تدخل البشرية عصراً جديداً، هذه عبارة تصف حالة التفاعل مع معطيات جديدة بدأت تشكل خريطة المستقبل في العالم، ولكن العبارة ذاتها لا تصلح للاستخدام بالنسبة لشعوب وأمم كثيرة، وفي مقدمتها الشعوب العربية، فالعصر الجديد يباغتها، يحيطها، يحاصرها، يقتنصها، ويفرض شروطه عليها، فهذه المنطقة تستهلك بشراهة منتجات الحداثة، وتساهم، تقريباً، بلا شيء في المقابل.
حصلت الدول العربية على 9 مواقع ضمن قائمة أفضل جامعات العالم، الذي يصدره المركز العالمي لتصنيف الجامعات CWUR، مصر بأربع جامعات، وثلاث للسعودية، وواحدة لكل من لبنان والإمارات، وفي مقدمتها جامعة الملك سعود في المرتبة 560 وهي مرتبة متأخرة نسبياً، بينما حصلت إسرائيل، ولا جديد في ذلك، على سبعة مواقع، من بينها ثلاثة ضمن المئة الأولى، وهي على الترتيب العبرية 27، ووايزمان 39، وتل أبيب 87، علماً بأن إسرائيل فيها تسع جامعات فقط مقارنة بالأردن التي خرجت صفر اليدين، مع إنها تضم 26 مؤسسة تمنح شهادات جامعية عدا عن الجامعات المخصصة للشهادات العليا!
تركيا حصلت على 11 موقعاً لجامعاتها، وحصلت إيران على 8 مواقع، وعلى ذلك فالمضي بالمقارنة عمل كئيب ومحبط، كما أنه ليس جديداً، وما الذي سنستفيده من الإشارة إلى أن لبلجيكا 10 مواقع و13 موقعاً لهولندا؟ مع تجنب الاستفزاز بحصص ألمانيا وفرنسا وبريطانيا الدسمة في هذه القائمة.
سيشهد العصر الجديد تلاشي الأيديولوجيات، وتساقط القوميات، وانمحاء الحدود، وبذلك فالحديث عن مدن كوكبية معزولة عن محيطها الجغرافي القريب ومفتوحة على ما تبقى من العالم، سيكون الخيار الذي ستتخذه الكثير من الدول في المنطقة، والأمر يشبه قوارب النجاة من سفن تعيش في نشوة الغرق، فهذه المدن لا تشكل في حد ذاتها حلاً لمشكلات جذرية، بقدر ما تمثل طموحاً للقفز للأمام، وتجاهل أصوات من يغرقون في «تيتانيكيات» المنطقة.
إذا كنا سنتحدث عن المستقبل، عالم الروبوتات، المعرفة المفتوحة والمباحة والشائعة، الدخل المعيشي العالمي لتشجيع الاستهلاك ليتلقى إنتاجا هائلا ينتظر من يحمله لتستمر العجلة الاقتصادية، فلماذا نتجاهل حقيقة تراجع تنافسية المنطقة، التي ستصاحب التغيرات المناخية المتوقعة، وربما الوشيكة، ظاهرة الاحتباس الحراري، جنون البحار والمحيطات المحدق؟ ولماذا يتم هدر مبالغ طائلة على مشاريع البنية التحتية لمدن مستقبلية، في الوقت الذي بدأت فيه السفن بالفعل الدخول بحذر للقطب الشمالي للانتقال بين الشرق والغرب لاختصار المسافة والزمن؟
في وقت مبكر من الألفية الجديدة كانت الطبيعة تذكّر البشرية بأنها ما زالت صاحبة اليد العليا، ففي غضون ساعات كانت أمواج تسونامي تعربد في المحيط الهندي لتلتهم أكثر من 150 ألف إنسان، ولكن لم تستمع الإنسانية لهذه الرسالة بالصورة المناسبة، وتناستها بسرعة لتستمر الوتيرة التخريبية نفسها، وبصورة ماكرة ولئيمة، أصبح مناصرو البيئة يصنفون مع الجماعات التي تحظى بنصيب وافر من الارتياب، مثل المدافعين عن حقوق المثليين، وفي أفضل الأحوال ينظر لهم بوصفهم حالمين ميؤوسا من حالتهم، ومثاليين منفرين بانفصالهم عن الواقع وشروطه، مثل النباتيين وجماعات حقوق الحيوان.
