القلب الدمشقي

حجم الخط
25

كان اللقب السائد لدمشق- الشام هو «قلب العروبة»، وكانوا يضيفون إلى هذا اللقب صفة «النابض»، فتصير الشام «قلب العروبة النابض»، ومرجعاً لقراءة مآلات المنطقة واحتمالاتها.
عندما تفتح وعينا السياسي بعد هزيمة الخامس من حزيران، كانت دمشق في قبضة حزب «البعث»، الذي قادها إلى السقوط في يد السلالة الأسدية. وبدأ نبض القلب يخفت، ولم نعد نستمع سوى إلى عبارات جوفاء صارت مرادفاً لهزيمة العرب، إلى أن تحولت المدينة، التي عرفت بصخبها السياسي في الخمسينيات، إلى قلب يختنق ولا يعبّر. وصار هذا التعبير بالنسبة لنا مجرد كلام بلاغي لا معنى لبلاغته، ولا يثير سوى الأسى والسخرية.
قلب بلا عروبة أو عروبة بلا قلب! وانقلبت دمشق، ورسم لها الضباط ورجال المخابرات موتها المكفن بالاستبداد. وكان على الفلسطينيين واللبنانيين أن يدفعوا الثمن الدموي، من تل الزعتر إلى اغتيال الحركة الوطنية، قبل أن يُطبّق الضباط الخبرات الدموية التي اكتسبوها في لبنان في حماه، ويتم تحويل سوريا بأسرها إلى مزيج من الخراب والسجون.
لكن كل هذا القمع لم يكن سوى تمرين على الخراب الكبير الذي يختتم به حزب «الأنبياء الكذبة» مسيرته الدموية. تحطم العراق وسُلم إلى الغزاة الأمريكيين، ومن بعدهم إلى العته الطائفي- الأصولي، وها هي سوريا تواجه اليوم مصيرا سوف يكون درسا للشعوب في الخضوع للطغاة.
دلالات المصير السوري هي المؤشر إلى المصير العربي، وبهذا المعنى فإن شعار القلب الدمشقي لم يكن شعارا فارغاً. فالقلب السوري، الذي يحتضر على مائدة اللئام اليوم في جنيف، هو مؤشر إلى موت النظام العربي وانحلاله النهائي، وقراره بتسليم البلاد إلى القوى الأجنبية بدلا من تقديم التنازلات للشعب.
قلب العرب فقد استقلاله، وصار ساحة صراع دولي واقليمي، والدم السوري، الذي يراق منذ خمس سنوات، صار اليوم معبرا إلى إعادة إخضاع المنطقة وإفقادها كل مقومات الوجود الوطني.
الذين يرقصون طربا على إيقاع القصف الروسي لسوريا، يشبهون الذين رقصوا طربا على إيقاع القصف الأمريكي للعراق. كل لصوص العالم اجتمعوا على سوريا، كي يحطموا القلب العربي ويسحقوا نبضه.
لا أفق في هذا الأفق المسور بالقتل، لا أفق سوى المزيد من الموت والخراب وإبادة الروح.
وسوريا اليوم تتحول من فضيحة العرب إلى فضيحة العالم، يريدونها مقبرة للقيم الإنسانية، ومعبراً إلى إنهاء المنطقة العربية بأسرها.
لا أريد أن أحمّل مسؤولية الخراب للذين يخربون سوريا فقط: النظام وأشباهه، القوى العسكرية الأصولية، إيران، دول الخليج وتركيا، الخمول المصري، امريكا وروسيا… النخب والقوى السياسية السورية تتحمل المسؤولية أيضاً لأنها كانت عاجزة عن صدّ هذا الخراب، وتحويل الانفجار الشعبي السوري النبيل، المطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، إلى أفق قادر على الانتصار.
في جنيف يقيم العالم مأتما لسوريا، ويتقدم الموكب شبح فقد كل مقومات الوجود اسمه نظام بشار الأسد، يتقدم الشبح متفاخرا وفاجرا ويشعر بالنصر، لأنه باع الوطن لقاء سلطة لا سلطة لها، ومعه وحوله يتلاقى اللصوص من كل أرجاء الأرض، ليبشروا بحلّ ليس سوى مقدمة حروب لا نهاية لها.
هذا المأتم الفاقد للحياء يشير إلى الحضيض الذي وصلت إليه المنطقة العربية، ويأتي استكمالا منطقياً لهزيمة العرب في حزيران 1967، يوم ارتفع ذلك الشعار الأحمق بأن العدوان فشل لأن هدفه كان إسقاط الأنظمة التقدمية!
الوطن يسقط، أما النظام فلا يسقط، هذه هي فلسفة الفاشية البعثية التي قادت إلى الخراب الشامل لسوريا والعراق. صحيح ان النظام في العراق سقط والنظام السوري لن يستمر، ولكن ثمن هذا السقوط الذي صنعته عبقرية الاستبداد كان أكثر فداحة من الفداحة نفسها.
يقول لنا مأتم جنيف أن الأرض احترقت وشعوب هذه المنطقة وثقافتها تقف فوق الخراب الشامل، وأن علينا أن نخترع بداية كي لا نندثر.
هذا الواقع المروّع، لشعب تحول إلى أشلاء، يجب ألا نسمح له بابتلاع الحلم الذي لاح حين امتلأت شوارع المدن بصيحة الحرية.
البداية في زمن النهايات هي هذه الصيحة، التي انفجرت من حنجرة القاشوش التي لن ينجح الاستبداد في خنق أصدائها رغم نجاحه في استئصالها. هذه الصيحة تدعونا إلى اعادة تأسيس كل شيء، من منطلق الدفاع عن البقاء.
الموت يحاصر كل شيء، وسياسات الدول الكبرى هي فضيحة القيم ومقبرة السياسة. أما فضيحة العرب فهي الاستبداد والثروة المهدورة من قبل من يحكم الساعة العربية المنقلبة. فضيحتان تلتقيان على قتل شعب صارت مأساته هي المأساة، وألمه هو الألم.
سوريا اليوم هي امتحان القيم الانسانية، وإعلان صارخ بأن هذه القيم تداس اليوم بأحذية لصوص نظام عالمي صار رهينة الرأسمالية المتوحشة، ونظام عربي صار رهينة النهاية.
صرنا كلنا سوريين، والضمير لا يعود إلى العرب فقط، بل يعود إلى كل من لا يزال مؤمنا بالحرية والعدالة.
نموت في سوريا ومع السوريات والسوريون في التشرد والمجاعة والقصف والبرد والجوع والمهانة.
كلنا تحت حذاء القمع والاستبداد والعته الطائفي والأصولية العسكرية المتوحشة.
كلنا هناك أي هنا، ولا خيار لنا سوى أن نعيد تأسيس القيم، انطلاقا من صرخة أطفال درعا، الذين كان موتهم إعلانا لموت الطفولة في هذا العالم المتوحش.

