كان جورج طرابيشي جاري في الحيّ، ولكي أستقل المترو فإنني أعبر من مركز تجاري اعتاد هو أن يتسوق فيه. قبل أيام قليلة سبقت رحيله، صادفته يجرّ عربة التسوّق الصغيرة، فمازحته بعبارة تفيد الشيخوخة، فابتسم واستوقفني، وأوقف المزاح أيضاً، سائلاً بنبرة جادة وحزينة: لوين رايح بلدنا؟ ولإني كنت على علم بما ينطوي عليه موقفانا من تباين، فقد فضّلت العودة إلى مزاح، لا يغيب عنه الجدّ بالتأكيد: رايحين ع الحرية!
لا أزعم أنني تربيت شخصياً على مشروع طرابيشي الفكري، وكنت وأظلّ أختلف معه في كثير جوهري، كما أتفق في كثير آخر لا يقلّ اتصافاً بالجوهري؛ لكني أقرّ بما له عليّ من فضل في ترجمات كثيرة، لم يكن ممكناً لي أن أطلع عليها قبل أن أمتلك ناصية لغات أجنبية. وإذا كنتُ أكثر حماساً لأعماله الفكرية والفلسفية، السجالية بصفة خاصة؛ فإنّ علاقتي بمؤلفاته النقدية، وخاصة «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية»، 1973، و»شرق وغرب، رجولة وأنوثة»، 1977، انطوت على تفاعل إيجابي أعمق، رغم أنها نهضت على مزيج خاص من التعلّم والتشكك. وفي معركته الشهيرة مع محمد عابد الجابري، وجدتني أنحاز إليه من بوّابة مساءلاته النقضية بصدد تشخيص الجابري الإبستمولوجي لمفهومَيْ «الشرق» و»الغرب»؛ وفي الآن ذاته لم أستطع هضم مقولاته المتشددة حول العلاقة شبه الميكانيكية بين العلمانية والديمقراطية، أو انجرافه إلى حماس عصبوي لصالح «علمانية» أصولية لا تُبقي ولا تذر!
كذلك وجدتُ رابطة عجيبة بين تنقّلاته المهنية (مدير إذاعة دمشق، خلال الأشهر الأولى من انقلاب حزب البعث، 1963؛ ثمّ رئيس تحرير «دراسات عربية»، في بيروت؛ ومحرر مجلة «الوحدة»، في باريس)؛ وتبدلاته الإيديولوجية، من القومية إلى الماركسية فالوجودية؛ وكيف أنّ هذه المحطات تبادلت التأثير في مشروعه الفكري والنقدي، فلم تغب تماماً مؤثرات أيّ من هذه المراحل في بعضها البعض، كما أقرّ هو نفسه. وليس بغير دلالة خاصة أنه ينهي المجلد الرابع من عمله الموسوعي «نقد نقد العقل العربي» بخاتمة ـ يعتبرها مؤقتة، هي ذاتها! ـ تقول إنّ هذا الجزء، الذي وقع في 424 صفحة، «لم يتوصل إلى أن يحسم أكثر من نصف الإشكالية، فالشيء الذي أفلحت صفحات هذا المجلد في إثباته ـ أو على الأقل هذا هو المأمول ـ هو أن استقالة العقل في الإسلام لم تكن بعامل خارجي ونتيجة لاكتساح ساحته من قبل جحافل ‘اللامعقول’ المندفعة من مكامن ‘الموروث القديم’ في الإسكندرية وأفامية وحران… إلخ».
لكن طرابيشي هو، أيضاً، ذلك المفكر النقدي الذي تعصّب للعلمانية بشدّة، لكنه تجاسر على القول إنّ الإسلام، وليس «التمدن الإسلامي» وحده، أكثر علمانية من المسيحية: ثمة «إسلام علماني» ينبثق من حقيقة أن الإسلام لا تحكمه معايير ثقافية مقدسة سوى القرآن، وأنّ جميع مظاهر الممارسة الاجتماعية في صدر دولة الإسلام الأولى كانت علمانية في الجوهر. صحيح أنّ هذا الخطّ في التفكير، أو الترجيح بالأحرى، يرتكز على فرضية ثقافية صرفة، إلا أنها لا تخفف من غلواء التشدد العلماني الذي عُرف به طرابيشي فقط، بل تعيد تصريفه في أقنية انفتاح وحوار وتفاعل.
وحين بلغني نبأ رحيل طرابيشي، كتبت على «تويتر» هذه التغريدة: « السلام لروح جورج طرابيشي (1939ـ2016)، الآن وقد أخلد إلى سكينة ثمينة، افتقدها طيلة عقود من حفر معرفي خلاق، وتعصب علماني قَلِق ومؤرَّق». وفي البال أنه أقلق قارئه مثلما أصيب بقلق ذاتي دائب، وأرّق القارىء إياه على نحو لا يقلّ مضاضة عن أرق المفكر في ذاته، ومن ذاته.
