القربان بين الدين والسياسة

للقربان في الدراسات الاجتماعية سحر خاص جعله محورا لعدد من الدراسات في علوم كالانثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم الاديان المقارن، ولأن موضوع القربان ذو صلة وثيقة بموضوع التضحية والفداء، لذلك دخل عدة مداخل دنيوية أضيفت لماهيته الدينية، أي أن القربان في أصل وجوده هو تقدمة يقدمها الإنسان إلى معبوده، اعتقادا منه أن هذه القرابين ستقربه مما يعبد.
ثم تطور الأمر فأصبح القربان تقدمة غايتها تحقيق غايات دينية بالإضافة إلى الغايات الدنيوية، ومن هذه النقطة استثمرت علاقة القربان بالفعل السياسي.
وعرف تاريخ الأديان والحضارات التقرب إلى المعبود بالتضحية بالقرابين البشرية، فيذكر عالم الإنثروبولوجيا جيمس فريزر في سفره «الغصن الذهبي» أن ملك السويد اون وهو شخصية مهمة في الميثولوجيا الاسكندنافية ذبح ابناءه التسعة قربانا للاله اودين. كذلك في اليونان القديمة كان هنالك على الاقل بيت ملكي واحد يعود إلى التاريخ السحيق، حيث كان الولد الاكبر عرضة للموت كأضحية، كما عرفت الحضارة المصرية القرابين البشرية في ظاهرة «عروس النيل»، حيث كانت تقدم عذراء جميلة أضحية لإله النيل (حابي) للحفاظ على الخيرات التي يقدمها للمصريين، وتجنبا لغضبه الذي قد ينعكس على شكل طوفان مدمر. كذلك عرفت حضارة الإزتك في المكسيك أنواعا مختلفة من القرابين البشرية التي كانت تقدم إلى مختلف الآلهة، كما لعب القربان دورا محوريا تأسيسيا في الاديان الإبراهيمية، ففي اليهودية هنالك قصة إطاعة النبي ابراهيم (ع) لامر ربه عندما هم بالتضحية بولده اسحق (ع)، وفداؤه بعد ذلك بكبش سماوي، مما رسخ تقليد القربان المقدس في اليهودية حتى اليوم، كذلك نجد قربانين بشريين في نشوء الاسلام، الاول هو قصة الذبيح الابراهيمي الذي تغير في الاسلام إلى النبي اسماعيل (ع) ابو العرب، وفداؤه باضحية سماوية، ووالد الرسول محمد (ص)، عبد الله، الذي وقع عليه نذر والده في الذبح، ثم تم فداؤه بمئة ناقة.
أما القربان في الدين المسيحي فانه يمثل الحجر الاساس في الدين، عبر فداء السيد المسيح (ع) لبني البشر بالامه على الصليب لتخليصهم من خطيئتهم الاولى، ثم تحول جسده إلى خبز ودمه إلى نبيذ في سر اساسي من اسرار القربان المقدس.
وبحسب عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركايم فإن الطقوس الدينية تمثل الرابط الأهم الذي كان يربط الجماعة الاجتماعية ويقوي من تماسك المجتمع، لذلك كانت طقوس تقديم القرابين يصاحبها الاحتفاء بالقربان، كما أن التقديم يجب ألا يتم بالإكراه أو غصب القربان البشري على هذا الامر، انما تصاحبه مراسم احتفالية تتمثل بلبس أفضل الثياب ووضع الزينة والحلي، كذلك المكانة المقدسة التي ينالها المقرب به، والتي تتمثل في انعكاس سلوك المجتمع في التعامل باحترام وتبجيل مع عائلته بعد ذلك، وهذا ما دفع الباحث التونسي وحيد السعفي إلى قراءة مختلفة لموضوع الوأد قبل الاسلام، إذ اعتبره نوعا من القرابين البشرية التي كانت تقدم لإله الأرض، حيث يتم تزيين الفتاة وتهيئتها وقد اقتنعت بذلك لتقدم قربانا، ومن هنا جاء الحديث النبوي الذي صححه بعض علماء الحديث (الوائدة والموؤدة في النار).
وفي موضوع ذي صلة بموضوع التضحية والقربان كان موضوع الشهادة في الاسلام، وفي البدء يجب أن نؤكد على أن لفظة (شهيد) بمعناها المتداول اليوم لم تذكر نهائيا في القرآن الكريم، رغم ورودها (36) مرة في القرآن، إلا انها دائما كانت ترد بمعنى الرقيب أو الشاهد، وفي العديد من السور جاءت وصفا للفظ الجلالة، ولكن كان هنالك تعبير قرآني يدل على معنى الشهادة المتداول اليوم، وهو الموت في سبيل الله، الذي كان رديفا للتضحية بالنفس في قتال الكافرين، فيجب على المؤمن القتال في سبيل الله فإن قتل العدو أو قتله العدو فله اجره الذي سيثاب به في الاخرة، وله على تضحيته مكانة عظيمة تقترب من مكانة الانبياء والصديقين، وجاء ذلك واضحا في سورة التوبة (111) «أن اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».