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    لا زالت الشام قلب العروبة النابض
    فهي تنبض بنبض قلوب المخلصين والمحبين لها
    و من هذه القلوب قلبك النابض دوما حبا وعشقا للشام ككل
    ذكرتني برئيس وزراء سوريا السابق ووزير الأوقاف فارس خوري
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول غادة الشاويش المنفى:

    صباح الخير والعدل والحرية يا الياس صباح التبشير بالخير والانسانية في عالم متوحش صباح القلم الفاضح للعار العربي والانساني صباح كلمة الحق يا الياس صباح الروح العربية التي لم تهتك نقاءها بارات السياسية ولا عهر الطائفية صباح الفرح في قلبي لان هناك كاتبا مثلك صباح القرءان والانجيل يا الياس صباح الصلاة والمئذنة والجرس صباح الارض نمشي عليها احرار تحت ظل الله المجيد لا يمكن لاحد ان يصادر زلازل القهر في صدور المستضعفين يا الياس الجميل عادتي ان اقرا القرءان في هذه الساعة علي ان اذهب لكن الا تدري ان قلمك يزهق ارواح الشياطين الا تدري انك تبعث في ارواحنا المتعبة الضياء والامل والنور الا تدري بانك نبي صادق له اتباع ومريدون وانا منهم يا رفيق الحق يا الياس يا عابرا للايديولوجيا يا صادحا بالخير من اجل الانسان قل لي هيا كم ملاكا حشدت حتى كتبت وحي روحك الجميلة قل لي ودعني احضر القداس والصلاة الجميلة التي تقيمها في روحك كلنا سوريون كلنا فلسطينيون كلنا عراقيون كلنا يمنيون كلنا ليبيون يا الهي يا الياس اخشى ان تطول قائمة البؤس وتتوسع اشتراكية الدم على يد بقايا الانظمة الاشتراكية والبعثية فتطول القائمة كلنا يا الياس انت كلنا القاشوش وحمزة والدرة وطل كلنا انت سمعت الصلاة يا الياس خشع قلبي وازهرت روحي كالربيع ونام الشهداء في قبورهم كالزهور الذابلة الا انك تلوت الان صلاة لراحة نفوسهم عندما ارى صورتك يا الياس استعد للصلاة لسماع اذان لا ينافسه باطل استعد للراحة من عناء الزور وميليشيا الدولار سلم قلبك وقلمك ودمت لنا يا اخي
    وزارة المستضعفين عاصفة الثار ام ذر الغفارية جريحة فلسطينية منشقة عن حزب الاسد ( الله ) سابقا تقف في انضباط في صفك حتى لو كان هناك تشققات ايديولوجية فلا ينكر الحقيقة الا خااائن وتؤدي تحية الجندية للفكر العالي العادل دم لنا

  3. يقول Ali:

    مقال القرن بإمتياز، نقلة نوعية للقدس العربي بنشرها هذا المقال، لقد رفعتم سقف توقعاتنا من الان فصاعدا،

  4. يقول كمال:

    مقال قيم ، و تحليل معبر و صائب في كثير من توصيفاته لكنه حزين ، لانه يصف الواقع الماساوي الذي آلت اليه اوضاع الامة ، بسبب استبداد حكامها و جشعهم و حماقتهم ، و نفاق من حولهم من مثقفين و فنانين ، الا القلة القليلة المخلصة التي كانت سرعانما تهمش او تضطهد من قبل الأجهزة القمعية .
    و لكن الأمل لا يموت ، لان رب العالمين حاضر و مقتدر، و خالق الارض و السماء يمهل و لا يهمل ، و في النهاية لا يصح الا الصحيح.

  5. يقول احمد سامي مناصرة:

    فيما خَص الوطن السوري والعراقي ، فقد احسنت و أجدت وصف الالم المتدفق يا سيدي، ولَك من الشعر بيتاً فيما خَص النفط والثروة. لإنقاذ الأسعار، هناك آراء لتجزئة وبيع ارامكو، المشترين طبعاً هم إكسون موبل، شڤرون، شل، ب پ. اي ان الاستعمار الاقتصادي عائد للمنطقة .

  6. يقول ابو سامي د حايك:

    يجب مراجعة التاريخ و عدم إرهاق أنفسنا بما لا طاقه لنا عليه و التجرد عن الأحلام البعيده عن الواقع و التباهي بإنجازات ليست موجوده و حتى في ذروة الموجه القومية ألعربيه لم تكن هناك إنجازات حقيقية في الاقتصاد و الصناعه و فرص العمل و اعني بذلك إنجازات عربيه بحته بدون مساعدات خارجيه لم تحصل برغم توفر العقول و الطاقات ألعربيه التي ابدعت في الخارج بدلا في الوطن و من الأسباب الاخرى ضعف الأداء العربي إزاء حجم التحديات الجسيمة و عدم ادراك عواقبها الوخيمة مع تراكم السنين بازدياد قوة الكيان الصهيوني و قبضة العالم الرأسمالي على الموارد البتروليه العربيه ثم إنهاك النفسيه العربيه و إفراغها من فحوى الإباء في الانبطاح امام الصهاينه و أمريكا مع تغيير المعايير و سهولة الهوان و لكن مخطئ من ينفض يده من هذه الامه فسوف تدور الدائره عليه و لن يكون حرا او آمنا فلا سبيل الا الصبر و تمرير الامانه الى الأجيال

  7. يقول سلمى:

    كسورية دمشقية , كانت قراءة هذا المقال صعبة للغاية . كان يوما تعيسا في تاريخ العرب يوم وُلد حزبُ البعث . حسبنا الله و نعم الوكيل.

  8. يقول رياض- المانيا:

    شكرا لك سيد الياس. لقد كانت الخيانة في الماضي تتم في الخفاء والتآمر يتم في غرف مغلقة ومؤتمرات سرية عقدت دائما للانقضاض على هذه الامة، أما في هذا العصر الذي نعيش فقد سقط القناع عن القناع واصبحت العمالة والخيانة جهارا نهارا وعلى رؤوس الأشهاد، يقام للخيانة مؤتمرات دولية، يدعى لها رؤساء مستبدون فاقدون للشرعية  والصلاحية منذ عقود، يأتون الى بيت الطاعة فتوضع جثة الشعوب المقهورة  على الطاولة ليتم حتى التمثيل بالأموات وإعادة رسم الاوطان باقلام من رصاص ومداد من دم. من لدمشق والقدس يا سيد خوري؟ من لبغداد؟ شعارات طائفية رنانة تدغدغ شعور البسطاء ليصبحوا وقودا لحروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، انه الجهل! انها اساليب خبيثة للمزج بين ما يسمى بالارهاب والمطالبة بالحرية والعدالة والحقوق. هذه  ان  معضلة الأمة الكبرى تتمثل في الاستبداد والجهل، والثاني نتيجة حتمية للأول والاول لن يبقى اذا انقرض الثاني. الحرية تنتزع ولا تستجدى. سيبقى يا سيد خوري نبض دمشق بحاراتها وطرقها وازقتها نابضا بنبض الامة. هذه الامة يا سيد خوي تمرض ولا تموت وكذلك قلب دمشق قد يمرض لبعض الوقت ولكن في النهاية سيتعافى من جديد.

  9. يقول Saleh oweini:

    Shukran Ustad Elias
    A true Eye-opener

    Saleh Oweini
    Stockholm

  10. يقول منى*الجزائر*.:

    يوم الثلاثاء من الأيام التي أرقب شروق شمسه بفرح وسعادة ؛لأني سأقرأ لنخبة من عمالقة القلم على رأسهم الأستاذ القدير الياس خوري.
    *صدقت* هي إبادة الروح ،ابادوها قتلا وحرقا ونفيا……
    سوريا عنوان مأساة القرن الجديدة هي تحصيل حاصل لما حدث للعراق وقبله فلسطين…..
    سكوتناعن الإستبداد كلفنا حياة بأكملها……..
    متى ما أخذنا زمام المبادرة عندها نستطيع بحق صد كل الخراب من دكتاتوريات لأطماع خارجية لطائفية نتنة….
    دمت لنا أستاذنا الكبير وتحية لك ولقمك العروبي النابض بالحب والإخاء ….
    تحية لشيخ المعلقين اخي كروي وتحية للعزيزة غادة التي تبعثرني حروفها الشجية وتحية لسلمى الدمشقية العزيزة واريد ان اسجل اعجابي بجملة:كان يوما تعيسا للعرب …. اذ اختصرتي تاريخا واوجزتيه في سطر تحية لك.
    وتحية للأخ على وأخ احمد مناصرة ..
    دمتم جميعا بالف خير .
    وشكرا لقدسنا الغراء بيتنا الثاني على هذا الزخم الثقافي والسياسي والفكري….

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      حياك الله أستاذة منى وحيا الله الجميع
      الشامُ جَنَّتنا ..وتجري تحتها……أنهارُ عزٍّ بالدّماء تبوحُ
      تسقي الكرامةَ كي يظلَّ نخيلُها…..بغصونه للثائرين يَلُوحُ
      شقّتْ ظلامَ الغدر عاصفةُ الهوى ……روحا تسابقُها لحسنكِ روحُ
      أنا كيف أشرحُ حبَّها بقصيدةٍ…… أو كيفَ تُكتَبُ في الدماء شُرُوحُ
      جاءَ اللعين ابنُ اللعين يدكّها……بمدافعٍ..وعلى الدمار ينوحُ
      ما كان يحظره اليهودُ ببطشهمْ……..في عُرْفِ بطشك جائزٌ مسموحُ
      أتظنُّ أنك تعتلي صرح العلا……..بجهنمٍ للظالمين صروحُ
      وإذا جَمَعْتَ على صعيدِ عداوتي……….كل الطغاة فجمعُكُمْ مطروحُ
      إنْ تسألي يا شامُ _ كلَّ جوارحي ….ستجيبُ في قلبي الكليم جروحُ :
      ثمنُ المحبّة يا شآمُ شهادةٌ……والمسكُ من دمنا النقي يفوحُ
      وطيورُ أشواقي تجوب فضاءكم……منكم إليكم تغتدي وتروحُ
      – قصيدة من النت –
      ولا حول ولا قوة الا بالله

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية