اللغة السينمائية وإنتاج المعنى

يُنظر إلى أي محاولة لتحويل الرواية إلى فيلم سينمائي على أنها انتهاك لأدبيتها، حيث يسود هذا الرأي الارتجالي بين القراء الذين يكررون المقولات الجاهزة من دون خبرة ولا تمحيص ولا دراية.
فيما يزدحم تاريخ السينما بالأفلام الناجحة المقتبسة من روايات انطلاقاً من رؤية تعاند فكرة استلحاق الفيلم بالرواية وتبعيتها، حيث تشكل الأفلام مدخلاً تأويلياً خصباً لوعي المنجز الروائي العالمي، وهو ما يعني أن جودة العمل تعتمد على متوالية فنية تتعاضد فيها الجدية والاحترافية والحساسية الجمالية، ضمن عملية تحويلية معقدة ما بين اللغتين: الروائية والسينمائية، أي الانتقال بالنص من بنيته السردية بما هو لغة، إلى لغة مغايرة تتمثل في السرد السينمائي، أو كما اصطلح عليها بـ»اللغة السينمائية»، حسب مارسيل مارتن، وذلك في كتابه الذي حمل العنوان ذاته.
وكما تتأسس الرواية على إنتاج المعنى، يبتني الفيلم أيضاً توجهاته على هذا الأساس، وبالتالي يمكن لأثر الفيلم الجمالي أن يتعادل مع أثر الرواية، لأنها أي الرواية لا تُكتب ضمن أفق حسّي واحد، وكذلك الفيلم لا يتوجه إلى حاسة البصر فقط، بمعنى أن الرواية والفيلم يتعاملان مع كافة الحواس، حيث يمكن للفيلم أن يقدم الشريط اللغوي للرواية في قالب مرئي، وهو ما يعني أن السينما فتحت فضاءً واسعاً للسرد، بحيث تتحرك العلامة اللغوية داخل أنساق دلالية في السينما تؤدي بالضرورة إلى توليد المعاني، أو بمعنى أدق، اشتقاقها من النص الروائي، أي امتصاص خلاصته، والحفاظ على وظيفته الجمالية، بالإضافة إلى ما تؤديه السينما كلغة اتصالية تقوم على تكثيف الدلالات، من منظور تعالقها بالتقنية.
عملية التحويل إذن لا تتم بطريقة استنساخية للنص الروائي، بل بوعي العلامة اللغوية في طور انتقالها إلى منظومة من الصور، بما تعنيه الصورة كحقل مفتوح للتأمل والمتعة والتأويل، وهذا هو بالتحديد ما أنتج مصطلح «اللغة السينمائية»، بما يختزنه من جدل ما بين البصري واللغوي، وبما يعوّل عليه من الوجهة التكنولوجية لنقل الأفكار والمعلومات من شكلها اللغوي إلى أفق العلامة الأيقونية السينمائية، وكذلك خصائص القطع والتحليل المنضوية داخل عملية المونتاج، بما هو ركيزة من ركائز تلك اللغة، حيث تنهض الصورة بمهمة استيلاد المعنى وحمل مفهوم الرسالة، عوضاً عن الكلمات التي تؤدي الدور ذاته في الرواية، وهو ما يعني أن فهم مصطلح السرد السينمائي هو الكفيل بالتقاط سيرورة إنتاج المعنى في الفيلم.
اللغة السينمائية لا تشير فقط إلى مهمة تحويل النص إلى تعبير بصري، بل هي اشتغال على إنتاج المعنى بالدرجة الأولى، وصنع الدلالة، من خلال زواية الرؤية واللون والتقطيع والتقديم والتأخير والإبطاء والإرجاء والتقريب وتقليب مساقط الرؤية في الحوارات، بالإضافة إلى المؤثرات البصرية والصوتية التي تتعاضد لتشكيل المعنى، اعتماداً على الصورة باعتبارها البنية الأساسية لتلك اللغة، ليس علامة مرئية وحسب، إنما كأيقونة وشفرة ودال ومرجعية، بمعنى أن اللغة المكتوبة وهي تنتقل من حاضنها اللساني تتضاعف دلالاتها ضمن أفقها السيميائي، بحيث تتصعّد الصورة المبسطة غير القابلة للتجزئة من حدّ الإبصار إلى مستوى الرؤية، أي تشكيل خطاب بصري بقواعد تركيبية، الأمر الذي يدفع الصورة إلى التماس بالطابع التركيبي أيضاً، وتحولها إلى كتلة مختزنة بالدلالات.
الصورة بهذا المعنى وحدة بنيوية لها منطقها الداخلي، فهي تتحرك على أبعاد تتجاوز المرئي إلى الحسّي بكل تجلياته الصوتية والحركية والشمّية واللمسية، ولا تستقر عند المجازي، بل تتعداه إلى مستويات سيميائية تنهض بمهمة بناء النص في شكله البصري، بحيث تتحول كل صورة إلى إشارة رمزية، وهي لا تعمل بمفردها، بل ضمن متوالية من اللقطات تنتظم في وحدة كبرى تتآلف فيها الألوان والأصوات والعلامات والأضواء والظلال والإيقاع داخل ما يُعرف بالتكوين، الذي يولّد بالضرورة الأثر الدرامي، أو ما يوازي المعنى، الذي يولّد بدوره ذلك الأثر الشعوري التفاعلي عند المشاهد، حيث ينفتح خزان العاطفة على اتساعه، وهي المهمة التي تتغياها اللغة السينمائية باستثارة مكامن التعاطف والدهشة والغضب والرقة وهكذا،
يمكن مقابلة ما تؤديه اللغة السينمائية بشكل تناظري قبالة لغة الرواية، أي ككتابة مقابل كتابة، الصورة مقابل الكلمة مثلاً، وما يتداعي عن ذلك من سرد وحوارات، حيث يمكن مماهاة العناصر اللغوية بما يقابلها من مكونات بصرية، إلا أن ذلك التقابل سرعان ما ينزاح عندما يتعلق الأمر بالسينماتوغرافي، حيث تدخل العملية في طور تعبيري مغاير تتأكد فيه وظيفة وجماليات المونتاج، وإذا كانت السينما مزيجا تركيبيا لسردين، أي من الكلمة والصورة، فإن الكلامي يتناقص بالضرورة قبالة البصري مقارنة بالنص الأدبي، بمقتضى آليات التقطيع والتحليل والبناء البصري المؤكد على الأبعاد السيميائية.
بمقدور أي مشاهد تحليل خطاب الفيلم، كل حسب مستواه المعرفي وحساسيته الذوقية، وبمقدوره إجراء المقارنات ما بين الفيلم والرواية، ولكنه يحتاج إلى معرفة عميقة بعض الشيء بخصائص التركيب السينمائي، أي تجاوز المستوى الحكائي للرواية والفيلم إلى جوهر الدلالات، وهو الأمر الذي يحتّم وعي آلية المونتاج الذي يختزن نسق الفيلم ويتحكم في بناه ودلالاته، حيث يفترق في هذه النقطة محكي الرواية عما يؤديه الحكي المرئي عبر الفيلم، إذ لا يفترض أن ينسخ الفيلم الرواية، حسب أفق توقع القارئ والمشاهد، وأن يكون للمخرج وفريق عمله حق القراءة المرئية للرواية ضمن سياق فني جديد لا يتطابق مع اشتراطات الرواية، وكذلك إقامة حدود العلاقة بين الفيلم والرواية على أسس جمالية، عبر السيناريو، الذي يعمل كوسيط لغوي ما بين القالب السردي والشريط الفيلمي، بما هو جوهر المعالجة السينمائية للنص.
المتلقي الذي ينتقل من ضفة القارئ إلى موضع المشاهد قد لا يأبه كثيراً لتلك السيرورة المعقدة، ولا يفكر في عملية التحويل إلا من منطلق المطابقة بين ما قرأه وما هو بصدد مشاهدته، فهو منفصم قبالة خطابين يحمل كل منهما طريقته في إرسال الحمولة الجمالية، وهنا مكمن احتجاج بعض المشاهدين على الطابع الاختزالي للسينما، إذ يمكن – مثلاً – أن تختصر صفحات وصفية طويلة بلقطة خاطفة، وعلى هذا الأساس يفترض أن بناء المشهد في الرواية لا بد أن يتواءم مع بنائية المشهد السينمائي، وهو أمر غير ممكن وغير محبذ، بالنظر إلى اختلاف آليات وشروط التبليغ الجمالي، سواء على المستوى اللغوي أو البصري أو الفلسفي أو التأويلي، وهو ما يعني أن للرواية طريقتها الخاصة في إبراز المعنى وللفيلم طريقته في استظهاره، أي لغتها السينمائية المغايرة للغة التعبير الأدبي.
كاتب سعودي

اللغة السينمائية وإنتاج المعنى

محمد العباس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    كلّ أضحى والجميع بخير…فعلاً مقال رائع.شكراً محمد العباس تفوقت على المفاضلة بالمناضلة ؛ وهذا دليل على أصالة القلم وعمق الرؤية…
    الوسط الثقافي العربيّ بالمفهوم العام به حاجة إلى نقاد يجمعون بين الكلمة والصورة ؛ وكاتب هذا المقال لديه هذه الخاصية.تحياتي لك سيدي.

  2. يقول موسى أبو رياش / الأردن:

    أظن أن لا اعتراض من حيث المبدأ على تحويل رواية إلى فيلم، والاعتراض يأتي عادة كردة فعل لفيلم شوه رواية، ولم ينجح في ترجمتها سينمائياً.
    لا أحد بالطبع يطالب بالتطابق الحرفي بين الرواية والفيلم، فلكل فن أدواته وخصوصياته وإمكاناته، ورب صورة(مشهد) يغني عن ألف صفحة. ولكن ما أريده كقارئ أن أخرج في نهاية الفيلم بحصيلة لا تقل عن حصيلة قراءة الرواية إن لم تكن تزيد، من حيث المتعة والتشويق والمعرفة وكم الأسئلة المثارة وكيفها بالطبع، وغير ذلك مما نتوخاه من قراءة الرواية. وقبل كل ذلك وبعده أن تصل رسالة الرواية دون تشويه.
    وفي اعتقادي، أنه ما لم يتشرب كاتب السيناريو والمخرج الرواية، ويتغلغلا في بواطنها، ويستكشفا ما بين السطور وما خلفها، فلن ينجحا في تحويل الرواية إلى فيلم مكافئ، مهما توفرت الإمكانات المادية وكرم المنتج.
    إن القارئ للرواية عندما يتحول إلى مشاهد للفيلم الروائي يبحث -في الغالب- عن القيمة المضافة لعملية التحويل هذه، وهل ثمة ما يستحق كل هذا العناء؟ إن القيمة المضافة هي ما تميز الفيلم الروائي الناجح، وتصنع له رواجا وجمهوراً متزايداً وإن طال الزمن.
    ومن ناحية أخرى، فإن صناعة الأفلام الروائية ضرورة لا بد منها، لتعاضد الفنون والإبداع وتكاملها، بالإضافة إلى أن الرواية هي مادة خام للفن السينمائي، ومنها يمتح كاتب السيناريو، وإن كان اختلاساً كما يفعل البعض.
    إن الروائي الناجح هو كاتب سيناريو لم يتقن فن السيناريو، وكاتب السيناريو الموهوب هو روائي لم يلتزم بقواعد الفن الروائي. وثمة تداخلات وتقاطعات بين الفنين لا تخفى على أحد. ومما يلفت النظر أن روايات دان براون كتبت بسرد سينمائي، فعندما تقرأ له فكأنما تتابع فيلما سينمائياً. ولا أظن رواياته تحتاج إلى أكثر من إعادة ترتيب النص ليتحول إلى سيناريو كامل الأوصاف.
    وفي النهاية، فلكل فن أنصاره، ولكل رواية عشاق لا يرضون عنها بديلاً، وإن كان أجمل؛ فمن كان مدمنا على القراءة، فلن تقنعه كل أفلام الأرض، والعكس صحيح بالتأكيد.

  3. يقول بشير القديمي:

    مقالة رائعة تسلم الأنامل

إشترك في قائمتنا البريدية