والعالم الغربي وهو يصمّ أذنيه عن مشكلة الاحترار العالمي، فهو صاحب مصلحة في استمرار طبيعة طرائقه الإنتاجية، كما أنه يعيش في مناطق من العالم ستكون الأقل تعرضاً للأثر السلبي، جراء الممارسات المعادية للبيئة، النصف الشمالي من الأرض، حيث أن الاحترار يمكن أن يصب في مصلحتهم في النهاية، وسيدفع مليارات الفقراء الثمن الباهظ في الدول المفتوحة على صراع الشمس والبحار الغاضبة، على الجثامين المشرعة الذراعين لاحتضان مستنقعات الملاريا والبلهارسيا. بنغلاديش والهند وباكستان وجزء من أفريقيا سيدفع الجزء الأكبر من جريمة لم يشترك في اقترافها إلا في الحدود الدنيا.
هل مدن المستقبل ضرورية في منطقة تتهددها بجانب صراعات الحروب والعرقيات والهويات مخاطر البيئة والطبيعة؟ ربما تعد جزءاً من الحل، ربما تكون بالفعل قوارب النجاة التي تفلت من السفن الغارقة، ولكن لماذا نترك السفينة للغرق؟
يمكن أن تتحصن المنطقة لتخفيف الآثار السلبية للمستقبل، من خلال الاستثمار في الزراعة، ملايين الأفدنة من الأرض يمكنها أن تستقبل مشاريع زراعية ضخمة في العراق ومصر واليمن، مصدات طبيعية لأي مخاطر مرتبطة بتفشي التصحر والخراب البيئي، ويمكن أن يستثمر في تحلية مياه البحار في حالة الشح المائي الذي يتفاقم مع اليد الثقيلة على منابع الرافدين في تركيا، والنيل في إثيوبيا، ومصادر الطاقة يمكن أن تكون متوفرة، والأموال التي يمكن أن تنصرف على المدن الجديدة في أكثر من بلد عربي يمكن أن تتحول لشرايين تحمل الحياة من ملوحة البحار إلى الأرض.
ليكن صدام حسين طاغية وديكتاتوراً ونموذجاً سيئاً في العلاقات العربية، يجب محاولة عدم تكراره تحت أي ظرف، ولكن يجب ألا يغفل دوره بوصفه شخصاً يمتلك رؤية حالمة، كان يمكن أن تخضع للتحسين وحتى الترويض، ومنها مشروعه لإضافة مليون فدان من الأرض المزروعة، وإتاحة الفرصة لهجرة مليون مصري، كما يستذكر المشروع المجهض المفكر المصري الراحل غالي شكري.
تفشل الفكرة بعد الأخرى في التعبير عن نفسها لتكون ولو مشروعا يطرح على أرض الواقع، فبعد نجاحات تحققت من باحثين سعوديين لتحسين المنتجات الزراعية في الأراضي عالية الملوحة، وجد المشروع نفسه مجرد أوراق بحثية مدفونة تحت ركام البيروقراطية وانعدام المبادرة. وفي مصر وبعد أن استطاع الدكتور أحمد مستجير أن يوصل صوته المطالب باستخدام التكنولوجية الوراثية لتحسين قدرة بدائل البروتين النباتية لتغطية العجز في توفير البروتين الحيواني في مصر، لم يرتد من الجامعات والمؤسسات البحثية سوى الصدى، وكأن الجامعات العربية، التي يفترض أن تكون عقلاً للأمة مع التعليم المهني الذي يفترض أن يشكل سواعدها، جميعها غائبة وعاجزة عن الاستجابة لتطلعات المستقبل وتحدياته، جميعها ديكورات تقدم شهادات للطلبة، بعد (تمثيلية) فلكلورية تقوم على التواطؤ بين المعلم والمتعلم، لأجل الحصول على ورقة تعلق على الحائط أو تصلح لتقدم مع طلب الزواج من أسرة تفترض أن التعليم جزءا من الوجاهة الاجتماعية، والدرجة العلمية مجرد وثيقة تثبت التعلق ولو بطرف بعيد من الطبقة الوسطى، وفي بعض الحالات يمكن أن تصلح للتوظيف في حكومة مترهلة، أو شركة تهتم فقط بأرباحها التي ستغذي حسابات ملاكها الذين يتطلعون لاستثمارات في ملاذات آمنة ومستقرة وباردة نسبياً، ولذلك فمن الطبيعي أن تسجل الجارات، المتأهبات (إسرائيل وتركيا وإيران) للاستيلاء على المنطقة العربية لتوسع كل منها فناءها الخلفي، تقدماً يقابله تراجع محزن ومؤسف ومشين على مستوى المنطقة العربية، التي ما زالت تفكر بمنتجات المستقبل لا بإنتاجه، ما زالت تفكر في الفرقة الناجية، سواء في الجنة السماوية، أو في قوارب النجاة على الأرض.
كاتب أردني
سامح المحاريق