نحتاج إلى كثير من الرّومانسية غير المطرّزة بخيوط الدم، لِنَبْدأ من حيث ينبغي لنا أن نبدأ، كي لا تكون جملتنا شبه جملة، والجارّ فيها هو ضمير الغائب بينما المجرور هو هذا الإنسان الذي كدح أجداده عدة ألفيات كي يجعلوا من هذا الكوكب المتوحش مكانا صالحا للإقامة، والمسافة بين كهف وناطحة سحاب أو بين حمام زاجل وفيسبوك أو يوتيوب تبدو للحظة كما لو أنها أقل من ثانية، لكنها أطول من خط الاستواء الذي شطر التاريخ وليس الجغرافيا، فكيف انتهى هذا المجهود المضمّخ بالعرق والدموع على شاشات يرشح الدم من مساماتها؟ وبأي معجزة تحوّل الفائض إلى نقصان ومديونيات أخلاقية؟ هل حلق الإنسان بجناح فولاذي واحد فشيّد الأبراج والصروح والمصانع التي يختنق الفضاء بما تبثه من أكاسيد، وظلّ جناحه الآخر مهيضا لأنه من ريش هشّ، أم أن الحرب الأبدية بين الغريزة والعقل وبين الضرورة والحرية والنار والهشيم حسمت لصالح ما هو بدائي، فالاختبار الآن عسير، حيث كل شيء على المحك، من المخطوط والكتاب منذ كانت طباعته تكلف الناشر قطيع عجول إلى حرب النجوم، ومنذ عشبة جلجامش إلى الجمرة الخبيثة. لم يتضاعف أي عدد في التاريخ كما تضاعف عدد أعداء الحياة، لأن العلم الذي طالما كان ذا وجهين أصبح مكرّسا للتنكيل بهذا الآدمي الأعزل الذي أفقدته الطبيعة أنيابه ومخالبه وأفقده التاريخ حريّته، فتاريخ الحضارات كما قال هربرت ماركيوز في كتابه «الحب والحضارة» هو تاريخ الكبت المتفاقم، والاستبداد المتعاظم، سواء كان ذلك سياسيا أو جسديا أو نفسيا واجتماعيا.
إن معظم المقاربات المتداولة الآن عبر الميديا حول تحليل عينات من العنف في أقصى تجلياته هي مجرد اجترار لطروحات أفرزتها أزمنة أخرى، لم يكن فيها الذئب يطلب من فريسته الاعتذار، ولم تكن السلاحف قد قررت أن بيوتها هي قبورها، وأن الطريق من المهد إلى اللحد هو مجرد جملة معترضة في كتاب الزمن.
* * *
قديما كتب نقاد وروائيون عن الذبابة التي تحوم حول كفل الحصان، التي تفسد عليه مزاجه ولا يقوى على قتلها، لأن سلاحها الفريد هو ضآلتها، واستراتيجيتها هي الكر والفر على ذيول الجياد أو الفيلة، فماذا يفعل الآدمي الآن، وهو يحقق نبوءة إغريقية عن حرب غير متكافئة بين الإله أندرا والشيطان، فسلاح الشيطان هو فقط كونه غير مرئي، وقادرا على ارتداء طاقية الإخفاء. في الأسطورة لاذ الإله أندرا بساق زهرة اللوتس كي يحمي نفسه من الشيطان، لكن التاريخ لا يقبل مثل هذا الخلاص ولا يسمح به، لأن حقوله جرداء ومروية بالدم ولا مكان فيها لزهرة اللوتس أو شقائق النعمان.
لقد سخر الواقعيون والذرائعيون ممن يقيسون الابتسامة بالأصبع ويزنون الدمع بميزان الحديد من الشاعر كيتس حين أدمى كفّه وصاح في وجه من قال له إن قوس قزح هو مجرد انعكاسات وأطياف وأن القمر صخرة عملاقة سوداء تتسول الضوء من الشمس.
كم كان محقا حين احتفظ لقلبه بحق الاعتراض على علم سوف ينزع الدسم من كل شيء، ويحول الشهد إلى سم والبلسم إلى انفلونزا دجاج وجنون بقر وإيدز يتسلل من فقدان المناعة الجسدية إلى فقدان المناعة السياسية والفكرية، وإذا كانت نظرية الفن للفن فقط كما بشّر بها أوسكار وايلد قد انتهت إلى هامش الفانتازيا، فإن نظريات العلم للعلم فقط لا تزال في صميم التاريخ، لهذا شملت التكنولوجيا إضافة إلى السلاح النووي أدوات التعذيب والتلصص وغسل الأدمغة والاغتيال بسموم عضوية لا تتضح عند تحليل الجثث.
مقاربات العنف الأكثر رواجا الآن هي بحد ذاتها وصفات عنيفة ومدعية لأنها تفترض أن واضعيها هم من جنس آخر محرر من شوائب الغرائز، رغم أن ما أفرزته الرأسمالية الطاووسية في ذروة توحشّها هو استئصال كل الهواجس الوجودية لدى ضحاياها، وهذا ما لخصه أريك فروم في كتاب فائق العمق عنوانه «الكينونة أو الامتلاك»، فالمقولة الشكسبيرية الخالدة to be or not to be أصبحت كما يقول فروم to have or to be ، فالامتلاك حلّ مكان الكينونة، وأنجزت الحضارة النووية تسليع الإنسان واختراع نُخاسة من طراز يليق بحقبة ما بعد الحداثة المرادفة لحداثة ما بعد الإنسان وما بعد التاريخ.
كانت الحربان العالميتان بكل ما أنتجتا من أرامل وأيتام ومشردين ومن تضاريس وأطالس جديدة فضيحة الألفية الثانية وهي تقترب من نهايتها، والسؤال الإشكالي الذي طرحه ويل ديورانت مؤلف قصتي الحضارة والفلسفة يكاد ينغرز في أعيننا وهو هل تقدمنا هذا بكل ما يقترن به من ضجيج وجماجم حقيقي؟ يجيب بأن ما انتهى إليه هذا التقدم هو أن يحول البشر إلى قردة ترتدي سراويل.
* * *
إن السباحة ضد التيار قدر تعلقه بالتاريخ هي تعبير رمزي قد لا يقبل الصرف واقعيا، وبرتراند راسل الذي قاد تظاهرات وهو في التسعين ضد التسلح النووي، تحولت عظامه إلى رميم لكن التسلح النووي تطور وتضاعف، بحيث أصبح في حال استخدامه قادرا على تدمير تسعة كواكب بحجم الأرض، وما كان أمثولة في هيروشيما وناجازاكي تحول إلى دُعابة قياسا إلى الفناء النووي الآن .
لقد كان المركيز دو ساد مثقفا وكذلك تيد هيوز ولويس ألتوسير، لكن ما مارسوه من عنف يحتاج إلى تحليل آخر، مما يجزم بأن الجهل وحده ليس سببا كافيا للعنف، وقادة منظمات متطرفة كـ»القاعدة» ليسوا من الفقراء، مما يجزم بأن الفقر وحده ليس سببا للعنف، فهل بدأ هذا الفائض من الجثث على امتداد خطوط الطول والعرض لكوكبنا يفرض علينا إعادة النظر في ما تصورنا أنه بدهيات. إن ما قاله ديورانت عن القرود التي ترتدي السراويل يذكّرنا بالقرد العاري لديزموند موريس فالعثور على الحلقة المفقودة أصبح ممكنا.
كاتب اردني
خيري منصور
لقد قرأت مقالة سابقة لك في جريدة القدس العربي بعنوان “حرب المصطلحات” يا خيري منصور فأنت من الواضح من متابعة كتاباتك مهتم بالعولمة وأجوائها وتقنياتها، وأظن عنوانك لهذه المقالة يمثل عنوان آخر يلخص اشكالية “المثقف” الذي كتب “الحب والحضارة” أو “الحضارة والفلسفة” يا خيري منصور والتي تمثل خلاصة ثقافة الـ أنا على الأقل من وجهة نظري، فأنت استخدمت “الكمبيوتر” ولم تستخدم “الحاسوب” فالأولى تمثل الترجمة بواسطة النقل الحرفي أو “النقحرة” في حين الثانية تمثل الترجمة بواسطة التوطين أو التعريب بالنسبة للّغة العربية والتي تتجاوز حدود سايكس وبيكو، من خلال إيجاد جذر وصيغة بنائية مناسبة للكلمة المُراد ترجمتها من أي لغة أخرى للعربيّة، حيث أن الترجمة في أجواء العولمة اعتمدت اسلوب التوطين وهو ما تختلف به عن اسلوب الترجمة في دولة “الحداثة” التي اعتمدت اسلوب النقل الحرفي مثل مصطلحات البيروقراطية/الديمقراطية/الديكتاتورية.
أنا أظن أنَّ علاقة الحب بالنسبة للرجل أو المرأة تمثل ثقافة الـ أنا أو الفكر أو الفلسفة، في حين علاقة الزواج تمثل ثقافة الـ نحن أو اللغة أو الحكمة (الإسلام لغة وليس فكر، لغة القرآن معجزة الإسلام، ولذلك من وجهة نظري لغة القرآن شيء، واللسان العربي شيء آخر، والإسلام يمثله القرآن والسنّة النبويّة، وأنت حر في طريقة فهمه، فأنت من سيحاسب على طريقة فهمه، ولكن تريد جنّة الله، فيجب اتباع دين الله، فحكمة العرب قالت”القانون لا يحمي المغفلين”، الإسلام لا يعترف بالقولبة والرهبنة والرهبان، والإسلام، لماذا حرّم الربا وحلّل التجارة، مع أنَّ كل منهما يحقق الربح والخسارة؟، هذا يعني ويجب الانتباه إلى أنَّ لله حدوده، فلا تقربوها، كذلك يجب الانتباه إلى شيء مهم، وهو لا تسأل أهل نجد عن الربا، ولا أهل اليمن عن القات، ولا الصوفي عن الطرب، ولا الشيعي عن اللطم، ولا موظف الدولة البيروقراطي عن الواسطة أو الرشوة.)
لغة أي مجتمع تمثل خلاصة حكمة أهله، وكلّما زاد عمر مجتمع زادت حكمته، فلذلك تجد أن لغة حضارة الصين ولغة حضارة ما بين وادي الرافدين ووادي النيل تنتمي إلى عائلة لغات الاستقراء والاستنباط، في حين اللاتينية وبقية اللغات الآرية والأوربية تنتمي إلى لغات التأويل. حيث من وجهة نظري أن تقول عن الأبيض أنّه أسود، ومن ثم تصدر فتواك على الأسود، هذا لن يجعل اللون الأبيض أصبح أسودا، ولا أصبح لفتواك أي شيء من المصداقيّة أو له علاقة بالواقع، فعملية الخلط بين اللونين من خلال مفهوم الصراع بين الأضداد الفلسفي سينتج لون جديد لا هو أسود ولا أبيض بل هو أحد درجات الرمادي، ولكن هناك ملايين الألوان غير هذا اللون في ألوان الطيف الشمسي.
من وجهة نظري كل من لا يتعامل مع القرآن والسنة النبوية على أنّها دليل استخدام للحياة سيكون هو الخاسر، كما سيخسر أي مشتري لأي جهاز حديث من أجهزة التقنية، فمفهوم شعب الله المُختار في لغة القرآن شيء ومفهوم شعب الرّب المُختار من قبل السّامريّ نابليون بونابرت (الجيش والأجهزة الأمنية والقضائية) شيء آخر، حيث من معاني كلمة الله التي اختص بها لغة القرآن هو ربّ الأرباب وليس رب من الأرباب، ومن ضمن معاني كلمة الله أنّه خالق الملحد والمشرك والكافر والمؤمن بأي دين، ولخص طريقة التعامل بطريقة تكاملية رائعة في سورة الكافرون، دولة “الحداثة” بسبب العولمة وأدواتها التقنية التي أعطت للغة والترجمة قيمة لم تصلها قبل عصر العولمة، هذه أدت إلى تحديات اقتصادية وتعاني من أزمة حكم حقيقية، وأظن خير مثال على ذلك اليونان في الاتحاد الأوربي وتلحقها إيطاليا واسبانيا والبرتغال وفرنسا في رمزية رهيبة عن أهل المناهج الغربيّة التي لم تعترف بوجود مناهج أخرى بسبب ثقافة الـ أنا، ومن يبحث عن مخرج، يجب أن يعترف بوجود ثقافة الـ آخر أولا، والأفضل أن يتعامل بثقافة الـ نحن التي تشمل ثقافة الـ أنا وثقافة الـ آخر ولغة مشتركة لترجمة اتفاق بينهما.
ما رأيكم دام فضلكم؟
مقالة معبرة. و دو ساد كان يعبر عن ثقافة العنف التي هو أحد ضحاياها و كل ما كتبه كان في السجن. و الإغراق في الدموية و الاغاصاب و الحب الحرام كان ردا على منعه من الكتابة.
عموما الصراع بين الحياة و الموت أحد أبسط المبادئ التي بنيت عليها الحضارة.