حين أقرأ الأخبار القديمة عن حياة القصور تترسخ فكرة في وعيي الباطن تقول إن الحياة فيها ثقيلة موجعة. أنا لم أعش في القصور غير أنني وربما لأسباب طبقية، أميل إلى اعتبار الحياة في القصور سجنا وقواعد مقننة وهرمية خانقة وكثـرة كاثرة من الأقنعة، فمعظم الأحداث هناك مكرور والحياة بين اطمئنان رتيب وخوف قاتل، بين ماض له قداسة ومستقبل له طعم الأضغاث. لم يُعْلِ من شأن الحياة في القصور إلا أخبار العامة وتصوراتهم عن النعيم الأبدي والمخدومية. وقد يكون يوم واحد مع العامة في فوضاها وحتى في جوعها وعريها مما يتمناه أصحاب القصور. أجمل ما في حياة العامة أنها تأتيك كما أنت لا تأتيك كما يراد لك.
في كتاب «تاريخ الخلفاء» للسيوطي شيءٌ من التأريخ المتأدب، أي التاريخ الذي لا يتقصى من التاريخانية، ولكنه لا ينسى نصيبه من الأدب. قد يهرب من استعمال اللغة لسرد الوقائع التي يعتد بها في تاريخ الأمم والملوك إلى استعمالها، إما لسرد اليومي البسيط أو الشعري المفارق للواقع. كأن هذه اللغة تريد أن تنسي تلك وتريد في النهاية أن تتجمل وتعتني بنفسها فتهرب من التاريخ.
أقرأ حديث السيوطي عن الخليفة المأمون فأجد كلاما يمكن أن يحمل على المواعظ والحِكم التي تصلح أن تكون من ثوابت التفكير السياسي لديه، ولاسيما ما تعلق منها بأسلوب الحكم كقوله: «أولُ العدل أن يعدل الرجل في بطانته.. حتى يبلغ الطبقة السفلى» (أخبار: 378). في هذا الكلام تُستخدم اللغة التاريخية في رسم سياسة الخليفة وهي سياسة تبدو نابذة، أي منطلقة من دائرة الملك الضيقة باتجاه دائرة العامة الواسعة. فاللغة تلعب ههنا دور المُوهمِ بأن خلف عقل الرجل أسلوبا سياسيا مختلفا ليس هذا مجال الخوض في وجاهته. بهذا يكون للغة دورُ بناء الكون السياسي المفارق. وكثيرا من هذا الكلام الذي ألفه المؤرخون أو الكُتاب على لسان الساسة يمكن ألا يدور بخلدهم ويمكن أن يكونوا قد استنسخوه من مصادر أخرى ومن ثقافات مختلفة، ويمكن أن يكونوا هم من اصطنعوه ليرشدوا به الساسة إلى ما يعتقدون أنه الأسلوب السياسي الأنجع. المهم أن اللغة التاريخية التي هي من هذا النوع ليست كما يقال إنها لغة واصفة لكون المؤرخ وفكره وخصوصياته، بل من الممكن أن تكون واصفة لصورة يريدها المؤرخ أن تكون كما يشتهي هو. لكن هناك لغة أخرى غير هذه تنفلت من زمام الخطاب التاريخي ولا يستطيع المرء أن يضبطها وهي ما تعنينا في القسم اللاحق.
إن هروب اللغة من التاريخ يمكن أن يكون في أعذب حالاته حين تجعل اللغة التاريخ إطارا كي تُبرز بهاءها ورفعتها، وهذا ما وجدتُه في النص التالي من المصدر نفسه قال السيوطي: « كانت للرشيد جاريةٌ وكان المأمون يهواها فبينما هي تصب على الرشيد من إبريق معها والمأمون خلفه، إذ أشار إليها بقبلة فزجرته بحاجبها وأبطأت عن الصب، فنظر إليها هارون فقال: ما هذا فتلكأت عليه، فقال: إن لم تخبريني لأقتلنك، فقالت: أشار إليّ عبد الله بقبلة، فالتفتَ إليه، وإذا هو قد نزل به من الحياء والرعب ما رحمه منه فاعتنقه، وقال: أتحبها؟ فقال: نعم، قال: قم فاُدخُل بها في تلك القبة، فقام فلما خرج، قال: قل في هذا شعرا فقال: (ظَبي كَنَيْت بطرفي * عن الضمير إليه // قبلته من بعيد * فاعتل من شفتيه // ورد أحْسن رد* بالكسْر من حاجبيْه // فما بَرِحْت مكاني *حتى قدرتُ عليْه)».
لا يمكن أن يمثل هذا الخبر شيئا ذا بال تاريخيا، فلا هو مفصلي في تاريخ السياسي ولا هو محوري في تراثه. فرت اللغة من التاريخ الرسمي إلى اليومي، ومن كوة التفاصيل فرت وعلى جناح الشعر طارت من التأريخ لتحتفي بنفسها.
لا شيء يثبت أن الأبيات الشعرية هي من نظم المأمون، وليس في الأخبار المتينة أنه كان شاعرا، لكن المأمون رابط. تنتقل العين إلى صناعة الشعر نفسه أي إلى لغته فتجد في الأبيات مضمونا بديعا كانت فيه اللغة تصف لقاء غزليا بالإشارات. لقاء الإشارات هو لقاء يطلب وَصْلا من بعيد، تنوب فيه الإشارات لا عن الكلمات، بل عن الحركات الفعلية. فهي إشارات تحاكي فعلا ولا تعوض قولا. والحرمان من اللقاء الحميم والحرمان من الكلام المباح لم يمنعا من حدوث ضرب غريب من الوصل؛ فللحركة تأثيرٌ اعتلت له شفتا الظبي. تتمرد الإشارة على الانضباط الذي يفرضه القصر والخليفة، يوازيه تمرد للغة على الانضباط الذي تفرضه لغة التأريخ الواصفة، اللغة فاتنة تعتل شفتاها بنطق حروفها الساحرة بإشارات شاب غُرانق هو الشعر.
بإسناد هذا الشعر إلى المأمون صار للقصيد طرفٌ حي لا قائل متخيل، شاعر يمكن أن يكون كونه الشعري غريبا عن كونه التاريخي، بل هو قائل فاعل لا ينطق عن خيال، هو قائل مجرب، لكن ما الذي يمنع شخصا له كل الجواري من أن يتواصل مع من يحب؟ يولد الطرف السلطوي الذي وراءه يستباح المحظور. جارية الأب تصب الماء من الإبريق في إطار خدمة طاهرة؛ لكن كان ابن الخليفة المقبل في مجادلة بالإشارات تنتهك الحضرة العلية التي تكشفها فتنقطع وتتوتر وتتأزم الأحداث. وككل محيط بالشخصية السياسية من الممكن أن يكون الموت راصدا، كانت الجارية ملكا مشاعا ممزقا بين الرشيد وابنه: تحاول أن تمتلك قلبه الصغير فتكاد تخسر روحها بسيف أبيه. انقلبت وضعية الابن فجأة من شاب غَزِل إلى طفل يكاد يقتله الحياء. يفهم السائس أنه هو سبب الأزمة ويعلم أن بيده الحل فيبيح الخلوة. أي خلوة هذه التي تكون بأمر من السلطان وبرعاية منه والثمن هو النص الشعري. نعود إلى الشعر من جديد على أنه المكافأة والحق أنه كان النص القادح لكل هذه الحكاية.
الشعر هرب باللغة من التاريخ الحدثي وأدخل اليومي البسيط إلى القصر وعوض التاريخ بالقص واتسع الخيال بالشعر. صنعت اللغة لنفسها إطارا تهرب فيه من التاريخ الرسمي بدعوى أن العامة تبحث عن العامي في القصور: مغامرة حب وأزمة ووصال ولكنها تظل اصطناعية مادامت بيد مدبر هو السياسي. لا يمكن أن يكون المأمون قد تربى في هذا الجو ويؤمن بأنه على السياسي أن يكون مع محيطه الضيق مثلما يكون مع محيطه الشعبي الموسع مثلما تقرر له في القول المنسوب إلى السيوطي. هل الرعية سهلة إلى حد الامتناع أم هل هي صعبة إلى حد الوصل اليسير؟ فرّت اللغة من التاريخ تريد أن تجلب نظرنا فنعشقها قبل أن تعود إلى التاريخ فإذا هي تغرقنا من جديد بين أبعاد أنفسنا: ما هو الإنساني الذي في المأمون ويسكن فينا؟ بهذا السؤال نصدق أن ما حدث شعرا حدث واقعا: هذا وهم كبير.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
توفيق قريرة
{ ما خاب منْ سمّاك أنس الوجود..ياجامعًا ما بين حبّ وجود /// ياطلعة البدرالذي..قد نوّرالدنيا وعمّ الوجود }.هاتان البيتان تضمين في وصف
جميلة مليحة على طائرة…قلتها وكنت وقتها مسافرًا إلى إسطنبول ؛ رغم أنني لست بشاعربل أقول منه : البيت والبيتان والثلاثة أو يزيدون.
فمنْ شرب من ماء دجلة فيه طغراء الشعرسمة ولو لم يولد شاعرًا ذي همّة…فكيف بالمأمون وهوفي بغداد بني العباس قمّة ؛ أفلا يقول بظبي أصيد ؛ صاده من دون شباك ولا حبائل ولا شراك ولا صياد حتى : { ورد أحْسن رد..بالكسْر من حاجبيْه }؟ فكانت له في القبة ( لقمة ).