعطش لا يروى للمطلق.»
كان صعبا بالنسبة إليهم أن يجمعوا بين الحياة العاطفية والرسالة الفنية التي وهبوا أنفسهم لها، في باعث واحد. ثمة شيء لا يمكن تحديده، لكنه هو ما منعهم، على وجه اليقين من أن يتأقلموا مع العالم بالطريقة التي ربما كانوا يحلمون بها، كتبوا مئات الرسائل، قصصا، أسسوا علاقات تفسخت فيما بعد، حتى وإن كانوا قد تمكنوا، في بعض الأحوال من التعايش مع آخرين بشكل عابر. إن السيرة الذاتية الوحيدة الممكنة لأي كاتب هي تلك المدونة في أعماله، لم يتزوج أحد منهم ولم يرزق أطفالا، وقد اقتصرت علاقاتهم العاطفية أحيانا كثيرة على تبادل خصب لرسائل – تقطعه بالكاد لقاءات متفرقة – بالإضافة إلى إشارات تلميحية في اليوميات الحميمية، وفي مؤلفات الخيال الأدبي، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
«أرغب في عزلة تخلو من التفكير أكون فيها وجها لوجه مع نفسي وأتخيل دائما سكينة عريضة لجزار خنازير تدخل من الجنب على نحو سريع وبانتظام وتقطعني على شكل شرائح رقيقة جدا غالبا ما تتطاير مثل معجون الحلاقة جراء سرعة العمل. « كافكا
بعد وفاة كافكا بأيام نشر في الجريدة «نارودني ليستي» نعيا له : «إن قلة هم من يعرفونه لأنه كان منعزلا، ورجلا حكيما يهاب الحياة. عانى لسنوات من مرض رئوي، ومع أنه كان يتلقى العلاج إلا أنه كان يغذي مرضه متعمدا ويشجعه نفسيا: كتب ذات مرة في إحدى رسائله: «عندما يعجز كل من القلب والروح عن تحمل العبء، تأخذ الرئتان النصف، وهكذا يصبح الحمل موزعا بالتساوي» وكان هذا هو الموقف الذي اتخذه من مرضه.»
**
«لا أريد لا أذهب لا أستطيع» بيسوا
كان بيسوا يختبئ تحت طاولات مقهى مرتينو دا اركادا في أيام العاصفة، وقد كتب الطبيب النفسي سارايبا في تقريره المفصل: «كانت لديه نوبات فجائية وغريبة، كان يمشي في الشوارع، في خط متعرج وهو سكران أو يتظاهر بأنه يبحث عن أشياء على الأرض. لا ينبغي لأحد أن ينسى أنه هو نفسه من طلب إيداعه في مصحة عقلية، هل هناك من أحد يستطيع أن يشك بأنه كان مجنونا؟»
«لست رجل السير الذاتية، لن أترك سوى بضعة كتب حيث سأقول كل ما لدي أو جله. أنا الذي لا يعيش إلا بين الكتب، ولا يرى إلا كتبا، يعشق الكتب، ينام ويأكل ويفعل ذلك دائما برفقة الكتب.» بافيزي
كثيرون هم من اعتبروا بافيزي عاجزا في جوانب الحياة كافة، رجلا فاشلا، مثلما صنف كافكا، استنادا إلى رسائله التي لا تنتهي، وعلاقاتته الهشة. إلا أنه أثبت تميزه شاعرا وكاتبا وروائيا ومترجما.
**
«في العزلة كفاءة المؤتمن على نفسه –
يكتب العبارة، وينظر إلى السقف. ثم
يضيف: أن تكون وحيدا… أن تكون قادرا
على أن تكون وحيدا هو تربية ذاتية.
العزلة هي انتقاء نوع الألم، والتدرب
على تصريف أفعال القلب بحرية العصامي… أو
ما يشبه خلوك من خارجك، وهبوطك الاضطراري
في نفسك بلا مظلة نجاة. تجلس،
وحدك كفكرة خالية من حجة البرهان،
دون أن تحدس بما يدور من حوار بينا
الظاهر والباطن. العزلة مصفاة لا مرآة
ترمي ما في يدك اليسرى إلى يدك اليمنى
ولا يتغير شيء في حركة الانتقال من
اللا فكرة إلى اللا معنى.
لكن هذا العبث البريء لا يؤذي ولا يجدي. « محمود درويش
في العزلة كفاءة المؤتمن على نفسه
المبدع يدرك ذاته في العزلة .