لكن مفهوم الشهادة المرتبط بالقتال واحتمالية الفوز بإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة سرعان ما تغير مع حادثة تاريخية شقت التاريخ الاسلامي، والمقصود بها استشهاد سبط الرسول الحسين بن علي (رض) في معركة الطف في كربلاء في العراق، حيث واجه مع اهل بيته وبعض أصحابه جيشا جرارا مكونا من الاف الرجال، وواجه الموت وهو يعلم باستحالة انتصاره، لكنه بحسب النظرة الفلسفية المتأخرة مثّل الدم الذي انتصر على السيف، وهنا يتضح بجلاء أمر الشهادة بشكل مختلف، إذ لم يعد قتالا قد ينتصر فيه المرء أو يستشهد، انها الشهادة المحتومة، وهذا الامر هو ما دفع الباحث فرهاد خسرو خافار في كتابه (شهداء الله الجدد – سوسيولوجيا العمليات الانتحارية) إلى اعتبار طروحات مرتضى مطهري وعلي شريعتي التي سبقت الثورة الايرانية عاملا اساسيا في انسنة شخصية الحسين (رض)، وطرح ملحمته باعتبارها صيغة تشبه ملاحم الابطال الذين حاربوا الشر، وان ما يمنحه بعدا مقدسا هو ولاؤه وليست سلالته النبوية التي تضعه في مرتبة خارج مراتب البشر، وبذلك يصبح نموذجا يحتذى وقابلا للتطبيق من قبل الشبان المحتشدين في الاحياء الهامشية في الشرق الاوسط، الباحثين عن الكرامة والذين يتوقون إلى خوض مغامرة بطولية تخرجهم من التفاهة التي تضعهم فيها الحياة الكئيبة الخالية من المجد. وبهذا المنظور تحولت فكرة التضحية والقربان المقدس من منظورها الديني لتشتبك اشتباكا لا فكاك منه مع الشأن السياسي، حيث تبلورت مفاهيم الشهادة وتحولت إلى سلوك، بدا غريبا حينها، إلا أنه سرعان ما تحول إلى سلاح فتاك بيد المنظمات الجهادية. مفاهيم مارسها «شباب البسيج» في جبهات الحرب العراقية -الايرانية سرعان ما ترسخت لدى شباب حزب الله اللبناني، إبان الحرب الاهلية اللبنانية نتيجة تدربهم على يد قيادات ايرانية، ومن ثم انتقل إلى الحركات الفلسطينية التي كانت تقاتل في لبنان، ثم انتقل إلى حركة حماس في قتالها ضد العدو الصهيوني، ولا يخفى علينا هنا، أن العمليات الانتحارية في الشرق الاوسط كانت ابتكارا يجير باسم حزب الله اللبناني، ففي مسح تاريخي يمكن أن نلاحظ انه في يوم 15 ديسمبر 1981 اقتحم شاب عراقي ينتمي إلى حزب الدعوة المتحالف مع إيران، بسيارة مفخّخة مبنى السفارة العراقية في بيروت وفجّر نفسه. وكانت هذه أول عملية انتحارية تشهدها الأراضي اللبنانية، وفي 18 أبريل 1983 استهدف انتحاري يستقل سيارة مفخخة مبنى السفارة الأمريكية في عين المريسة في بيرزيت، حيث كان يُعقد اجتماع لقياديين في وكالة الاستخبارات الأمريكية. تبنّت الهجوم «منظمة الجهاد الإسلامي»، وهو اسم يعتبر البعض أن حزب الله كان يستخدمه قبل الإعلان عن نفسه رسمياً. وفي 23 أكتوبر 1983 نفذت عمليتان انتحاريتان بواسطة شاحنات مفخخة ضد مقرّي قيادتي الوحدتين الأمريكية والفرنسية العاملتين في إطار القوات متعددة الجنسية. تبنّت العمليتين «منظمة الجهاد الإسلامي».
إن ما نشاهده اليوم من تسجيلات تصور الاحتفاء بالانتحاري بتزيينه وتعطيره وزفته قبل توجهه للقيام بعمليته الانتحارية، ما هي الا امتداد للطقوس الاحتفالية التي قام بها الانسان منذ فجر التاريخ عبر تقديمه أضحيته البشرية إلى إلهه ليرضى عنه ويتقبل اعماله ويكون جزاؤه ثوابا رسمه موروث مقدس ما زال بحاجة إلى الكثير من البحث والتمحيص.

كاتب عراقي

القربان بين الدين والسياسة

صادق الطائي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية