يقول الإيطاليون: «إن تكون مترجما فأنت خائن»، ويقصدون هنا «الخيانة الجمالية» للنص الأصلي عندما ينقل إلى لغة أخرى تتطلب تدخل المترجم لإضفاء صفات جمالية ودلالية على النص الجديد، حتى لو أدى ذلك إلى بعض التنازلات المقبولة عن خصاص النص الأصلي، وبما لا يخل بجوهر المحتوى الدلالي للنص في لغته الأصلية.
لكن «خيانة المترجم» فيما يخص ترجمة النصوص الأدبية، لا تكون مقبولة إطلاقاً حال ترجمة «النصوص السياسية والقانونية»، نظراً لأن تلك النصوص ليست مجالاً للتذوق الجمالي، ولكنها نصوص تعتمد على وضوح المحتوى وبروز الدلالات بغض النظر عن الصياغات الجمالية للغة. وعلى العموم، يرى بعض علماء اللغة أن اللغة خؤون في أصل وضعها، فهي لا تنقل المعاني بأمانة، وتحصل داخلها عمليات معقدة وملتبسة لإيصال المعاني إلى المتلقين. وفي الكلام العادي يفهم المتلقي أحياناً خلاف ما أراد المرسل من دلالات ومحتوى. نتحدث هنا عن إشكالية إيصال المعنى ضمن اللغة الواحدة، فكيف إذا حاولنا نقل المعنى من نص في لغة إلى قارئ في لغة أخرى. لا شك أن المهمة أعظم، والمعاني المتسربة ستكون أكثر. وإذا كانت «الترجمة الحرفية» غير مقبولة في ترجمة «النصوص المكثفة»، وهي النصوص ذات الأبعاد الأدبية والدينية، فإن هذا النوع من الترجمة يكاد يكون مناسباً في ترجمة «النصوص السياسية»، نظراً للحاجة إلى دقة الترجمة لحساسية هذا الحقل.وعلى الرغم من ضرورة «أمانة المترجم» في ترجمة النصوص السياسية، إلا أنه في السياسة يجوز كل شيء بما في ذلك الخيانة غير الجمالية للترجمة.
وتمثل قضية ترجمة نص القرار الدولي 242 الخاص بانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، مثالاً بارزاً على التلاعب بمعاني النصوص في الحقول السياسية، حيث نص القرار على انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلت في حرب 1967، وجاءت كلمة «أراض» مقترنة بـ»ال» التعريفية في نسخ القرار باللغات الفرنسية والإسبانية والروسية والصينية: بصيغة «الأراضي»، بينما تحدث النص باللغة الانكليزية: عن «أراضٍ»، من دون «ال» التعريف، والنسختان الإنكليزية والفرنسية هما النسختان المعتمدتان في مجلس الأمن آنذاك. ولذا تترجم إسرائيل القرار بدون «ال» التعريفية في كلمة «أراض»، لأن ذلك يمكنها من الانسحاب من جزء من الأراضي المحتلة، وليس منها كلها.
ومعروف أن المترجمين الإسرائيليين قاموا بعمليات تحريف كبيرة لعدد من الأعمال الأدبية والتاريخية أثناء ترجمتها للغة العبرية، والمثال الأبرز في هذا الخصوص، يتجسد في ترجمة مسرحية «تاجر البندقية» لوليام شكسبير إلى العبرية، التي تتحدث عن جشع التاجر يهودي مقابل طيبة المسيحي، حيث عمد المترجمون الإسرائيليون إلى تصوير الشخصية اليهودية بصفات الطيبة والنبل والكرم والعطف، وعكسوا صورة المسيحي الذي ألقوا عليه صفات تاجر البندقية في النص الأصلي لشكسبير، بما يتواءم مع «الآيديولوجيا الصهيونية» القائمة على أساس نقاء العرق اليهودي وأفضليته.
ومثال آخر على خيانة المترجم في الحقل السياسي، ولكن بشكل غير جمالي، عندما ذهب الرئيس المصري السابق محمد مرسي إلى طهران لحضور قمة عدم الانحياز هناك، بدأ كلمته بالصلاة والسلام على النبي، وترضى على الصحابة من على منبر إيراني، الأمر الذي حدا بالمترجم الذي كان يترجم فوريا من العربية إلى الفارسية إلى التغاضي عن عبارات الترضي عن الصحابة، تجاوباً مع الموقف الديني والسياسي في إيران، وتماشياً مع التفسير الإيراني للتاريخ الإسلامي، والأكثر من ذلك أن مرسي عندما أشاد بثورة الشعب في سوريا، بدل المترجم اسم سوريا، ووضع مكانه اسم البحرين في «خيانة غير جمالية» لنص سياسي حمل رسائل سياسية لا تتناسب مع الجو العام للسياسة الإيرانية، حيث بدا مرسي بعد ترجمة خطابه على وسائل الإعلام الإيرانية، وكأنه يكيل المديح للمعارضة البحرينية والنظام السوري، وذلك بقصد واضح للإيقاع بين مصر ودول الخليج العربي، بالإضافة إلى أن المترجم عمد إلى محاولة «تكييف» خطاب مرسي ليتلاءم مع البروباغندا الإيرانية داخل إيران وفي المنطقة العربية.
الخيانة إذن جميلة في ترجمة النصوص الإبداعية، لأنها تعني محاولة المترجم التحرر من القيــــود التي يمكن أن تجعل نصه في اللغة الثانيـــــة يبدو أقل جمالاً من النص في اللغة الأولى، ولكن الخيانة «قبيحة» في ترجمة النصوص السياسية والقانونية، لأنها تؤشر إلى محاولات المترجم تحريف المعاني والدلالات في النص الأصلي بما يتلاءم مع التوجهات السياسية للمترجم، أو للناطقين باللغة المترجم إليها.
٭ كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»
د. محمد جميح
كلام رائع سمعت آخر خبر طلع العرب هم وراء حرق اليهود المساكين في الحرب العالمية الثانية
لا مشكلة بالترجمة ان كانت من الطرفين بآن واحد
ولهذا حين يجتمع رئيسين بلغتين مختلفتين فان كل منهما يعتمد على مترجمه الخاص – فلا مجال للتزوير لأن كلا المترجمين يستمع للآخر
اللعب بترجمة النصوص هي حرفة بحد ذاتها يشجع عليها السياسيين
كما هي مقررات مؤتمر جنيف 2012 بشأن حل القضية السورية
ولا حول ولا قوة الا بالله
بداية شكرا على إضاءتك لهذه النقاط المهمة ؛وكدت تغوص ينا في إشكالية فلسفية ذات أبعاد ايديولوجية سياسية *اللغة والفكر*و*الدال والمدلول* هل يسبق الفكر اللغة ام اللغة تسبق الفكر وما يترتب عن هذا الإشكال من شرح وفهم أبعاد الترجمة التي ترطقت اليها .
تمنيت لو فصلت أكثر في بعدها الفلسفي؛لكني أعلم أن الغوص أكثر في هكذا مواضيع يأخذ مساحة كبيرة ويطيل المقال؛على كل شكرا جزيلا لك أستاذ محمد جميح ؛مبدع كعادتك.
أقسى أنواع الخيانة هي أن يعجز نظام انقلابي عن ترجمة أماني شعبه في التنمية والتحرر والكرامة.
ليبدأ الجيل الجديد من الشباب الفلسطيني، من خلال التواصل الاجتماعي، كما يسميه البعض، بالمحادثه، لتنتقل الى النقاش الموضوعي العملي، لكتابه الدستور الفلسطيني، القوانين واعاده صياغه من اندثر من المؤسسات اهمها منظمه التحرير الفلسطينيه.
ليأخذوا مكانهم ومكانتهم، فلا يسألوا ماذا فعل الاباء ومن قبلهم الاجداد، فليفعلوا هم، ليصنعوا حاضرهم ومستقبلهم.
هذه ترجمه ايضا، للحقيقه، للواقع.
الف شكر على المقال الرائع ولكن دعني اشير الى أن اللغة الروسية تخلو من اداة التعريف ( ال) خلاف ماذكرتموه… لك كل التقدير.
نعم. لماذا لا يترجمون القرارات والخطب السياسية على أهوائهم وكما يحلوا لهم مادمنا افتقدنا لمشروع يترجم تطلعاتنا على الأرض.
كان الجاحظ مترجما مبدعا في عصره، يترجم كتب الفلاسفة من أثينا ورما، وقد قال يوما: “ترجمة النص خيانة لمؤلفه”! وكان يقصد بها أن الكلمة الواحدة في اللغة الواحدة قد تحمل أكثر من معنى، فعندما يكتب شاعر قصيدة ما، فإنه يضع كل أحاسيسه العاطفية فيها، ثم يأتي المترجم، ويترجمها ترجمة صحيحة وبطريقة إبداعية ومهنية، إلا أن المترجم لا يستطيع أن يضع في ترجمته تلك الأحاسيس والمشاعر التي كانت لدى الشاعر المترجم عنه، فما بالك إن ترجمت الصيدة من لغة ما إلى لغة أخرى، ثم إلى لغة ثالثة من اللغة الأخرى المترجم إليها، وليس من اللغة الأصل؟ لذا، جاء عن الجاحظ ما ذكرته أعلاه وقد سباقا عن الإيطاليين!!!