القدر الذي نُشر على هذه الصفحة خلال الفترة الماضية يكفي كفرشة للإلمام بجوانب المشروع البديل، واعتمد أغلبه على مساهمات قراء ومهتمين وكتاب ومشاركة كاتب السطور. وجاء ذلك في سياق مسعى جاد لإحيإء مواطن القوة الغائبة في «القارة العربية»، وتعزيز التوجه نحو بلورة بديل لمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد. وتصادف الوصول لهذه النقطة مع إعلان رئيس الوزراء الصهيوني على «شبكة سي إن إن» الأمريكية في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري (ذكرى وعد بلفور) إعلانه عن «تغيير هائل» في القارة العربية. والادعاء بأن «دولا عربية كثيرة أصبحت تعتبر إسرائيل حليفا ضروريا لها، في مواجهة إيران وإرهاب تنظيم داعش» وذكر أن السلام مع الفلسطينيين – بمفهومه الصهيوني – سيتحقق بطريقة معاكسة، وذلك بالتقارب مع الدول العربية، أي أن الدولة الصهيونية مع باقي الدول العربية السائرة في ركابها قد نفضوا أيديهم من الحلول المنفردة، وكانت رهانهم منذ زيارة السادات للقدس المحتلة، وإلى ما قبل السقوط العربي الراهن.
تولى نتنياهو تخطئة «الذين زعموا أن أصل الصراع في الشرق الأوسط هو القضية الفلسطينية»! على حد قوله. وقال هذا ليس صحيحا، والغريب أنه ادعى بأنه «صراع لم يدر أبدا حول وجود دولة فلسطينية بل حول الدولة اليهودية، وما دام (جيراننا) الفلسطينيون لم يعترفوا بذلك، ويتنازلوا عن محاولاتهم لتدمير الدولة اليهودية بوسائل مختلفة، فإن تحقيق السلام سيكون صعبا! وزف إلى مستوطنيه أخبارا اعتبرها سارة عن دول عربية كثيرة لم تعد تعتبر الدولة الصهيونية عدوا بل حليفة لها، وحتى حليفة ضرورية في مكافحة الإرهاب والتطرف الإسلامي! «الذي تقوده إيران أو يقوده تنظيم داعش». ولا يمكن قول ذلك إلا في بيئة إقليمية مسممة ووضع عربي بائس.
تغيرت العقيدة السياسية للحكومات العربية، وتبدلت العقيدة القتالية لجيوشها، وأساس العقيدة الحكومية الصدام الدائم مع المواطنين وتأديبهم، وإدارة مخطط التدمير الذاتي للوطن والدولة والمجتمع. وعقيدة الجيوش ارتضت تغيير موازين القوى في غير صالحها، وشَغَلها الأمن الداخلي والحروب البينية والداخلية. وتدور معاركها مع الجيران وبينها وبين مواطنيها، والجيوش، ولا تنشغل كثيرا بالخطر الاستيطاني العنصري القائم في فلسطين ومحيطها، لا الآن ولا في المستقبل المنظور.
وفي الظروف الراهنة لا يجد المشروع البديل حاضنة ترعاه. وتتعقد تبعا لذلك الإجابة على السؤال المطروح عن كيفية العمل لتنفيذ المشروع، ومن أجل حل عقدة السؤال نعرج على ما لدى العرب من مخزون سابق وخبرة محجوبة، وذلك جعلهم يسلكون طريقا حرروا به مصر والسودان والمغرب والجزائر وجنوب اليمن المحتل ومحميات الخليج، وكل القارة العربية باستثناء فلسطين. وفجأة تخلت كثير من الحكومات العربية عن ذلك طوعا، وسلمت أرضها ومصيرها وقرارها لورثة المغتصبين القدامى.
وحين سلك غير العرب ما سلكه العرب تحرروا من قوى أعتى كثيرا من الصهيونية. ولنتذكر ما فعلته الامبراطورية البريطانية في آسيا، خاصة مع الصين في حرب الإبادة بالأفيون. ومع الهند وحرب التقسيم والفتن والصراعات الدينية والطائفية والعرقية. وما قامت به فرنسا في الهند الصينية، ومن عاصر أو قرأ عن تلك الحقب كان يتصور أنها أمم حُكم عليها بالفناء. لكن ما لم ينجح فيه الهنود الحمر، وكانوا شعوبا آمنة ومسالمة، نجحت فيه الصين والهند وكوريا، وصارت دولا متفوقة في مجالات الزراعة والصناعات المدنية والعسكرية، وفي مجالات الفضاء والتقانة والمعلومات.
من هنا فبناء القوة الذاتية طريق القارة العربية للتخلص من القيود المكبلة لها. والقوة الذاتية لا تتحقق بعلو الصوت ولا بالخداع والانتقائية، ولا تُنجز بالسياسة بوضعها الراهن، ولو كانت السياسة شرا فهي شر لا بد منه، وهي الأساس الذي يُقيم الصلة بين المجتمع والحكم، وهذا مفتقد وشبه غائب، ولا يمكن تحميل ذلك الصنف من الساسة مسؤولية مشروع بديل، هدفه حماية «القارة العربية» من الزحف الصهيوني، الذي وصل لمراحل هيمنته النهائية.
