وإذا تساءلنا لماذا يسعى الناس، أحزابا وأفرادا، إلى كرسي الحكم والسلطان، قد نسمع أو نقرأ عشرات الإجابات، ولكننا، في الغالب، سنهتم بثلاث منها، نراها الأساس والجوهر: إنهم ينشدون السلطة سعيا لتنفيذ رؤى، أو ايديولوجية، معينة يؤمنون بها، ويرونها الوجهة الصحيحة دون سواها، للتغيير والتطوير. أو، انهم يسعون للسلطة بإفتراض أنهم الأجدر والأصلح لتحقيق أحلام الشعب في إقامة العدل وتنمية البلاد. أما الإجابة الثالثة، فغالبا لا يتم الإعتراف بها، بل يتم نكرانها بشدة، لذلك، فهي إجابة لا تنطق بها شفاه المتحدث وإنما تترك لضميره وتقدير السامع. وهي تتمحور حول السعي للمجد الشخصي، ولزراعة أوهام «الأنا»، ومحاولة تجسيدها. وغالبية الذين يسعون للحكم، أو يحكمون فعلا، يبشرون علنا بطرح يجمع ما بين الأجابة الأولى والإجابة الثانية. ولكن التجربة العملية هي وحدها المحك الذي سيحدد إذا كان طرحهم هذا صادقا أم مجرد إدعاء كاذب يخفي حقيقة أنهم أقرب إلى تبني الإجابة الثالثة.
ومن زاوية أخرى، فإن من أهم سمات الإنسان السوي واليقظ الضمير، الوقوف مع الذات ومراجعة النفس في كل أدائه وتصرفاته في الفترة التي مضت من مسار حياته، تصحيحا وتطويرا لمسار الفترة القادمة. وأعتقد أن الكثيرين يفعلون ذلك يوميا، لا ينامون ليلا حتى تراجع ذواتهم ما دار في نهارهم، ويستوي في ذلك الطالب والموظف ورب الأسرة…الخ. لكن الوقفة مع الذات عند المتعاملين مع الشأن العام، كالسياسيين والزعماء وقادة الرأي، خاصة المسؤولين عن الرعية الذين يديرون شئون البلاد وناسها، تختلف تماما عن غيرها، لأنها تتعلق بسياسات وممارسات ذات صلة مباشرة بمصائر البشر والأوطان. ولهذا السبب، فإن الوقفة مع الذات عند هؤلاء المسؤولين، تكتسب معنىً ومحتوىً شديد الحساسية وشديد الخطورة، خاصة عندما يتعامل هؤلاء الساسة والزعماء مع المنعطفات والمنعرجات الدقيقة والحرجة التي تمر بها بلدانهم وأقوامهم.
ومباشرة أقول، إن أي سياسي أو زعيم أو أحد قادة الرأي، بدءا من رئيس الدولة ومرورا بالسياسي المعارض، وانتهاء بكل من يدلو بدلوه في الشأن العام السوداني ويساهم في رسم توجهاته ومساراته، من الصعب تخيل تمتعه بسمات الانسان السوي اليقظ الضمير، إذا لم يقف مع ذاته ويراجع أداءه ودوره إزاء ما يدور في البلاد، وتحديدا إزاء الحدث الأهم والأخطر في تاريخ السودان الحديث، ونعني إنشطاره إلى دولتين، وإستدامة الحرب الأهلية حد توطين الموت الجماعي في ربوعه، حتى ولو حقق هذا الحدث مرادا وأهدافا مسبقة للزعيم، أو جاء استجابة لايديولوجية يؤمن بها. وحتى اللحظة، لا نستطيع أن نجزم بأننا على دراية بحال أي من هؤلاء الساسة والزعماء وقادة الرأي، وكيف سيعبّر كل منهم عن وقفته الخاصة مع الذات. ولكن المدهش المؤلم، ألا نتلمس أي وقفة، مع الذات أو مع غيرها، عند قادة البلاد اليوم، والتي كنا سنتبينها في تغيير السياسات والممارسات إلى تلك الأقرب إلى نبض الشارع. وبما أنني لست في موقع المفتش عن الضمائر، بل وأرفض ذلك مطلقا، فإنني لا أستطيع القول إن كان قادة البلاد هؤلاء ينامون كل ليلة، ونفوسهم راضية وضمائرهم مرتاحة، تجاه أدائهم في الحكم، وتجاه نتائج هذا الأداء على الوطن والمواطن!
