الغمزة والعقاب…

حجم الخط
14

كنت طفلا لا يُعِرْنَ وجودي بينهن اهتماما، أسمعهن يتحدثن بصوت أقرب إلى الهمس بأنه قتل شقيقته فائقة الحُسن والجَمال، هناك من حرّضه ودفعه دفعا للجريمة، كنّ يذكرن بكراهية اسم المحرِّض الذي قال له: «أنت مش زلمة، احلق شاربيك أحسن لك، روح شوف أختك شو عاملة».
كانت جريمة شقيقته: أن هناك من رآها تبادل شابا الغمزة بالغمزة والابتسامة بالابتسامة في أحد أفراح القرويين.
التحريض كان كافيا ليحوّل حياة المراهق إلى جحيم، أين عينيه من كل هؤلاء الذين باتت نظراتهم تحتقره، حاول تجاهل الأمر والتغلب على حنقه وغضبه، ولكن الكلمات والنظرات كانت بعوضا يلسعه فيحرمه من النوم، ها هي في الغرفة الأخرى تغط في نومها بعدما فعلت فعلتها مع ذلك النذل، هل يقتله! لا، حينئذ ستطرد الأسرة من البلدة، ودفع ديّة وثارات عائلية، ثم ما ذنب الشاب الذي يجد فتاة «سائبة» تبادله الحب والغمزات والحركات! إذا واجبه هو أن يربّي شقيقته، وأن يربي من خلالها بنات العائلة والبلد كلهن.
– قومي حضري لي زوادة للشغل.
استيقظت وقامت سمعا وطاعة، تعد له بِحبٍ الزيت والزيتون وكرات اللبنة وأرغفة الطابون، تردد للحظات ثم فاجأها قائلا… حطيتي راسنا بالوحل يا كلبة.. بهدلتينا..
– ليش خيّا..
– وبتسألي ليش خيّا..!
طعنها في صدرها عدة طعنات وهي تغرغر بدمائها.. ليش خيا حتى انطفأت.
خرج هائما على وجهه، مضى إلى كروم الزيتون وجلس على التراب منتظرا شيوع خبر قتله لشقيقته ونبأ استعادته رجولته وكرامته.
ولكن بقي صوتها وصورتها وهي تلفظ أنفاسها لا يفارقانه… ليش خيا..!
حُكم بالسجن المؤبد، ولكن بسبب سلوكه الحسن خُفّف عنه، وصار يُسمح له بزيارة القرية في الأعياد، يقضي ثماني وأربعين ساعة بين ذويه، يبدأها بزيارة قبر شقيقته، يُقرفص فوق شاهد القبر لتتساقط دموعه فوق أوراق الميرمية وزهور الخبيزة على قبرها، يسمع صوتها من القبر.. ليش خيّا، فيزداد بكاء وحرقة، حتى يأتي من يواسيه ويأخذه إلى البيت.
أذكر رجال عائلته جالسين على فراش أرضي في محيط الديوان في الحارة، ظهورههم على المساند وبين كل اثنين وسادتان، يتكئون عليها تارة وتارة يحضنونها والقهوة السادة تدور، وهو في مركز المجلس برغم صغر سنه، يرتدي قميصا أبيض مكويا وسروالا غامقا، كلما دخل أحدهم وقف ليصافح ويعانق.
بعد خمسة عشر عاما أنهى محكوميته، وعمل في عدة مهن تعلمها في السجن، وما لبث أن تزوج وأنجب وأطلق اسم شقيقته المغدورة على أولى بناته. لا أحد يتحدث معه عن جريمته، فما أن تُذكر أمامه حتى تغرورق عيناه، فهو لم يغفر لنفسه، ولا لأولئك الذين حرّضوه، لم يرحموها ولم يرحموه.
أذكر هذه الجريمة وقد سلم الجاني نفسه معترفا، ولكن على مر السنين سمعنا الكثير عن امرأة أو فتاة في فلسطين وغيرها، قتلتها رصاصة طائشة، أو رصاصة انفلتت أثناء تنظيف سلاح كان بيدي زوجها أو شقيقها، وأخرى تعثرت فسقطت من عن سطح البيت وهي تجمع الغسيل، بينما سقط على رأس أخرى حجر من السماء فحطم جمجمتها، وهناك من غرقت في وادي موسي أو سقطت في بئر مهجورة أو حتى في بئر المسجد، وأخرى أحرقت نفسها، أو احترقت أثناء الطهو ولم يصل أحد ليطفئها، وأخرى شربت مادة سامة بتركيز عال بالخطأ.
كلما تقدمت به السن شعر بالظلم الفادح الذي ارتكبته يداه، خصوصا وهو يــــرى ما آلت إليه العلاقات الاجتماعية عبر السنين.
ثورة الاتصالات والمواصلات والتحولات الاقتصادية والعلمية جعلت العلاقات الإنسانية سريعة التغيير، ولا يمكن إلا أن تتأثر بها المجتمعات جميعها في كل مكان.
ها هن فتيات البلدة والعائلة يدرسن في جامعات البلاد وخارجها، من حيفا حتى بئر السبع مرورا بتل أبيب والقدس وجنين وعمّان، بل وطار بعضهن إلى روسيا وشرق أوروبا وإنكلترا وإيطاليا وأمريكا وغيرها، ها هن مئات النسوة يخرجن بسياراتهن أو بالحافلات صبيحة كل يوم من البلدة إلى أعمالهن ووظائفهن، معظمهن على آذانهن سماعات يتحدثن مع مجهولين، في مظاهرات المناسبات الوطنية يشاركن ويهتفن بالآلاف، بعضهن يُعتقل ويُسجن ويحقّق معهن، ها هو يرى طلاب وطالبات الثانوية في مثل عُمر شقيقته يمرون من أمام بيته فرادا وزرافات يتبادلون الأحاديث والضحكات في الذهاب والإياب، كلهم بلباس جينز كحلي مُوحّد. ها هو يرى في البلدة فرقا رياضية للفتيات لكرة السلة والشبكة وكرة القدم وسباق الحقل، وغيرها، كلما تقدمت به السن أكثر، باغته صوتها من غير موعد.. ليش خيا..ليش خيا.
جرائم قتل النساء ليست فقط عند العرب فللأجانب فيها نصيب أيضا، لكنها عندنا أكثر بكثير لأن بين ظهرانينا من يمنحها شرعية رسمية وشعبية.
قبل أكثر من خمسة عقود رجلٌ جاهل حرّض مراهقا فقتل شقيقته، ولكن التحريض ما زال مستمرا.
بعض الدعاة لا خُطب لديهم إلا تبرّجها وملابسها وعطرها وحيضها وأظافرها وصوتها وخروجها للعمل. يشعلون نيران الحقد في رجال مكبوتين مقهورين من احتلال واستبداد وصراع شرس على لقمة العيش حتى يشعروهم بالخزي والعار، بعضهم يتحول إلى وحش إذ يفقد السيطرة فيهاجموهن لفظيا ثم جسديا.
تقدمنا وتقدمت أدوات الجريمة، العثور على سيارة محترقة بداخلها جثة امرأة، إطلاق رصاص على سيدة لحظة خروجها من دكان ملابس أو من مكان عملها أو من بيتها، مجهول أغلق طريق سيارتها ثم تقدم منها وأطلق النار على رأسها من كاتم صوت. تقدمنا أكثر، يحكى أنه صار في بلادنا مقاولون لجرائم القتل، تدفع ثمن الجريمة وهناك من ينفذ من دون أن تعرفه، تسمع الخبر مثلك مثل غيرك.
نحن مجتمعات محافظة في معظمها تتعرض لغزو بل لتحطيم ثقافي وفكري ومادي وقِيَمي، هذا يؤجج صراعا داخل كل بيت حتى بين الفرد ونفسه، فلا أحد يستطيع عزل نفسه وأسرته عن أعاصير التغييرات الجارفة.
لا توجد حلول سحرية، لا بالتجاهل ولا بالعنف، الحل في الواقعية الوسطية، من خلال عقد اجتماعي يحرّم التحريض على المختلف وخصوصا على النساء، وتقديس خصوصية الفرد، وبأن نجد المعادلة الذهبية بين القيم الروحية والاجتماعية التي ورثناها في عروقنا وبين الحياة العصرية ومتغيرات الواقع المادي، لا تزمّت قِيَمي وتقوقع في الماضي يُفقدنا توازننا في مواجهة أعاصير الواقع فننكسر، ولا فَراشٌ تائه يرمي بنفسه في ألسنة اللهب فيحترق.

