■ في لقائه مع محمد الحمامصي في «العرب» تطرق صلاح فضل إلى عدد من القضايا الثقافية المحورية في المشهد الثقافي العربي، وطرح مجموعة من الآراء المهمة، إلا أن المفصل الذي استوقف المهتمين تمثل في هجومه على النقاد المغاربة والتونسيين والجزائريين، حيث أسبغ على بعضهم تهمة «الولع بالغموض الشديد جداً فأبسط المناهج اليسيرة الجميلة تتحول في قلمه إلى لوغاريتم يصعب فك لغزه».
كما قلّل من القيمة المعرفية لفصيل آخر، فاعتبره مفتقداً للبصيرة النقدية التطبيقية إذ «ليس لديه قدرة كبيرة على الاستيعاب النظري والتطبيق العملي»، فهم من وجهة نظره «يتملكون زمام الأفكار الكبرى لكنهم لا يعرفون ـ في مجملهم ـ كيفية تبيئتها ولا تطبيقها على الواقع الإبداعي». أما المبدعون منهم – في رأيه «فيحتاجون إلى مثقفين مشارقة لكي يضيئوا أعمالهم، لأنهم قد يتملكون زمام الأفكار الكبرى لكنهم لا يعرفون ـ في مجملهم ـ كيفية تبيئتها ولا تطبيقها على الواقع الإبداعي».
وكما يُلاحظ في مجمل تلك المتوالية من الاتهامات القاسية أنها تتجاوز فكرة النقد، أو فضيلة نقد النقد المغيّبة عربياً، إلى إعادة تدوير وإنتاج صراع المشارقة والمغاربة، فكلماته كانت على درجة من الوضوح والصراحة عندما جمع المغاربة والتونسيين والجزائريين في جبهة واحدة وجردهم من امتيازاتهم التي حولها إلى اتهامات، الأمر الذي يعني أن الثقافة العربية ما زالت تراوح في المربع الأول، خصوصاً أن ذلك التبخيس يأتي من ناقد يتصدر المشهد الثقافي، الأمر الذي أثار عاصفة من التعليقات والتبرمات، ليس من المغاربيين فقط، بل من فئة عريضة من المهتمين، وفي المقابل لم يصدر عن صلاح فضل أي نفي لها، ولم يواجه تلك الردود الغاضبة بأي توضيح أو توسيع لرأيه، وهو ما يعني أن الآراء المطروحة حملت شيئاً من الصدقية والجرأة، وبالتالي صارت موضوعاً للتداول والأخذ والرد. مجمل الردود تحدثت عن التعالي على ما يمكن وصفه بالعقل النقدي المغاربي، والجهل به كمنتج نوعي، كما تشاغلت معظم التعليقات العابرة بواقع صلاح فضل الشخصي والنقدي، وبالحط من قيمته والتشكيك في نزاهته، ربما لأنها لم تتسلح لا بالثقل المعرفي اللازم للمواجهة، ولا بمستوى معقول من الدراية بالمنجز النقدي المغاربي الذي نعرفه، إذ يبدو أنه – أي صلاح فضل – بحاجة إلى تثقيف بمديات ودوائر اشتغال النقاد المغاربيين، وهي مهمة ثقافية عسيرة، ولكنها ضرورية، ليس لمن أطلق سيل الاتهامات لطرف ثقافي فاعل فقط، بل للثقافة العربية، حيث يبدو أن المثقف العربي يجهل ما يؤديه مجايلوه وأقرانه في مختلف أنحاء العالم العربي، ليس على مستوى القراء وحسب، بل على مستوى النخب.
اتهامات صلاح فضل خطيرة جداً، فهو لا يكتفي بإبطال مفعول النقد التنظيري المقبل من المغرب وتونس والجزائر وحسب، بل ينفي وجود أي مراودات تطبيقية مقنعة، أو تشكّل أي مردود معرفي قابل للتداول، وذلك بسبب رداءة الاستقبال الأكاديمي للمناهج والنظريات الغربية، وعدم قدرة ذلك الطابور من النقاد على استيعابها وتحويلها إلى أدوات صالحة وفاعلة في مقاربة النصوص، والأدهى أنه يولي مهمة تطويب النصوص وافتكاكها إلى المشارقة، وكل ذلك من خلال تصريحات عابرة وبدون أي تدليل، وهذا هو طابع اللقاءات الصحافية المستعجلة النيئة، إلا أن اتهامات على هذه الدرجة من الجرأة تحتاج إلى مساءلة قائلها، في الوقت الذي تتطلب فيه حضوراً نقدياً مضاداً للذين جُردوا من معرفيتهم وذائقتهم ومنهجيتهم.
في مثل هذه المجابهات تحضر العاطفة كغطاء للجدل، وبالتالي تتراجع القيمة المعرفية المطلوبة لتخصيب حالة الحوار، فما أطلقه صلاح فضل من انتقادات للنقاد المغاربة هو بمثابة صاعق لتفجير قضية ثقافية بكل ما تحتمله من معرفية وأدبية، وبالتالي يمكن أن تؤسس لطاولة حوار تتجاوز ثنائية المغاربة والمشارقة إلى الواقع النقدي العربي، خصوصاً أن هذا الواقع متهم أصلاً بعدم وجود نظرية نقدية عربية خالصة، وبتهمة الاستلحاق بالخطاب النقدي الغربي، وبالتالي يمكن أن يكون ذلك مدخلاً لحوار جاد وخلاق بين المختبرات والمدارس والأصوات النقدية العربية، لا لنفي التهمة عن هذا الطرف أو ذاك، بل لتعريف كل طرف بما يعمل عليه الطرف الآخر، وتأصيل الفعل النقدي العربي الذي يُراد له الموت على المستوى المؤسساتي والأكاديمي والجماهيري ضمن سيرورة واعية ولاواعية.
المغاربة أساتذة في النقد تنظيراً وتطبيقاً، وما أنجزوه من دراسات وترجمات ومقاربات صارت مرجعيات مهمة لكل باحث، بل أن بعض تلك الاشتغالات النقدية الاستثنائية أصبحت هي المرجعية الوحيدة التي لا تتوفر إلا في العقل النقدي المغاربي، فلكل ناقد مغاربي مشروعه الصريح على مستوى الترجمات والدراسات والمقاربات، ولا يمكن لأي متابع أو مهتم إلا أن يرتطم بتلك الجهود اللافتة، كما لا يمكن لأي باحث أو قارئ ألاّ يعبر عن مديونيته للنقاد المغاربة، حيث تشكل المكتبة النقدية المغاربية زاداً معرفياً لا غنى عنه للإنسان العربي، وفي بعض الحقول يتفوق المغاربيون على المشارقة إلى درجة احتكار حقول نقدية بعينها، بدون أن تكون فكرة المفاضلة حاضرة في وعي العاملين في هذه الدائرة.
ليس المطلوب من كل ناقد مغاربي أن يوقف مشروعه الكتابي ليرد على صلاح فضل، أو غيره ممن يعبرون بين فترة وأخرى عن آراء غير ناضجة إزاء المنجز النقدي المغاربي، بدعوى الغموض والتعقيد والارتهان إلى الآخر، وغيرها من الاتهامات، فهذا ليس من أخلاقيات الناقد الجاد الذي يكرس جهده من أجل مشروع، وهذه هي السمة العامة لمعظم النقاد المغاربة، كما تفصح عن ذلك مختبراتهم واشتغالاتهم ومنتجاتهم، ولكن البراعة تكمن في تحويل تلك التبخيسات إلى قضية ثقافية تكشف عن منسوب وعي الذات بمشروعها، وتعطي الأجوبة اللازمة لمن يجهل الآلية أو الكيفية أو المقاصد التي يعمل عليها الناقد، إذ لا يكفي سك المصطلحات وطرح الأفكار التنويرية، بل لا بد من الدفاع الشرس عما يتبناه الناقد التنويري المفترض في النقاد المغاربة، لأن الدفاع عن المشروع جزء من المشروع ذاته، وهو بعد على درجة من الأهمية ولا يغيب عن بال النقاد المغاربة.
النقد المغاربي مدرسة واسعة وعميقة الأثر، وهي متعددة الاتجاهات، متنوعة الاشتغالات، وقد تتلمذنا عليها ولم نصادف ذلك الغموض أو الإبهام الذي تتهم به، بل أباحت لنا لغة نقدية محقونة بالأفكار والمفاهيم والاشتقاقات المتمردة، وهي بمثابة بصمة أسلوبية تميزها عن مدارس أخرى، حيث يمكن النظر إلى هذا النوع من اللافهم واللااستيعاب للخطاب النقدي المغاربي كامتياز له وليس نقيصة، لأن مدرسة النقد المغاربي تقر بالتصارع الفكري داخل حالة من التكامل بين مختلف التيارات، وما تستجلبه من نظريات، وما تطرحه من إضاءات للنصوص يؤكد على مزاج نقدي له نكهته الخاصة، التي قد تحتاج إلى حضور أكبر للنقاد المغاربة في الحياة الثقافية العربية للتعبير عن أفكارهم بشكل أفضل، ولا أعتقد أنها بحاجة إلى من يترافع بالنيابة عنها، بل إلى مساحة أكبر للحضور لتعرّف عن نفسها، وهذا هو ما يحتم إيجاد منصة لالتقاء المدارس النقدية العربية.
٭ كاتب سعودي