المؤامرة وأخواتها

هل توجد مؤامرة على مصر؟ نعم بالتأكيد، لكن سياسات واختيارات الداخل تسهل المهمة على المتآمرين.
وقد لا يكون التاريخ كله سلسلة مؤامرات، وهذا صحيح جدا، لكن المؤامرة موجودة في التاريخ، وتعكس صراع المصالح في صورة تدابير وخطط، وبالذات في منطقتنا العربية ذات الأهمية الحيوية الفائقة، وحيث تتكاثر الصراعات الدولية، وحروب اقتسام النفوذ وتضارب خرائط الأطراف، التي قد تختلف على أشياء كثيرة، لكنها تتفق في شيء واحد، هو منع بروز مشروع عربي نهضوي توحيدي الطابع، وعلى طريقة السعى لإنشاء «إسرائيل» منذ زمن حملة نابليون بونابرت، وخطة «سايكس ـ بيكو» لتقسيم المشرق العربي عقب الحرب العالمية الأولى، واتفاقية «سيفر» لتخطيط العدوان الثلاثي على مصر عقب تأميم قناة السويس، وإخراج مصر من جبهة الصراع مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي بنصوص ما يسمى معاهدة السلام، وتدمير اقتصاد مصر وإضعاف جيشها بدواعي ومضاعفات وشروط المعونة الأمريكية، وهو ما يجري استطراده الآن، بضغوط الاقتصاد والسلاح، وإخضاع مصر مجددا لشروط وروشتات صندوق النقد والبنك الدوليين، وإغراقها في دوامة ديون ثقيلة، تعصف بما تحقق من استقلالية قرارها الوطني.
ولفظة «مؤامرة» لا تعني تخطيطا سريا بالضرورة، وفي كل الأحوال، فهناك دائما جسم الجبل الغارق في بحر الثلج، لكن رؤوس الحراب تبقى مكشوفة، ودواعي التآمر على مصر مفهومة، فمصر أكبر دولة عربية، و«رنة الإبرة» فيها تساوي زلزالا في أي بلد عربي آخر، وخروجها من نفق الانحطاط الطويل، الذي استمر إلى الآن لأكثر من أربعين سنة، وإفاقتها من الغيبوبة، تقلب موازين المنطقة، التي بدت حلالا بلالا للأطيار من كل جنس، وللقوى الدولية التي تتدافع على مناطق نفوذ عندنا وعند غيرنا، وحتى لبلدان جوار تضخمت أدوارها على جثة الدور المصري في المنطقة العربية، وعلى نحو ما نرى من أدوار لإيران وتركيا، وحتى لإثيوبيا التي تصورت أنها ورثت الدور المصري في أفريقيا، وكل هؤلاء يدافعون باستماتة عن مصالح تحققت، وجرى اكتسابها في غيبة مصر، ولا مانع عندهم، بل من الضروري، وكل على طريقته، من التحالف الثابت أو الموقوت مع خطط ـ مؤامرات وأخواتها ـ الغرب الأمريكي البريطاني بمعية كيان الاغتصاب الإسرائيلي.
وطبيعي أن تلعب أمريكا الدور الأكبر، وهي تحس أن مصر قد تضيع من يدها، وهي التي حسبتها طويلا نقطة ارتكاز جوهرية لواشنطن في المنطقة، مرات بالتعويل على السادات وخلفه المخلوع مبارك، ومرة أخرى بالتعويل على هندسة السياسة المصرية الداخلية، وجعل الغلبة ليمين ديني متعاون، وطبقة نفوذ اقتصادي وإعلامي هائل لجماعة «رأسمالية المحاسيب».
ولم يعد في القصة سر يحجب، ومراكز التفكير والأبحاث الأمريكية تتحدث بصراحة، وتحذر الإدارة الأمريكية من التمرد المصري الناعم، وتحذر من عواقب «طلاق فعلي» يجرى بين القاهرة وواشنطن، وتدعو لإنشاء توافق جديد يبدو صعبا، وإلى استكشاف طرق جديدة، وهو ما يفسر تدفق وفود «كونغرس» ورجال أعمال على القاهرة، وفيما بدا كأنه «جس نبض» متصل، في الوقت الذي تباعدت فيه زيارات الوفود الأمريكية التنفيذية الرسمية، فوزير الخارجية الأمريكي يعبر كثيرا إلى عواصم المنطقة، ولكن بدون أن تكون القاهرة واحدة من محطاته، وكذلك فعل نائب الرئيس الأمريكي، وحتى الاتصالات الهاتفية تبدو مقطوعة بين البيت الأبيض وقصر الرئاسة المصرية، والمعونة الأمريكية إياها، ما أن يفرج عن جزء منها، حتى تعود فتنحبس وتتلكأ، بينما زيارات قادة عسكريين أمريكيين لا تنقطع إلى القاهرة، وتجري مباحثات لا تخلو من ابتسامات للكاميرات، لكنها لا تخفى انسدادا متزايدا في سبل التفاهم، فلم يعد من شيء كما كان، ولم تعد الأمور إلى سلاستها القديمة، فقد تطور في مصر «تفكير براغماتى» بنزعة استقلالية، لا مانع عنده من أخذ ما قد تعطيه أمريكا، لكنه ليس مستعدا لدفع الحساب، ولا لتقييد انفتاح السياسة المصرية على روسيا والصين، وميلها لانتقاء حلفاء منفردين من الاتحاد الأوروبي، على نحو ما يجري مع ألمانيا وإيطاليا في الاقتصاد واستثمارات الطاقة، وما يجري مع فرنسا في مجال شراء السلاح المتطور، وهو ما يقوض احتكار أمريكا الرئيسي لتسليح الجيش المصري، وتحكمها في نوعيات السلاح المتاح، بحيث تبقي الجيش المصري عند مستوى قدرات منخفض، يكفل دوام التفوق الحصري المطلق للجيش الإسرائيلي، ويحجز قدرة مصر عند مراتب متدنية جدا في مجال صناعة السلاح.
وليس بوسع أحد أن ينكر ما جرى من انقلاب متسارع في موازين التسليح المصري، وبصفقات معروفة مشهورة مع فرنسا، وبصفقات أهم وأخطر، أغلبها غير معلن مع روسيا بوتين، وبالذات في مجالات القوة الجوية والدفاع الصاروخي، وبموارد هائلة من احتياطي مالي محتجز، لم يمانع الرئيس السيسي نفسه في الكشف عنه في حوار صحافي رسمي جدا، خصوصا في ظل تواضع الميزانية العسكرية المصرية المعلنة، وعجزها عن توفير موارد مناسبة لشراء السلاح، أو تطوير صناعة السلاح الذاتية، وقد شهدت الأخيرة قفزات تطوير محسوسة في «مصانع الإنتاج الحربي» و«الهيئة العربية للتصنيع»، فضلا عن الاستعدادات والتدابير والتجهيزات الجارية لإنشاء مشروع «الضبعة النووية» بالتعاون الممتد مع روسيا، وهو مشروع أكبر من مجرد توفير طاقة نووية كهربائية، بل فتح ملموس لطريق الطموح المصري في امتلاك وتكريس المعرفة النووية، وقد تأخرت مصر فيه طويلا، وأعيقت عن الوصول للهدف بضغوط أمريكية حاكمة للقرار المصري عبر أربعين سنة مضت، ناهيك عن تقدم الجيش المصري لإلغاء مناطق نزع السلاح في سيناء بمقتضى المعاهدة المشؤومة، وفرض واقع عسكري جديد لا تراجع عنه، يعود به الجيش المصري إلى ملامسة خط الحدود التاريخية مع فلسطين المحتلة، وهو ما لم يحدث أبدا منذ ما قبل هزيمة 1967، وكلها ـ مع غيرها ـ تطورات لا ترضى عنها أمريكا، وتسعى لتقويضها بضغوط الاقتصاد، وبدوائر سياسة تملك قرارها في خارج مصر وداخلها، وبدوائر «بيزنس» من مواليد المعونة الأمريكية في مصر، وبأعمال الظل المخابراتي المخترقة للمجتمع وبنية السلطة، فثمة اختناقات كثيرة في الكواليس، وضغوط محمومة للي الذراع وخنق العنق، فلن تنسى أمريكا للسيسي أنه خالفها وخذلها، وفعل ما فعل عقب هبة عشرات ملايين المصريين في 30 يونيو 2013، وبدون أن يصغي لنصائحها أو يشاورها، ثم أنها ـ أي واشنطن ـ لن تنسى له ما فعل بعدها، وبالذات في إضعاف وتقويض الاحتكار الأمريكي الغالب لتسليح الجيش المصري، بما أدى في النهاية إلى جفاء متزايد بين القاهرة وواشنطن، ليس بسبب انتهاكات حكم السيسي لحقوق الإنسان كما تعلن واشنطن أحيانا، بل بسبب انتهاكه لدستور التبعية لأمريكا في مصر، وسعيه «البراغماتي» إلى تنويع مصادر السلاح وموارد السياسة العربية والخارجية، وفي مخالفة المخططات الأمريكية في حروب سوريا واليمن وليبيا المجاورة بالــذات، واتساع رقعة التفاهم المصري العـــسكري والسياسي مع روسيا بالذات.
وطبيعي ـ مع ذلك كله ـ أن تتصرف أمريكا بمقتضى مصالحها، وأن تسعى لمعاقبة حكم السيسي، فهي لا تريد لمصر أن تفيق من غيبتها وكبوتها تحت ظل أي نظام، وهو ما يستشعره السيسي، وعبر عنه مرة في لقاء مغلق مع عدد من المثقفين المصريين، وقال بالنص ـ وبالعامية المصرية ـ «أمريكا كانت بترفع سماعة التليفون وتملي أوامرها»، وأضــاف «ولأن ده ما عدش بيحصل.. هنعاني ونفضل نعــاني»، وهو اعتراف صريح بوجـــود ضغوط أمريكية ثقيلة، عاد ليعلنه ضمنا في حوار تلفزيونى بمناسبة مرور عامين على حكمه، سأله المذيع عن علاقة مصر بأمريكا، وكان جواب السيسي أنه «غير ملزم» بثوابت السياسة الخارجية المصرية في الثلاثين سنة الأخيرة، وتلك إشارة صريحة إلى نهاية زمن التبعية التلقائية لأوامر واشنطن في مصر.
لا خلاف ـ إذن ـ على خطط ومؤامرات وضغوط أمريكية تجري، لكن حكم الرئيس السيسي يضعف نفسه بنفسه، وينزلق إلى خطيئة الخضوع للضغوط، بتبني ما يسميه «برنامج إصلاح» اقتصادي، هو برنامج تخريب بامتياز، وبما يقوض شعبية كانت للسيسي، فضلا عن اتصال ممارسات القمع الأعمى، والعودة للتلاعب بورقة التطبيع مع إسرائيل، وإحلال فكرة «المقاولة» محل فكرة «السياسة»، والتراخي في كنس امبراطورية الفساد، ومحاباة المليارديرات والأغنياء، والتجبر على الفقراء والطبقات الوسطى، وإهدار الموارد في المنتجعات والسفه الاستهلاكي، والتباطؤ في بناء اقتصاد إنتاجي، وكلها اختيارات تهزم وتهدم ما تحقق من إنجازات، وتسهل مهمة المؤامرة الأمريكية على مصر وفيها، وتزيد من اهتراء النظام، وتدعم خطوط المؤامرة ودواعي الانهيار من داخل النظام نفسه، وتلك هي «أم المآسي».

٭ كاتب مصري

المؤامرة وأخواتها

عبد الحليم قنديل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عربي حر:

    يقول الكاتب : بما أدى في النهاية إلى جفاء متزايد بين القاهرة وواشنطن، ليس بسبب انتهاكات حكم السيسي لحقوق الإنسان كما تعلن واشنطن أحيانا، بل بسبب انتهاكه لدستور التبعية لأمريكا في مصر .

    أثناء إجتماع قمة العشرين هذا الأسبوع إلتقطت عدسات الكاميرا مشهد السيسي وهو يحاول أن يسلم على الرئيس أوباما الذي بدا مشغولا بالحديث مع ضيوفه في مشهد مهين للسيسي وليس لمصر التي كان الجميع يخطب ودها ولكنها هانت عندما إغتصب عرشها من لا يملك مواصفات وقدرات عقلية لإدارة محلية ناهيك عن تسيير دولة كبرى ومحورية كمصر .

  2. يقول حسن:

    هل في جُعبتك فكر به تُخرج مصر مما هي فيه من ترد للأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
    حتى صاحب الحملات الذي مازال ينظر للإنقلاب يمكنه أن ينقلب على الإنقلاب. المهم في مصر كونوا على كلمة مثل تونس يوم أسقطت الظلم.
    بدل كفاية قولوا ”مصر ” .

  3. يقول خليل ابورزق:

    نعم امريكا لم تكن راضية عن الانقلاب لانه يتناقض مع سياستها الانسحابية من الشرق الاوسط و هو من ضمن اختلافها مع حلفائها في المنطقة.
    الانقلاب كان تخطيطا اسرائيليا من نوع عدم انتظار النهوض المصري. و تم دعمه ماليا من الجهات التي كان النظام الديموقراطي يشكل خطرا على استقرارها.
    اما ما يقال عن صفقات التسليح فالاهم منها هو بناء الاقتصاد و بناء الانسان. و قد راينا انفاق البلايين على اسلحة لم تصمد قدر صمود منظمة فدائية صغيرة تعتمد على الانسان و المبدأ. و للاسف فبعد كامب ديفيد اشترت مصر طائرات امريكية حديثة و لكنها استعملت لضرب ليبيا ثم اشترت طائرات فرنسية اصبحت خردة. و العراق راكم اسلحة هائلة لم تصمد عشرين يوما. و نظام الانقلاب اشترى ما يسمى حاملة طائرات صناعة فرنسية رفضتها روسيا للحصول على قبول سياسي. وهي مثل ان يشترى مزارع دبابة لحراثة ارضه. عدو مصر على حدودها و ليست ابدا بحاجة الى حاملة طائرات للوصول اليه الا اذا كانت مصر تخطط لمحاربة امريكا او الصين
    الانقلاب حطم امل مصر في اي تقدم. حطم الاقتصاد و حطم الانسان او على الاقل أخر عملية اعادة بناء الانسان الذي حطمته الانظمة العسكرية و غياب الحريات و ضعف الاهتمام بالتعليم و الصحة.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية