هناك نوع من العدائية المرضية نحو الآخر في الخطاب السياسي العربي الراهن، والأمر يتجلّى بشكل كبير في الأزمات الحادثة من حين لآخر بين الدول العربية سياسيا ودبلوماسيا، فالرؤية السياسية محدودة ومنعزلة عن تطلّعات الشعوب، ولا تُحسن التعامل مع الحراك النقدي الذي يُعرّي الظلم ويسلّط الضوء عليه.
وتغدو وسائل الإعلام منصّة تبرير للمراهقة السياسية وتعتيما للفشل السياسي، وهي عبارة عن شبكة مسرح مليئة بالوعود الكاذبة تبحث عن تصدير الأزمات نحو الخارج. علينا أن نميّز النموذج الأمثل الذي نرغب فيه في تصوّرنا للدولة، وأن نجد رابطا مشتركا وإطارا جامعا يتّفق الجميع حوله، خدمة للدولة وليس الأيديولوجيا الحزبية أو المذهبية أو الطائفية مصدر جميع النّزاعات في الوطن العربي.
وفي تقديرنا يكمن السبب الحقيقي لهذا الانشطار والتشظّي في المخيال الجمعي العربي، في فساد الدولة العربية الراهنة، كمؤسسة تُقدّم نفسها آلية جامعة، ومأزقها يكمن في نُظمها السياسية التي لم تغادر أسوار الأنظمة السلطانية وحالة الشخصنة والفردية، وهالة التقديس للعائلة والزعامة. وقد فشلت في اجتراح نموذج توافقي بعيدا عن أشكال الاحتراب المُنحكم إلى نماذج معيارية ثابتة.
إنّ الأمر يتعلّق حينها بتهذيب العلاقات الإنسانية، بعد أن طغت ثقافة المراهقة وانتشرت في العالم بأكمله وليس العالم العربي فقط، ما جعل الحاضر مقلقا وبائسا ولا يكفّ عن كونه نسيجا من الاقصاءات والصراع المحتدم، الذي غيّب المشروع الأنبل في حاضرنا الفكري والسياسي، وهو ذاك الذي يُزاوج بين تحرير الأمّة من الاستعمار متعدّد الأشكال، والتخلّص من الهيمنة الأجنبية، وتجديد الفكر والارتقاء بالذّهنيات، وهي مسؤولية النظم السياسية بالدرجة الأولى، والمهمّة تنسحب أيضا على المثقّفين الحقيقيين وأهل العلم، الذين يفقهون مطالب المرحلة وضروراتها. فالدولة تشكيل اجتماعي بالدرجة الأولى يمنع نزوع الفرد لانتماءاته المولودة، وهي وُجدت لتمنع النزوع الطائفي والاحتراب الديني والإثني بأنواعه. ويبدو أن الدولة العربية لم تنجح في ذلك، فالفساد والظلم والاستبداد والقسر منعها من جعل شعوبها تُعزّز صفة الانتماء الهوياتي والحضاري ضمن إطار عروبي جامع، ففي كثير من الأحيان تصبح الدولة مصدر توليد النزاعات وتأجيج الصراعات، وبالتالي إنتاج العنف ونشر الفوضى. وعندما يُحوّل الحاكم المستبدّ الدولة إلى جهاز خاضع لإرادته، الأمر الذي يجعل المؤسّسات الاقتصادية والسياسية والقانونية والبيروقراطية الإدارية تتحوّل بدورها إلى قوّة سياسية غير قانونية تخدم الدولة المُشخصنة لا دولة المواطنة، فإنّنا لا نستغرب حينها تصرّف من يحكمون الدول العربية.
وينشأ عن ذلك كلّه أنّه حان الوقت للتعامل مع هذا الواقع المقرف وتحسيس مثل هذه الأنظمة الحاكمة ضرورة أن تعيد مراجعة ذاتها وأهدافها لأنّها أصبحت في وضع لا تُحسد عليه، اختلّت مناهجها وتقلّصت أرصدتها الأخلاقية والانسانية وفقدت مصداقيتها في نظر شعوبها. فأمرها لا يتعدّى الشعارات السياسية أو القوانين الدستورية غير الملموسة في الواقع اليومي، وهي متخاذلة في قضايا الأمة وأهمّها القضية الفلسطينية، وانقسامها المُعلن يُضمر أو يُجاهر بالولاء لقوى أجنبية.
لا فكاك مستقبلا من فضاء علمي عقلاني تعيد فيه الذات العربية النظر في المشاريع الثقافية والاقتصادية التكاملية، وتُهندس وعيا بديلا أساسه الأخلاق والعلم وعماده المراجعة والنقد والتعديل، بحثا عن إصلاح حياة الإنسان العربي بالتّمييز بين مطالبها وشروط بقائها المادّية والمعنوية. وهو ضرب من المصالحة مع الذات وهويتها باعتبار أن وعي الذات هو المدخل الرئيس إلى وعي العالم واستيعاب الآخر ضمن الحضور الذاتي والثقافي. ولكن هذا المطلب الحضاري والتاريخي الذي نتطلّع فيه إلى عصر أنوار عربي يفترض إزاحة النخب المهترئة والعاجزة والشقيّة، التي اكتفت بتعطيل مسيرة النسق الفكري والمادّي، وشجبت الحلم العربي ومنعت الاستفاقة الحقيقية.
كاتب تونسي