لكن، ما يمكنني قوله، وبكل ثقة ودون أي تجن، أن أداءهم هذا لم يحقق لا العدالة ولا التنمية ولا الأمن ولا الأمان، وإنما أتى بعكس كل ذلك. ومن هنا تساؤلنا البسيط، والمتكرر، حول مبررات ومسوغات بقاء مثل هؤلاء في الحكم، لسنوات وسنوات. لم يعد مقنعا وهم بعبع غياب البديل وفزاعة الطوفان إن همُ ذهبوا، مثلما لم يعد مقنعا إدعاء الدفاع عن العقيدة والأرض والعرض كمسوغ للإستمرار في الحكم. فببساطة، ليس من شيم الدين تعذيب الناس وتقتيلهم لمجرد الإختلاف في الرأي، أو لأنهم يطالبون بحقوقهم. وليس من شيم الدين أن يبيت الحاكم شبعانا ممتلئ البطن، ورعيته يتضورون جوعا، وبعضهم يستوطن الكهوف درءا للموت القادم من السماء. وليس من شيم الدين أن يواجه شباب الوطن الأعزل، إلا من هتاف الحناجر، والرافض لممارسات الحكومة وسياسات الغلاء والتجويع، بما يحيله ساقيا لتراب الوطن بالمقدس الأحمر.
حتى ذاك اليوم الأخير من شهر المنتصف لعام 1989، كان الوطن، وهو في الثلاثينات من عمره، لا يزال غضا مستمتعا بريعان شبابه، ويحلم بالمستقبل الأفضل، عندما إنقضت عليه فجأة كتيبة الإنقاذ لتشبعه في تاليات السنين، ضربا ولكما وتقتيلا، حتى لم يبق من جسده شبر إلا ومسته طعنة سيف أو ضربة رمح. وكأي كائن بيولوجي، إستخدم الشعب السودانى، إزاء الخطر الداهم، آلية الكمون التكتيكي، وإستفاد النظام الجديد من رد الفعل النفسي هذا، فأحكم قبضته على البلاد بسلاح الطغيان والإستبداد، وكانت النتيجة أن تغذت العصبيات و»تربربت» في مستنقع الشمولية الآسن، وحرّك حجر الطغيان وعنف الدولة دوائر عنف أخرى، ليزداد خلل المعادلة المختلة اصلا. ورغم أن الروح الوطنية، تاريخيا، ظلت دائما تتغلب على ما عداها من ميول وإنحياز للهويات الأصغر المعبر عنها بالجهوية والقبلية والطائفية…الخ، والتي دائما ما كانت تتوارى خجلا في الملمات والمحن الكبيرة، كما في معارك التحرر الوطني ضد المستعمر ونضالات المقاومة ضد الديكتاتوريات المتعاقبة في البلاد، إلا أننا الآن، بتنا نلهث هنا وهناك، بحثا عن كيفية تضميد جراحات تلك الروح الوطنية حتى تسترد عافيتها وقوتها في مواجهة تلك الهويات الصغيرة، لا لتقمعها، وإنما لتنسج بها واقع الوحدة في إطار التنوع، ولتكتسب بها ثراء وغنى. ولهاثنا هذا لن يضيع سدى، بل سننجح، وقريبا. أما الذين إتخذوا موقف الكمون التكتيكي، فإنما فعلوا ذلك تمهيدا للإنطلاق من جديد إنتزاعا للحق وهزيمة للخطر الداهم. فالأصل هو طاقة الحياة التي ترفض التراجع والإنزواء، وتدفع إلى الاشتباك والإنخراط.
٭ كاتب سوداني
د. الشفيع خضر سعيد