الغمزة والعقاب…

سهيل كيوان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) النور
    هذا هو حكم الله في الزاني والزانية
    ويقال أن هذه الآية قد نسخت حكم الرجم للمحصن !
    والدليل هو أن آية الرجم بسورة الأحزاب (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة،) قد نسخت
    جرائم الشرف بلا شرف, لأنها تعارض حكم الله في كتابه العزيز
    ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول Samaher:

      تحياتي لك ..الشرع بآيات الله حق ..حتى الله في اياته الكريمه حرم قتلها والاية هنا تعني امساكهن في البيت حتى يأتي هدى الله ونعمة مغفرته عليها لتتوب …الله رحيم وغفور يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ۖ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا..لكن نحن مجتمع مجرم جاهل لو تعاملنا مع النساء والبنات بشرع الله وعدالته لكنا ارفأ المجتمعات بالمرأة

  2. يقول سوري:

    كلما سمعت عن “جريمة شرف” يعتريني عجب من هؤلاء المجرمين القتلة، قتلون فلذة اكبادهم او اخواتهم وامهاتهم وزوجاتهم على ذنب يقولون انه مس بشرفهم، وهل الشرف يغسل بجريمة قتل؟ والأغرب من ذلك قوانين دولنا لا تحاسب القاتل كمجرم حسب قانون الجنايات بل نراه حرا طليقا بعد فترة وجيزة من جريمته. يجب محاكمة هؤلاء كقتلة كأي قاتل آخر. ان النساء اللواتي يتهمن بمثل هذه التهم ربما كن بريئات، وإذا لم يكن فهن احرار في اجسادهن كالرجل ولا أحد له الحق أن يحاكمهن على فعلتهن اذا استندنا الى القانون العام.
    الشكر لكاتبنا سهيل كيوان لإثارته هذه القضية ، “فليش خيا” أو ” ليش بيا” ما زالت تردد من بعضهن ويرسلن إلى القبور

  3. يقول Samaher:

    مقال صارخ وأليم فيه تصوير حرفي حي لمجتمع بضمير ميت ..
    هذا الذي يسمونه شرف العائلة يثير الاشمئزاز من مجتمع معتوه لا زال يؤمن بجاهليته التي وئدها الاسلام ويتمسك بسيمات عارها في روح كل انثى خلقها الله في حياته ..هذه الانثى التي دفنت بداخلها الف انثى غيرها بأي ذنب قتلت ..!! وعار هذه العائلة وتلك وشرفها كله هل اصبح يتوقف على كف انثى ..! والقاتل اصبح مثل المثل الذي يقول ..بعد ما مات شنقوه ..شو نفعك يا ندم بعد فوات الأوان ..!! بدلا من ان يندب ويعيش تحت تعذيب ضميره وتأنيبه له ليتساءل لماذا لم يكن هو ذالك السلاح الذي يحميها سابقاً ويدافع عندها قبل ان يصبح هو السلاح ذاته الذي تغمد جسدها واشرع قتلها ..

  4. يقول Samaher:

    اضافة *

    فقد تغيرت الدنيا منذ ذلك الوقت ولكن العقلية لم تتغير وصارت الجريمة بادوات وطرق اخرى ، علينا ان نتمشى مع العصر وان نخافظ على هويتنا وكما قال الكاتب الوسطية هي الحل لا يمكن ان نبقى في عقلية القرن الماضي في عصر التحولات الكبير ة اقتصاديا وعلميا

  5. يقول دينا. افروديتا:

    المرأة المرأة والمرأة هي من اقوى خلق الله اذا علمت باسرار قوتها وتوفر لدبها صديقات حقيقيات..
    في بلاد الوسط من الدول العربية يستغل المعارضة والمعاقين ذهنيا قضايا المرأة لاحداث الفوضى بالبلاد تحت ذريعة الشريعة ..
    المشكلة في الجهل والاستغلال وظلم الدولة لافراد شعبها المتنوع بشتى الطرق ..
    المرأة هي انسان حر

  6. يقول سامح //الأردن:

    *كل هذه الجرائم ف العالم (العربي )
    والعالم (الإسلامي) نتيجة الجهل والتخلف.
    لسا من يومين علقت على جريمة بشعة
    حصلت في (باكستان ) المنكوبة مثلنا.
    *غير جرائم الشرف يوجد ظلم شديد
    ع النساء في موضوع (الميراث)..؟؟؟!!!
    كثير من الناس وخاصة ف (الأرياف)
    لا يعط المرأة حقها ف الميراث
    والأنكى من ذلك لو كان عند المرأة (أملاك)
    وتزوجت من رجل غريب يستولوا على
    أملاكها بحجة عدم إنتقال الأملاك (للغرباء)؟!
    *سلام

  7. يقول سامح //الأردن:

    *فاكرين حركة (طالبان) أفغانستان
    عندما استلمت السلطة في
    أفغانستان أول عمل قامت به
    (إغلاق مدارس البنات)..؟؟؟
    *وطالبان(باكستان) مع أنها خارج السلطة
    حذرت الفتيات من الذهاب للمدارس..؟؟؟!
    أما جرائم الشرف عندهم (حدث ولا حرج).
    سلام

  8. يقول ناديه:

    مقالة قصصية لغتها سلسة واضحة وأسلوبها جذاب ومشوق تحتوي على عنصر الوصف تسردها كاتبنا بطريقة تثير الانفعال والعاطفة اتجاه فكرة العنف الجسدي والنفسي الموجه ضد النساء. هذا إرث جاهلي قديم ما زال يترسب في عقلية الرجل الشرقي برغم العصرنة والحداثة في مجتمعنا العربي وخروج النساء لسوق العمل وريادتها في مراكز كثيرة لا تعد ولا تحصى الا ان هذه الافة الاجتماعية في تزايد دائم. لقد إعتنى ديننا الاسلامي بحقوق المرأة واعتبرها شريكة الرجل وصانعة الحضارات ومربية الأجيال ووصفها الله في كتابه بانها مصدر السعادة والهدوء والطمأنينة القلبية فقد قال الله تعالى : ومن اياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. كما ضرب رسولنا الكريم ( صلعم) أروع الأمثلة في فن التعامل الراقي مع النساء بوصفهن بالقوارير وهي دليل الرقة والنعومة وعلى الرجل التعامل معها برقة حتى لا تكسر ولا تخدش . ابدعت كاتبنا في سرد الجرائم المرتكبة بحق النساء عامة وفي وصف تأنيب الضمير لمرتكب الجريمة دام قلمك منارة تنير الرأي وسط عتمة الظلم في هذا العالم.

  9. يقول محمد علي حسين:

    مكانة المرأة و تمكين المرأة هي احد اسباب تقدم اي امة. و تحقير المرأة او اعتبارها سلعة هو السبب في تخلف اي امة.
    ناهيك عن المرأة كقوة اقتصادية و ذهنية قد تفوق الرجل الا ان الاهم هو ان المرأة هي مربية الرجال و النساء. و المرأة الحرة القوية المتعلمة المتمكنة اقدر على انشاء جيل قوي حر متمكن متعلم من الرجال و النساء. يعني قوة لمرأة تحدد مستقبل الامة.
    الا ترى الفروق بين الاولاد بسبب مستوى الام؟ الم ترى حالات كثيرة اختلف فيها الاولاد بسبب مستوى امهاتهم مثلا اولاد رجل انجب من امرأتين او اولاد اخوين انجبا في نفس الظروف مع اختلاف الام. المرأة هي الاهم.

  10. يقول سلام عادل(المانيا):

    الكذب والخداع والسرقة والفساد والخوف من السلطة والحكام كل له تبريراته ولكن الحب يصبح زنا والعلاقة بين المراة والرجل يصبح رجز من عمل الشيطان.كل ما يحدث وحدث في بلدي العراق من سرقة وقتل وتدميرمن قبل الساسة لم يغير نظرة المجتمع لهم ولكنهم اول عمل لهم منذ استلام السلطة هو ملابس المراة وما يجب عليها وما لايجب

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية