المسألة الإيرانية

هنالك وجهتا نظر حول الموضوع، الأولى هي التي تفترض وجود تحالف قديم بين كل من الولايات المتحدة وإيران، خاصة في ما يتعلق بشؤون العالم الإسلامي، رغم ما يظهر على السطح من عبارات العداء والشجب والإدانة. أما الثانية فهي تعتبر أن إيران إنما فرضت نفسها ووجودها في المنطقة، بما تتمتع به من قوة دبلوماسية وسياسية، وقدرة على فرض أجنداتها واللعب بأوراقها الرابحة، مما جعل تجاهلها مستحيلاً حتى إن أرادت ذلك الأطراف الغربية.
أقول إن وجهتي النظر هاتين، اللتين تبدوان في الظاهر متقابلتين ومتعارضتين، هما في الواقع وجهان تكمل إحداهما الأخرى، فمثلما يبدو من غير المنطقي إنكار التحالف الإيراني- الأمريكي الذي ساهم في إسقاط طالبان وفي تطويق، ومن ثم إنهاء حكم البعث العراقي، مثلما لا يمكن نكران ذلك أو تجاهل حقيقة تسليم العراق وسوريا لإيران وللميليشيات التابعة لها، بدون اعتراض أو محاسبة على كل تلك التدخلات التي تبدو كثمن للمشاركة الإيرانية في الحروب الغربية.. بذات القدر لا يجوز التقليل من شأن المفاوض والسياسي الإيراني ذي الصبر والحنكة، اللذين ورثهما عبر تاريخ طويل من ممارسة الدهاء السياسي. إن العقلية الإيرانية التي اخترعت الشطرنج، تلك اللعبة التي تحتاج أكثر ما تحتاج للصبر والأناة، هي ذات العقلية التي تعلمت كيف تنظر للبعيد وتخطط للمستقبل لاعبة بصمت.. بلا ضجيج وبشكل بطيء لكنه فعال كما يقول المثل الانكليزي.
وفي المسألة الإيرانية يكون التاريخ حاضراً دائماً، فمنذ البداية كانت إيران تشعر بأنها أكثر تقدماً من جيرانها العرب.. أولئك البدو المتخلفين والأقل شأناً وحضارة.. حتى أن اعتراضها على قبول الإسلام في البداية، إنما كان مبعثه أن تلك الديانة قدمت على يد العرب الذين اختارهم الله دون غيرهم ليكونوا رسله والأمناء على كلمته. هذا التعالي التاريخي الذي استمر عبر القرون، والذي لا يمكن تتبعه في هذه العجالة، هو سبب الأزمة الحقيقي وهو من جعل الفرس، بعد قبولهم الإسلام، يسعون جاهدين لخلق نسخة خاصة بهم من تلك الديانة الغالبة، تارة بخلطها مع ميراثهم الثقافي والحضاري، وتارة بتمجيد الدور الفارسي فيها، حتى اكتمل مشروع القطيعة مع ميلاد طائفة التشيع التي فرقت نفسها عن بقية المسلمين السنة، باعتمادها كتباً خاصة وأئمة يخصونها وحدها وتقدس كتبهم وكلماتهم، بل أكثر من ذلك باعتماد مزارات خاصة ومناطق مقدسة غير تلك التي يحج إليها عامة المسلمين.
لنترك التاريخ ونعود لمناقشة العلاقة الأمريكية – الإيرانية وهنا تبرز حقيقة أن أمريكا وفي أصعب منعطفاتها التاريخية الحديثة، أعني أحداث 11 سبتمبر، في تلك اللحظة التي شكلت لها صدمة وجعلت حتى رئيسها يفقد صوابه ويعلن في هيستريا بداية ما سماها «الحرب الصليبية» الجديدة.. أقول إنه حتى في تلك اللحظة فإن الولايات المتحدة لم تفكر بضرب إيران. لقد فكرت الولايات المتحدة بضرب سوريا والعراق، وضربت فعلاً مصنعاً للأدوية في السودان لكنها لم تفكر أبداً بمهاجمة إيران التي تعلن عداوتها على الملأ.
أما إيران فقد تصرفت بحنكة إثر الأحداث، ففي حين كانت الدول العربية ما تزال تحت الصدمة، وفي حالة من حالات ترتيب الأوراق كان وزير الدفاع الإيراني آنذاك يعلن عزاءه للشعب الأمريكي، بل أكثر من ذلك يعلن تعاون بلاده مع الأمريكيين في أي نوع من الدعم يحتاجونه عسكرياً ولوجستياً، لاسيما وأنهم لاشك سيحتاجون على الأقل الموانئ والأجواء الإيرانية للثأر من طالبان أفغانستان التي كانت تؤوي زعيم «القاعدة». كانت تلك حركة موفقة بلاشك، خاصة أن الوزير علي شامخاني استخدم لغة بليغة وهو يعتبر أن من واجب بلاده الانساني الوقوف مع الولايات المتحدة حتى إن لم تطلب ذلك.
في الواقع فقد كانت أفغانستان الطالبانية عدواً لإيران بأكثر مما كانت عدواً للولايات المتحدة، فقد كانت تشكل تهديداً حقيقياً عليها وعلى مصالحها الآسيوية، وقد برر ذلك الاستعداد الكبير للتعاون مع الغرب والولايات المتحدة في دك تورا بورا وقصفها والانتقام من الأفغان مدنيين ومقاتلين. حينها ربما اقتعنت الولايات المتحدة بأن إيران بلد يمكن التحالف معه.. صحيح أن للولايات المتحدة حلفاء تقليديون من دول السنة الخليجية، إلا أنهم ومهما كان ولاؤهم لها لا شك سوف يترددون في دعم ضرباتها العشوائية على الحجر والشجر في أفغانستان وفي غيرها. أما إيران فبسبب التنافس الاستراتيجي أو العداء التاريخي، مستعدة لتكون النصير والحليف الذي لا يخذل والمستعد دائماً للتعاون.. ذلك التعاون الذي ظهر جلياً في الإطاحة الأمريكية بحكم صدام حسين الذي، وللمصادفة، كان العدو المشترك لكل من الولايات المتحدة وإيران في ذلك الوقت، ثم قامت طهران بتحريك حجر جديد على رقعة الشطرنج الدولية بانتخاب روحاني بعد سلفه أحمدي نجاد، الذي اشتهر بلغته اللاذعة والعدائية تجاه الأمريكيين والاسرائيليين، وروجت لهذا الانتخاب على أساس أنه عهد جديد وصفحة جديدة يتم فتحها مع العالم.
الطريف أن الإدارة الأمريكية التي كانت تعلم انتماء الرئيس الجديد لذات مدرسة سلفه التقليدية، وتبنيه المواقف ذاتها بشأن كل القضايا في المنطقة، وعلى رأسها العلاقة مع الغرب والمشروع النووي والعداء للكيان الصهيوني، الطريف أن تلك الإدارة روجت بقوة لمشروع فتح صفحة جديدة مع طهران وقامت بدور المسوّق الجيد للرئاسة الإيرانية الجديدة أمام شعبها أولاً، ثم أمام القيادات الأوروبية، التي زاد حماسها للتشاور والتحاور مع دولة «الآيات» لينشأ ما بات يعرف إعلامياً بـ»التقارب الغربي – الإيراني».
لقد أصبح الأمر وكأنه مجرد ذريعة لإعلان التشاور مع طهران، بعد أن كان من خلف أبواب مغلقة ليصير على العلن، خاصة أن الأخيرة لم ينتج عنها ما يؤكد تغيير سياساتها في المنطقة، فهي لم تكتف بالسيطرة على العراق والتوغل في سوريا، بل باتت تتحدث علناً عن وقوع عواصم عربية تحت سيطرتها وعلى كون بغداد مثلاً جزءاً أصيلاً من الحضارة الفارسية. رغم كل ذلك فقد تتابعت اللقاءات مع المسؤولين الغربيين، وتتابع الحديث عن الخطوات الإيجابية وعن «التقدم» الغامض الذي تحرزه المفاوضات.
إيران تدخل التفاوض بفكرة واضحة، هي أنك وإن ظللت تتحدث عن مصلحتك الخاصة فلن يستمع إليك أحد، لكن عليك أن تتحدث عن مصلحتك وعن مصالح الآخرين وتقنعهم بأن في دعمهم لك مصلحة لهم أيضاً.. هو تكنيك ناجح بلا شك ومختلف عن الطريقة التي يدير بها أغلب العرب حواراتهم ومفاوضاتهم. وبالنسبة للحوار فإن هناك سؤالا يطرح في كل مرة تطرح فيها المسألة الإيرانية وهو التالي: ألا يمكن للدول العربية الوصول لصيغة توافقية بخلق حوار بناء مع إيران؟ إجابة السؤال بالنسبة لي هي لا كبيرة، وذلك لسبب بسيط هو أن العرب، خاصة ذلك الجزء من العالم العربي القريب من التهديد الإيراني، لا يمكنهم الآن البدء في أي حوار منصف، لأن غريمتهم إيران أضافت لتعاليها التاريخي الممتد عبر العصور قوة مادية وعسكرية لا يمكن التهاون بها جعلتها تتحدث بصوت عالٍ عن شرعية ضم أجزاء من المنطقة العربية كالبحرين والعراق وغيرهما.
إن الحوار مع طرف أقوى لا يعد حواراً، بل هو إذعان، ولذلك فإن الطريق الوحيد لبدء حوار جاد هو التقوي بالوحدة ونبذ الخلافات والانقسام حتى يحظى الحوار بتوازن ولا يكون مجرد فرض إرادات وأجندات. وحتى يأتي ذلك الوقت الذي تتوحد فيه الدول المهددة وتنبذ فيه خلافاتها الصغيرة ورهاناتها على الآخر، سوف تتابع إيران امتلاكها للعراق وسوريا وتدخلاتها العسكرية التي تخالف بشكل صريح القرارات الأممية الخاصة بتصدير الأسلحة إلى سوريا، كما تخالف قرار لائحة العقوبات على طهران..
لكن من يبالي بالعقوبات إذا أخذ الضوء الأمريكي الأخضر..؟

٭ كاتب سوداني

د. مدى الفاتح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    مقال ممتاز وفريد من نوعه
    فقد جمعت به المتضادات بتوافق سلس
    شكرا لك يا دكتور مدى والله يفتح عليك

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول خالد بن الوليد:

    مقال ممتاز شكرا لك يا دكتور

  3. يقول محسن . عون - تونس:

    مقال ممتاز و فريد في تحاليله ما أحوجنا الى هذه الأنوار و شكرا

  4. يقول حسن:

    إيران كانت سنية وتشيعت على يد علماء شيعة عرب، من جنوب لبنان الحالي خاصة.
    التسنن هو المذهب الرسمي الذي تابع السلطة الغالبة، وأثرت فيه برجالها وأفكارها التي قامت على دعم الحكم القائم (عدم جواز الخروج على الحاكم بالسيف، والاكتفاء بالدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والاعتزال في الفتنة)، وكان الحكم ينال تاريخيا بالغلبة والتوريث (باستثناء علي الذي طلبه الناس وأصروا عليه، بعد مقتل عثمان).
    التشيع جوهره أن الحكم لله ولعباده الصالحين (عدم جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل). وأنه لا يمكن إطاعة الله وعدوه معا. وأن رابطة الولاء لله مقدمة على الولاء للمصلحة والصداقة والعائلة والعشيرة والهوى.
    العباد الصالحون قسمان : إما معينون، وهم الاثنا عشر خليفة الذين ذكرهم الحديث الشريف، وهم ضمانة حراسة للإسلام في بداياته، وإحياء له قبل يوم القيامة مع المهدي. وقبل المهدي تكون السلطة لأفضل الناس فقها وعلما وتقوى وجهادا.
    فالمجتمع الشيعي المثالي يتم ترتيبه على أساس قيم الإسلام الثلاث : التقوى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، والعلم (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) والجهاد (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما).
    كفى تكرارا لمقولات لا تطابق الواقع التاريخي. وشكرا.

إشترك في قائمتنا البريدية