القاهرة ـ «القدس العربي» : كان النقد ولفترات طويلة يمثل سلطة وسيادة على النص الإبداعي، محاولاً أن يفرض عليه رؤيته وأسلوبه، ومن ناقد لآخر تتباين هذه السلطة، ما بين إحياء نصوص وأصحابها أو مواتها. وما بين استعراض قدرات الناقد وتنظيراته ونظرته المتعالية إلى هجرة النصوص إلى آفاق أرحب بعيداً عن اللغط النقدي، الذي توسل بنظريات غربية ومصطلحات تشعره بالتفوق، فابتعدت هذه النصوص عن التقعرات وتركت الناقد يعمه هائماً، باستناده إلى نصوص شهيرة يستمد منها الأمان، لأن النصوص الجديدة مارست في دهاء انتقامها منه ومن تعاليه، فأصبح معزولاً يعيد ترتيل ما سبق، موهماً نفسه بشيء من القداسة. هذا الأمر بالطبع لا ينطبق على كل النقاد، لكنه السمة الغالبة على المشهد النقدي الرسمي إلى حدٍ كبير، أما الساحة النقدية فأصواتها الجديدة أكثر انفتاحاً ووعياً بالسمة الأهم، وهي عدم امتلاك الحقيقة، وما اليقين النقدي سوى أحلام طفولية لا أكثر ولا أقل. نحاول هنا استقراء الحال النقدي من خلال رؤية بعض المبدعين في مجال الرواية والقصة والشعر.
الإبداع يؤسس للنقد
بداية يقول الكاتب الروائي رؤوف مسعد.. من المؤكد أن المبدعين مجرد بشر يريدون التقريظ، بل ويبحثون عنه، خاصة في ما يتعلق بأعمالهم، نعرف أن العديد من المعارك الأدبية قامت بين النقاد والمبدعين في الشرق والغرب وفي جميع الثقافات والإنجازات الإبداعية، ولعلنا ما نزال في القصيدة النثرية ناهيك عن شعر العامية ومحاربته ـ حتى الآن ـ من بعض شعراء ونقاد التفعيلة، لكن لا يصح إلا الصحيح، أي أن النقد يلتحق بالإنجاز الإبداعي ولا يسبقه، فشعراء وكتّاب الملاحم الإغريقية وهم أوائل المبدعين، قالوا قولهم شعراً ونثراً ومسرحاً، ليأتي بعدهم النقاد يتأملون في ما قرأوا وسمعوا ويقولون قولهم هم أيضاً. الإبداع يؤسس للنقد وليس العكس، بالتالي لا يستطيع النقاد أن يفرضوا قواعدهم على عمل إبداعي مختلف عن السائد إلا في حدود يتعارف عليها المبدعون والنقاد، كأن يكون هذا العمل «ريادياً» في مجاله، أي أنه يترك القواعد الأساسية لإبداع ما، ويؤسس له قواعده الخاصة به أو حتى «لا قواعده» حسبما يتحمل العمل الإبداعي الجديد، لنضرب مثالاً بالموسيقى التي ازدهرت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مثل موسيقى وأغان «البيتلز» الإنكليزية التي أصبحت فناً عابرا للقارات، وهي على النقيض من الموسيقى الكلاسيكية السيمفونية التي سادت لعصور طويلة وما تزال تسود بجوار الأنواع المختلفة من الموسيقى الأكثر حداثة مثل «الراب» وغيرها، هذا ما فعله سيد درويش في الموسيقى الشرقية، وما طوره محمد عبد الوهاب وما أسسته أم كلثوم من تجديد. وإذا أتينا للرواية فهي نتاج أجنبي وفد إلينا مع كتاّب ومؤلفي ألف ليلة وليلة الذين لا نعرف عنهم الكثير، لكن ألف ليلة العربية التي انصهرت داخل البلاد العربية آنذاك مثل العراق وسوريا ومصر، ممتزجة بخيال عجائبي مثل مدن النحاس والعفاريت والجن والقرود المتكلمة بلغة البشر والجنيات الإناث اللاتي يحببن الذكور من البشر.. الخ، فهذا إنجاز عابر للقارات، اهتم به المترجمون الغربيون وترجموه إلى لغات الغرب احتفاء بغرائبيته ونوعه النادر في الإبداع العالمي آنذاك. قد يكون الناقد محظوظا – هو لا المبدعين – إذا ما استطاع استشفاف الجديد والمتطور في العمل الإبداعي وتسليط الضوء عليه والاحتفاء به. وإذ فاتته هذه البصيرة العميقة اللماحة فهذا شأنه، إذ ستصبح أطروحاته أنموذجا للتندر، بعد أن يفوته قطار الحداثة والعصرنة، ويبقى العمل الإبداعي خالداً يؤسس لنفسه قواعده التي سوف يسير عليها النقاد ويطورونها.
الناقد الغامض والناقد الذي يمشي في الأسواق
من جهته يفند الشاعر مؤمن سمير الرحلة النقدية ومساراتها فيقول، كان اعتبار مساوقة النقد للعمل الأدبي هو معيار نجاح هذا العمل والمؤشر الأخطر على تميزه وإبداع كاتبه هو السائد والمعتاد في مصر، فبمقالة من ناقد كبير تصبح مبدعاً حقيقياً حاصلاً على صك الاعتراف، حيث سيتبارى الجميع في الثناء على إبداعك الاستثنائي، وفي انتظار تجديد الأدب العربي على يديك، بينما وبتجاهل متعمد من النقاد يمكن أن تُنسى ويُنسى إبداعك وتتوه في الزحام، حتى جاء السبعينيون بقصيدتهم الغاضبة والانقلابية فافرزوا حركتهم النقدية هم بأنفسهم بكتابتهم عن تجارب بعضهم بعضا، إما يأساً من تعاطي الذائقة الاعتيادية لنصهم وربما كجزء مكمل ولازم لطرح ملامح ورؤى وأيديولوجيا جيل يتخلق، ومن ساعتها تزحزحت مكانة الناقد واهتز بريقها وانتقل من مرحلة العارف والمبصر الأوحد إلى مجرد قارئ يملك بعض الامتياز، ثم جاءت مرحلة تقعر النقد فيها وأصبح النقاد يتسابقون في صنع قراءات للأعمال الأدبية تعج بالمصطلحات الملغزة والمبنية بطريقة هي أبعد ما تكون عن السلاسة والتفاعل مع النص، وأقرب لمناقشة نظرية بحتة، فإذا حذفت العمل المقروء ووضعت غيره لا يختلف الأمر كثيراً. هذه المرحلة تسيدت فيها مجلة «فصول» المشهد وتحول الناقد معها إلى شخص غامض متعال لا يحتاج نصك بالذات، وإنما أي نص سيؤدي الغرض، المهم هو عرض النظرية الحديثة والمنهج الجديد بغض النظر عن مدى مناسبته لاتجاهات الكتابة أو مدى الإضافة التي يضيفها هذا الذي يعرض ويعرض ويعرض. أصبح الناقد مسلحاً بعلم يمكن أن يُنزله على العمل ويملأ الخانات فقط، متخلياً عن أي شخصية وتوجه يخصانه لتفرق وتمايز بين هذا وذاك، إلى أن جاءت التسعينيات وترافق مع ظهور الجيل المبدع جيل من النقاد الشباب، كانوا أكثر مرونة وأكثر قرباً والتصاقاً بروح النص وأقل جفافاً وتقعراً، وعاد الناقد والمبدع يمشيان في الأسواق متأبطين ذراعيْ بعضهما بعضا ومتفاعلين بصداقة تقوم على الندية وتقدير كل طرف لطبيعة وحركية دور الطرف الآخر، لكن بعد الثورة المعرفية التي تغطي السماء والأرض والتي لا تحتاج إلى شخص مسلح بدراسة أكاديمية بالذات ليتمكن من الإحاطة بأحدث نظريات تشريح وقراءة وتلقي العمل الأدبي، صارت القراءات النقدية تملأ الدوريات بأقلام الجميع، المثقف والمبدع والأكاديمي، وأحياناً لا تستطيع التفرقة بينهم فالمعيار هو أن يحب قارئٌ ما عملاً ما فيبدأ باقتراح بعض المفاتيح التي قد تنجح أو لا تنجح في التعاطي والتواصل. لقد قتلت النظريات والفلسفات الجديدة فكرة اليقين وفكرة استئثار جهة ما أو شخص ما بالمعرفة، وأزالت بالأحرى فكرة أن هذا التفسير بالذات هو النهائي أو الصحيح.
فساد المناخ الثقافي
وترى القاصة والكاتبة الكويتية إستبرق أحمد أن علاقة الكاتب مع نصه تنتهي كما نعرف بعد صدوره، لتأتي آراء القراء وكتابات النقاد، الأول يتعاطى مع النص عبر قبعة انطباعاته الظاهرة، التي تعتمد بالدرجة الأولى على مدى عمق احترافية قراءته وتخصصها، بينما الآخر يعتمد على جراب أسلحته المعرفية وعمق مكوناتها الكامنة، التي تأتي عبر خليط مدارس ونظريات واستيعاب لمصطلحات تقيده أحياناً، أو تفلت له جناحين للتحليق في النص بحسب شخصيته الواعية، فيقارب أو يبتعد، مضيفا الأجمل للنص، وقد يصل إلى مقاصد أخرى لم يكن يرنو إليها الخالق الأول/ الكاتب. لذا الإشارة لاشتغال الكاتب وجماليات النص، وربما الإشارة لما اعتراه من وهن، لا تكون بدون الناقد المحاور والمحايد للنص، القادر على تهميش الكاتب والتعامل بنضج مع النص بمعزل عن صانعه. هذه الإمكانيات لا تتوفر لدى جميع النقاد، لأن النقد في كل اجتهاداته ليس عصياً عن التلوث بالأمراض التي يلتقطها المشهد الثقافي من المجتمع، فالكثير من الأمور حولنا تأتي من بئر ينضح بعفونة المصالح وفجاجتها، فافتراض تابعية النقد للنص الإبداعي يعني أن النص النشيط وحده يستقطب طنين الأسئلة النقدية، لكن الواقع أن ما يجذب بعض النقاد ويجعلهم يتماهون مع النتاجات الكثيفة، هو استسهال التواجد كاسم نقدي عبر تكرار الكتابة عن نص استهلك نقدياً، أو تناول نص ضعيف لكنه قوي بشبكة علاقات الكاتب وتأثيرها، بينما الناقد وظيفته الأسمى تتمثل بالكشف والبحث عن النصوص التي ربما انزوت بعيداً عن فكرة نجومية الكاتب وغيرها من أسباب. هذا يعني أن الناقد له أهمية كبيرة، لكنه لن يحوزها إن لم يكن ناقداً مقداماً ومميزاً إزاء نص مغامر وغني. ويؤكد هذه النقطة الشاعر سامي الغباشي من خلال تجربته فيقول.. علاقتي بالنقاد نادرة لأنني غير مشغول بتسويق أعمالي، وتواجدي داخل الوسط (بطريقتهم) التي يحبونها. أكتب وفقط، بينما هم يريدون المبدع الذي له علاقات جيدة مع الصحف والمجلات التي تدفع أكثر، ليكتب عنك، أو أن يكون المبدع على رأس مطبوعة ثقافية سخية وسيبادله المحبة بمثلها، وهذا الأمر أفسد المشهد، ولكن على الطرف الآخر من المشهد هناك نقاد يعملون في صمت وتملأهم الفرحة بالنص الجيد بلا حسابات.
من سلطة الناقد إلى سلطة القارئ
ويرى الروائي محمد إبراهيم طه أن القراءة النقدية للعمل الأدبي تمثل إضاءة للنص وإعادة اكتشاف من خلال قراءة واعية ومتخصصة، تحاول الوصول إلى ما يقصده النص، وتتفاعل مع جمالياته وتهتم بطريقة بنائه وتركيبه وبالرسالة المنوطة به وتخضعها للنقاش والتقييم، من خلال أدوات ومناهج يتبناها الناقد في عملية لا تقل إبداعاً عن عملية كتابة النص الأدبي، حيث الكاتب والناقد كلاهما قارئ، وكلاهما مثقف، وكلاهما متورط بشكل ما في الحياة الأدبية، وفي الحياة عموماً، وإن اختلفت آليات كل منهما في الكتابة، ومن ثم كانت للناقد سلطة بحكم أنه المنوط به تقديم النص إلى القارئ، وتضييق الفجوة بين الكاتب والقارئ، لكن القراءة النقدية الآن اتسعت، لتشمل كل القرّاء باعتبارهم نقادا للنص، وتلاشت من ثم سلطة الناقد التقليدي، وتغير أيضا مفهوم الكاتب وانتقلت السلطة إلى القارئ بمختلف أنواعه (العادي والمثقف والمحترف والمتخصص في حقول معرفية أخرى كعلم النفس والفلسفة والأنثروبولوجيا والتاريخ أو القادم من مجالات فنية أخرى كالسينما والمسرح والفنون التشكيلية) لتنتج من ثم مستويات مختلفة ومتنوعة ولانهائية من القراءة للنص الواحد، الأمر الذي نتج عنه تغير في الذائقة الأدبية وآليات تلقي النص الأدبي، والانتقال من حكم القيمة الصارم إلى أحكام جمالية أخرى، تتحاور مع النص الأدبي لا تقيمه، وقد رأينا محكمين من خارج المجال الأدبي والنقدي يحكمون في جوائز أدبية كبرى، ولهم اهتمام بالشأن العام ومجالات معرفية أخرى أكثر من اهتمامهم الأدبي، ما ساهم في اتساع مفهوم النقد ودور الناقد، وأدى إلى نوع من الخلخلة في الذائقة الأدبية، التي أصبحت تختلف عن التلقي التقليدي للعمل الأدبي وانتهت من ثم السلطة الصارمة للناقد التقليدي أو أوشكت على الانتهاء.
انهيار التعليم وخفوت الصوت النقدي
الروائي إبراهيم فرغلي يرى أن الحال النقدي اليوم قد تغيّر تماماً، ولعدة أسباب متداخلة سياسياً وتقنياً، يقول: أعتقد أن سلطة النقد سلطة ضرورية في متابعة أي مشهد إبداعي، ووجودها ضروري لإنعاش المناخ الإبداعي من حيث الاحتفاء بقيم التجريب وتطوير النصوص السردية والشعرية وسواها. لكن هذه السلطة في الحقيقة أصبحت شبه معدومة، بسبب انهيار مستوى التعليم في مصر، الذي أدى إلى اندثار سلالة النقاد الكبار الذين عرفتهم ساحتنا الأدبية والفكرية من أمثال طه حسين، ومحمد مندور، شكري عياد، محمود أمين العالم، سيد حامد النساج، عبد القادر القط، لويس عوض، وغيرهم من رواد المشهد النقدي في مصر. فقد كان أغلب هؤلاء النقاد متابعون جيدون للأدب، ويمتلكون الأدوات النقدية التي تمزج بين التقنيات النقدية الأكاديمية ومفاهيم النقد الثقافي، ومع انهيار مستوى التعليم تأثر النقد مثل كل شيء آخر للأسف. وأصبح لدينا مزيج من الثرثرات النقدية والأقاويل، ووسائل إعادة حكي النصوص، والزعم بأن هذا كله نقد.
ويضيف فرغلي.. ليس هذا تعميماً بالجملة، لأن هناك رغم كل شيء، نقاد من جيل الوسط وما بعده يجتهدون، ويقدمون جديداً في المجال، وإن لا يتناسب حجمه أبداً مع حجم الإبداع.
لكن السبب الآخر في غياب السلطة النقدية يعود إلى رأس المال الأمريكي الذي يستثمر في مواقع التواصل الاجتماعي مئات الملايين من الدولارات، موفراً مساحة جديدة لسلطة هواة القراءة، وهم قرّاء أحكامهم على ما يقرأون تتأسس على «الهوى»، أي حب أو كراهية ما يقرأون، وهي معايير عاطفية فارغة لا علاقة لها لا بالقراءة ولا بالنقد. في مناخ كهذا هل يستفيد الكاتب من النقد؟ هذا ما يفترض من النقد الذي يمكن أن يقدم ليس فقط للقارئ، بل وللكاتب أيضا، إضاءات مهمة عما قد لا يكون الكاتب واعياً له أثناء الكتابة. وظني أن أغلب ما يكتب اليوم هو نص مبتسر، لأن النقد يحتاج لأكثر من قراءة وعلى مستويات تتعدى النص نفسه لمدلولاته الثقافية والفكرية والرمزية. لكن، ومع ذلك فربما بسبب شبكة الإنترنت يمكن للكاتب أن يتأمل من الشذرات الكثيرة التي تمثل المشهد النقدي في حالته (السائلة) الجديدة، بعض الرؤى الصلبة حول نصوصه وآفاق الكتابة.
الناقد وسلطته الزائلة
وفي الأخير يرى القاص والروائي حسام المقدم أن النقاد منهم الذين يرددون النظريات على الدوام بمناسبة وبدون مناسبة، ومنهم من يعرفون النظريات ولا يظهر ذلك في كلامهم بشكل مباشر. هناك الناقد الفنان الذي يرحل مع العمل ويعيش أجواءه تماماً ثم يكتب. هؤلاء هم الذين يمارسون القراءة النقدية التي لا بد أن يحرص كل كاتب على الاستفادة منها واستيعابها. أما عن سلطة الناقد في الوقت الراهن، فلا سلطة تقريبا إلا لنجوم النقاد، وحتى هؤلاء يتم تهميشهم بفعل الجوائز المستحدثة التي ترسخ لأنماط وأشكال وموضات كتابية في بعض الأحيان. وهناك وسائل التواصل الاجتماعي التي أنجبت نجومها بمعزل تام عن النقد والتوجيه، وبالتالي فالحديث عن سلطة لناقد هو شيء غير واقعي.
محمد عبد الرحيم
قل ما شئت فهناك شخصان الناقد و الحاسد ، فالأول يصحح المصار و الثاني يزيد من الإصرار وإذا اجتمعت الإثنتان معا في شخص واحد سقطوا بجوهرهما
غالي احترامي و تقديري و المسك و العنبر
الشاعر الفلسطينية يمنى جوابري