والقوة الذاتية لا تبنى بطريق الاقتصاد السائد حاليا، فهو اقتصاد بلا ضوابط، ونشاطاته طفيلية وهامشية، تحركه مصالح وصفقات صهيونية ومشبوهة، وغش ومضاربات مشتركة بين الدولة وأباطرة المال، على العملة والأراضي والعقارات، والجباية وجمع المال وتبديده بعيدا عن التشريع والرقابة. والحكومة طرف في الاقتصاد الأسود (الموازي) وعلى هواها دون تخطيط، ومشروعاتها فردية ومزاجية وغير مقننة، وتنشر الفقر، وتقدم نموذجا فريدا في التسول وتفضيل الأعمال الدونية لخريجي الجامعات الوطنية، وحجز المهن المتميزة لأبناء أباطرة المال وملوك الاحتكارات وأصحاب النفوذ والمسؤولين من خريجي الجامعات والمعاهد الأجنبية، ودفع أبناء الطبقة الوسطى والفقراء إلى حرف هامشية غير منتجة، ويتركون لنظام السخرة المستحدث، وهو العمل بلا أجر، مقابل نصيب من إكراميات «بقشيش» زبائن المقاهي والمطاعم والملاهي ومحطات الوقود، والعمل في جمعيات طائفية ومذهبية، والعمل حراس لأصحاب هذه الجمعيات وأسرهم وأتباعهم، وهي جمعيات يأتيها المال بلا حساب من الداخل والخارج، أما الدولة فتركز على الجباية وأدمنت مد اليد، وعجزت عن حل مشكلة البطالة ومواجهة الجوع وانهيار مستوى المعيشة.
والمشروع البديل في حاجة لبيئة مبرأة من الفساد والتمييز، ترد الاعتبار للوطن والمواطن، ومشكلة الخطاب الرئاسي، هو وضعه المواطن العادي غير المسيس في خانة «أهل الشر»، لمجرد أنه أبدى رأيا واعترض على موقف مخالف لموقف الرئاسة، والمواطن في نظر المشروعات الوطنية الجادة هو الهدف والوسيلة، تتوجه إليه وتُنَفذ بمعرفته، وذلك يتحقق بالتعليم والمعرفة والثقافة والتدريب والخبرة، وهو ما يكون القوة الذاتية، المعنوية والمادية. ويبدو أن هذا صعب في زمن جلس فيه المقاول على مقعد العالم، واحتل الثري مكانة الثائر، وارتدى السمسار رداء المفكر. وأول مهام المعنيين بالمشروع علاج هذه التشوهات، وقد أصابت القيم العامة الخاصة، دون تقليد واستنساخ ونقل، وبإثراء الوجدان وإشباع الحاجات والارتقاء بالذوق. والقوة الذاتية الحقة هي قوة العدل وفتح أبواب المستقبل، عكس القوة الغاشمة، المتصالحة مع الظلم والموصدة لأبواب الأمل. وعلينا أن نقر بإن سرعة إيقاع العصر أكبر من القدرة على ملاحقته، وليس في مقدور العقل الخامل والنرجسي الانسجام مع زمن هذه سرعته.
وكثيرا ما تنافست مصر والعراق والشام واليمن على السبق العمراني والتاريخي، وكانوا محقين فقوتهم الذاتية صنعتها إرادتهم الجامعة، وانعقد قصب السبق فيها على وادي النيل، واتحاد مملكتي الجنوب والشمال. ومن يومها وهذه الدولة الواحدة قائمة حتى الآن، تنمو وتزدهر بالقوة والتقدم والحكمة، وتقاوم الغزوات والمجاعات والقحط بالتحمل والصمود. وفي ظني أنها أقدم صيغ الوحدة والقوة قاطبة. وهذا التميز إذا ما تم إحياؤه يحيي القدرة على مواجهة خطر الغزاة والمتربصين ومواجهة طابورهم الخامس، المتمكن من مفاصل الدولة والمتربص بكواليس الحكم والمعشش في دهاليز السلطة. وما زالت صيغة الدولة الموحدة أساس التعاضد في مصر.
وعلينا ألا ننسى أننا في زمن يسهُل فيه الدخول في صيغ موحدة واتحادية قانونية كبرى وقوية، ومن اليسير تقسيم كيانات أكبر وأقوى إلى كيانات أصغر وأضعف. وكما دخلت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي بالقانون خرجت منه بالاستفتاء. وبدأ هذا التحول مع تغييب الإرادة السياسية العامة، ونتيجة مباشرة لانقلاب موازين القوى، وغلبة التدخلات الخارجية على قوة التماسك الوطني، وذلك حين انتصرت الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الباردة على كتلة شرق ووسط أوروبا بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق. ثم توالى تدمير العالم بعدها!!.
٭ كاتب من مصر
محمد عبد الحكم دياب
فى البداية احييك استاذنا على الحس القومى , وهذ ليس غريب عليك , ولكن المشكلة تكمن فى أن المشروع القومى لايبنى على شعارات وأحاسيس لاشك فيها , ولكنه عمل علمى ذو خطوات محددة ,سبقتنا اليه تجمعات كثيرة لاتملك ما نملكه من مقومات الوحدة , ولكنها إمتلكت عاملين مهمين هما العلم والإرادة السياسية وهما مانفتدهما بشدة .تحياتى