كاتب سوري
صبحي حديدي
*
الأخ صبحي،
بمناسبة ذكر تلك الخاتمة المؤقتة التي اختتم بها الراحل جورج طرابيشي المجلد الرابع من عمله الموسوعي «نقد نقد العقل العربي»، والتي قال فيها إن «[…] استقالة العقل في الإسلام لم تكن بعامل خارجي ونتيجة لاكتساح ساحته من قبل جحافل ‘اللامعقول’ المندفعة من مكامن ‘الموروث القديم’ في الإسكندرية وأفامية وحران… إلخ»، أود هنا أن أعيد تينك الملاحظتين اللتين أبديتُهما في تعقيبي على مقال المصطفى المصدوقي، «مصير الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي ما بين الجابري وأركون» (ق ع، 8 آذار 2016) – خصوصًا وأن المصدوقي لم يبيّن السبب الجوهري في انحسار التفكير الفلسفي من الساحة الفكرية الإسلامية، وفي طغيان الموقف الديني أو الصوفي في المقابل (موقف الغزالي مثلاً)، من طرف، وخصوصًا وأنه (أي المصدوقي) لم يبيِّن كذلك الفرق الجوهري بين محاولتي محمد عابد الجابري ومحمد أركون في تبيان هذا السبب، من طرف آخر.
أولاً، عندما يقول الجابري في كتابه «إشكاليات الفكر العربي المعاصر» إن هذا الموقف اللاعقلاني بلباسه الديني (أي الموقف الصوفي) هو الذي شكَّل الأطر الاجتماعية الثقافية والسياسية، وهو «الذي حوَّله العامة إلى قوة مادية تقف بالمرصاد لكل نهضة عقلية»، فإنه (أي الجابري) يضع اللائمة على الشعب أو الرعية بشكل مباشر، من جهة، ويسعى إلى تبرئة الطبقة الحاكمة أو الطبقات الحاكمة بشكل غير مباشر، من جهة أخرى. ليس، إذن، هكذا تمكن الغزالي من صد الفكر العربي الإسلامي عن الفلسفة وتوجيهه نحو التصوف، كما يزعم المصدوقي.
ثانيًا، عندما يقول أركون في كتابه «نقد العقل الإسلامي» أيضًا إن غياب الموقف العقلاني من الساحة الإسلامية مردُّه إلى غياب الإطار الاجتماعي-الثقافي المُتيح للفلسفة وإلى تأسيس نظام أمني بديل لأن «الفلسفة النقدية لا يمكن لها الإسهام في تشييد مثل هذا النظام، على العكس إنها تهدده بالأخطار»، فإنه (أي أركون) يتخذ موقفًا متناقضًا تمامًا مع الموقف الذي يتخذه الجابري. هكذا، إذن، يتجلى موقف أركون إلى جانب صفوف الجماهير ضدَّ الطبقات الحاكمة التي كانت، وما زالت، تستغل ترسيخَ الشريعة الإسلامية الصارمة في نفوس هذه الجماهير وذلك من أجل الحفاظ على هذا النظام الأمني، أولاً وآخرًا.
وبالتالي (وهذا رأيي أيضًا)، فإن السبب الجوهري في انحسار التفكير الفلسفي من الساحة الفكرية الإسلامية لا يعود إلى تغيُّر الإطار الاجتماعي-الثقافي المُتيح لهذا التفكير، وإنما يعود إلى أطماح وأطماع الطبقات الحاكمة التي غيَّرت، لا بل غيَّبت، هذا الإطار لمآربها البقائية الخاصة. تُرى هل كان العامل الداخلي الذي تسبَّب في استقالة العقل في الإسلام، في نظر الراحل جورج طرابيشي، نابعًا مما كان ينظر إليه أركون أم نابعًا مما كان ينظر إليه الجابري، على الرغم من معركته الشهيرة مع هذا الأخير؟؟!
السلام لروح جورج طرابيشي، على أية حال، وهو أفضل من جعل فرويد ينطق بالعربية، بلا منازع.
تحياتي : رحل جورج طرابيشي بعدما قدّم الكثيرللغة الضاد ؛ مهما أختلفنا معه في رؤياه.لكن المهم أنه ترك للمكتبة العربية الحديثة الكثيرمن لقاح الغرب والشرق ؛ وإنْ لم نتفق مع العديد من تلك الرؤى ؛ فهذا لا يفسد للودّ قضية.إنما عوّضنا الله عن الراحل بك أنت الكاتب والمترجم الرائع الرؤى صبحي حديدي.نقرأ كلماتك.. التي هي فعلاً مثل ( الأسطورة والرواية ) لميشيل زيرافا.ونريد الكثيرحتى ( نطيرفوق عش الوقواق ) بأجنحة قويّة.
فمن أرض الشام الكبرى نبت رجال قدّموا للثقافة ( ثقافة ) وللفكر( فكراً ) بديعاً… وللحضارة ( زيت زيتون نقي بكر) أنت منهم ياسيدي صبحي حديدي ؛ بارك الله بعمرك وبعطائك وبمقالاتك التي تدلّ على أنك فعلاً : ( أستاذ لعبة الـ غو).إنما نسعى لتكون لك لعبة عربية ذات حضوروسمواسمها حرب العالمْين الأولى والثانية
مهما كان ( ضجيج الجبل ).فهوجبل من رمال لا من صخورثقال.والسّلام.