■ التحضر والمدينة صنوان لا يفترقان في التاريخ الإنساني، بل نستطيع القول إن تاريخ المدن يكاد يكون هو تاريخ تحضر الإنسان، والمدن عبر التاريخ لها متن وهامش، متنها هو بؤرتها التي تحاول كل مدينة أن تقدمها عندما تريد التعريف بنفسها، وفي الوقت نفسه تحاول أن تخفي هوامشها أو تنكرها أو تغطيها، لأن الهامش طالما اعتبر عورة المدينة المنكرة، ولا يمكن أن توجد مدينة في تاريخ الانسانية بدون هوامش، إلا المدينة الفاضلة التي رسخت في مخيال الفلاسفة والكتاب كمثال يتم السعي إليه بدون بلوغه.
لقد كانت المدن تاريخيا تحيط نفسها بأسوار ولها بواباتها العملاقة التي تغلقها ليلا خوفا من هجوم العدو، ورغم أن لكل مدينة فضاء حيويا من الارياف المحيطة بها التي تقدم خدماتها من المواد الغذائية التي تعيش عليها المدن، إلا أنها لم تكن مشرعة الابواب للقادمين من الريف، إلا لينجزوا مهامهم ويرحلوا عائدين إلى قراهم، ولم يكن تعداد سكان المدن كبيرا، ففي عام 1900م كان في العالم 900 مدينة يزيد عدد سكانها عن 100 الف نسمة، أما الان فقد بلغ عدد هذه المدن حوالي 2500 مدينة، يعيش فيها حوالي ثلثي سكان المدن في العالم، ويزداد عدد المدن التي يزيد عدد سكانها على المليون بمعدلات سريعة بصفة خاصة، فقد كان عددها عام 1920 (24) مدينة، أما الان فقد زاد عن 250 مدينة حول العالم، وكان عدد المدن التي يزيد عدد سكانها على خمسة ملايين نسمة عام 1920 مدينتين فأصبح 11 مدينة عام 1960 ليصبح الان 40 مدينة حول العالم.
كلما صغرت المدينة تقارب متنها وهامشها، فهو هامش مدغم بالمتن، يحاول الاخير أن يعالجه أو على الاقل أن يجد طرقا انسانية لاحتوائه، وهذه الظاهرة نشهدها اليوم في المدن الصغيرة التي تقل فيها حالات التسول أو احياء الفقر المدقع أو احياء اللصوص أو الشوارع الخلفية االمتخصصة بتقديم الدعارة أو العاب الغجر، وما إلى ذلك من تنوعيات هوامش المدن، والعكس صحيح تماما، بمعنى أن المدينة كلما كبرت واقتربت من النموذج الميتروبوليتاني، المليوني السكان، تجد الهامش ازداد هامشية ومتن المدينة ازداد تمركزا وتقوقعا ورفضا واخفاءا للهامش، ففي المدن الكبرى تجد هامشها تتوزعه الشرائح أو الطبقات الدنيا من المجتمع، من نماذج مقصية اجتماعيا كالمدمنين وممتهني الدعارة واللصوص الصغار والمهاجرين، بينما مركزها تسيطر عليه الطبقة العليا والشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، يعيشون في أحياء تنعم بالخدمات ويسود فيها النظام وتحميها قوات الامن من هجمات الهامش عليها.
والتوزيع المكاني للمتن والهامش في المدن مر ويمر بتغيرات عديدة، ففي المدن التاريخية كان مركز المدينة واقعا في قلبها، وهو مكان المتن الاجتماعي لها، مرمزا بالساحة المركزية التي تحوي عادة مقر الادارة أو الحكم، والمركز الديني ممثلا بالمعبد، بينما كان الهامش عبارة عن احياء تلتصق بسور المدينة لأن العديد من المهن المتدنية القيمة يقوم بها الهامش الاجتماعي في خدمة مدينته، وقد كانت هذه المعطيات محورا للعديد من النظريات التي حاولت تفسير انماط التوزع المكاني في المدينة والعوامل البيئية والاجتماعية والثقافية المؤثرة فيها، مثل نظرية عالم الاجتماع الامريكي ارنست بيرجس الذي درس مدينة شيكاغو في الثلاثينيات وقدم نظريته التي قسمت المدن إلى خمس دوائر متحدة المركز، مقسمة إلى قطاعات بحسب التوزيع الاقتصادي – الاجتماعي للمدينة. كما برز في هذا المجال باتريك جيديس أحد رواد تخطيط المدن في بريطانيا، في تفسير العلاقات بين العناصر المكونة، للكتلة الحضرية فاتحاً سبل البحث عن المتطلبات الثلاثة باستعمال جدوله الشهير «المكان- العمل- الناس»، وقد طبقت نظريته في تطوير تخطيط مدينة لندن، كما بدأت الدراسات التفصيلية بالانتشار في مدن أوروبا على وجه التحديد، في الفترة بين الحربين العالميتين، فكانت مساهمات الرواد الأوائل من العلماء الأوروبيين والأمريكيين، في هذا الإطار، حيث وضع العالم الألماني والتر كريستالر قواعد تحكم أحجام المدن وتسلسلها الهرمي وتباعدها، وكان للمدرسة الفرنسية دورها في دراسة المدينة، والتنظيم العمراني بالمدن الكبرى، من خلال مساهمات بلانشر، وجان لاباس.
إن نمو المدن كان بتأثير عدد من العوامل منها، التطور الصحي وانخفاض الوفيات وبشكل خاص لدى الاطفال وتحسن النمط الغذائي للسكان، لكن النقطة الاهم كانت في الهجرة الكبيرة من الريف إلى المدينة، لقد ابتدأت ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدن في اوروبا ابان الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، لان المدن قبل ذلك كانت مغلقة بوجه سكان الريف، الا أن الحاجة المتزايدة لليد العاملة التي احتاجتها المصانع الكبيرة التي فتحت استوعبت الهجرة الريفية الكبيرة وادمجت المهاجرين في منظومة التحضر، رغم كل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والصحية التي صاحبت ذلك، اذ ازداد تكدس المهاجرين في احياء هامشية في المدن تفتقر لابسط مستلزمات العيش الانساني، ومع كل ذلك تم استيعاب المهاجرين واطيح بأسوار المدن، وتحولت عواصم دول اوروبا الامبراطورية إلى مدن مليونية، فرضت قوانينها بعد ذلك في ما يخص شروط الحداثة التي فرضتها على بقية مدن العالم، التي سارت على منوال الغرب في هذا المضمار.
اما مدن قارات الجنوب الثلاث (اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية) فقد شهدت مشكلة الهجرة من الريف إلى المدينة أواخر القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، وهي السنوات التي حاولت فيها دول الجنوب الدخول إلى الحداثة مع غياب شبه كامل للتخطيط الذي ينظم عملية التحول، ما جعل الهجرة الريفية تمثل كارثة سكانية مزدوجة التأثير في هذه الدول، فهي من ناحية اولى افرغت الريف من قواه الانتاجية الحقيقية، لان الهجرة تتركز في شريحة الشباب القادر على العمل والمهاجر بحثا عن فرص في المدن، الراكض خلف مغريات جذب المدينة الغائبة عن الريف، والوجه الاخر للمشكلة هو التضخم السكاني السرطاني في المدن، حيث يتكدس المهاجرون في احياء صفيح اقل ما يمكن أن توصف به انها لا تصلح للعيش الادمي، واصبح النصف الاول من القرن العشرين سنوات تضخم مشكلة الاحياء الهامشية في اغلب العواصم العربية وعلى اكثر من صعيد.
لقد باتت الاحياء الهامشية ظاهرة في اغلب عواصمنا العربية، أو كما اطلق عليها البعض قنابل موقوتة في مجتمعاتنا، فهي تضم كثافة سكانية عالية مع غياب شبه كامل للحد الادنى من الخدمات، فتحولت بذلك إلى بؤر للانحراف الاجتماعي والجريمة المنظمة، وبيئة مثالية تنشط فيها التيارات المتطرفة، وهذه المجتمعات تواجه رفض واقصاء العواصم لها، وتهميشها بنوع من التدافع الاجتماعي، ومحاولة فرض الوجود عبر ظاهرة ثقافية خطيرة باتت تعرف بترييف المدن، فقد انتقل سكان الريف إلى المدينة محملين بقيمهم وثقافتهم الفرعية التي كانوا ينزوون بها في هامش المدن، ونتيجة للتضخم السكاني لهذه الاحياء بدأت الثقافة الهامشية تفرض قيمها على المدينة، فانتجت ثقافة هجينة مختلفة عن الثقافة الريفية الاصلية وعن ثقافة المدينة المضيفة، ونتيجة لغياب التخطيط دخلت هذه الثقافة الهجينة بقوة في تفاصيل مجتمع المدن فارضة سطوتها التي تراجعت امامها ثقافة التحضر نتيجة لهشاشتها وقصر عمرها النسبي.
ورغم وصم سكان احزمة الفقر من قبل سكان العواصم العربية بانهم (غير متحضرين) أو (رعاع ) أو (متخلفين ) أو غير ذلك من الصفات السلبية التي يوصمون بها، إلا أنهم كانوا ملح المدينة، الذي يقدم كل الخدمات الهامشية التي لا غنى للمدينة عنها، وفي الوقت نفسه كانوا حطب التغيرات السياسية التي شهدتها العواصم العربية. فنتيجة لتكوينهم الاجتماعي والثقافي ووضعهم الاقتصادي المتدني كانوا دائما في طليعة الانتفاضات والثورات التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين، اذ كانت هذه الاحياء الخميرة الاساسية لحراك اليسار في فترته الذهبية، ثم تحولت مع تغيرات المجتمعات العربية إلى بيئة خصبة احتضنت الاسلام السياسي وحركاته الاجتماعية والسياسية، لتصل اليوم إلى كونها الحاضن الرسمي لأعتى حركات التطرف الاسلامي كـ»القاعدة» و»داعش» واخواتهما، ورغم العديد من الدراسات والبحوث والرسائل الجامعية التي درست ظاهرة (احياء الفقر) او( الاحياء الهامشية) العربية، الا أن الظاهرة مازالت بدون حل، بل مازالت ككرة الثلج التي لا يعرف أحد مدى تداعياتها المقبلة أو ما سيسفر عنه وجودها من انفجارات قد تغير وجه العالم العربي.
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي
أكره السكن بالمدن والسبب الأول هو بالتلوث
ثم الغلاء والزحمة وطبائع البشر المادية
لا يوجد أفضل من السكن بالريف
الحل بنظري هو بالمواصلات السريعة بين الريف والمدينة
ولا حول ولا قوة الا بالله
احد اسباب الهجرة من الريف الى المدن و خاصة العواصم لان فيها ما يحتاجونه.
الحل البسيط و الاكثر فاعلية و الرخيص نسبيا هو الانترنت. بمعنى تحويل المعاملات الحكومية و حتى التجارية الى عمليات الكترونية تتم عن بعد.
لاحط ساعات الذروة و الازدحام المترابطة مع ساعات العمل. الملايين من الناس في حركة دائبة في الشوارع لمتابعة معاملات و مسائل كان يمكن ان تتم الكترونيا. و الحل الثاني هو المواصلات العامة المنظمة و المدعومة