اتسمت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في جولته الخليجية هذا الأسبوع بالتركيز على التطورات التي حققتها عملية «درع الفرات» التي تدعمها حكومته في سوريا خاصة في المعركة على مدينة الباب التي لقيت القوات المدعومة من تركيا فيها مقاومة كبيرة من الجهاديين. وتحولت المعركة في صورة منها لنسخة مصغرة عن الصراع في سوريا التي تتجادله عدة قوى حيث يحاول كل طرف الوصول إلى مدينة الباب قبل الآخر. وقال الرئيس التركي إن بلاده عازمة بعد تحرير الباب بالكامل من سيطرة تنظيم الدولة على التقدم نحو منبج وطرد عناصر قوات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي منها والمضي قدما حتى الرقة، عاصمة ما يطلق عليها «الدولة الإسلامية». ويبدو أن منافسة مستمرة بين الأطراف المشاركة وتكالبا على ما تبقى من أراض تخضع لسيطرة الجهاديين في سوريا وهي المعادلة نفسها التي شوهدت في شمال العراق بين القوات التابعة لحكومة بغداد وتلك التابعة لحكومة إقليم الحكم الذاتي في اربيل الكردية. فقد وسعت اربيل من سيطرتها على المناطق التي تتنازع السيطرة عليها مع بغداد. إلا أن الوضع السوري يبدو أعقد، لأن خطوط النزاع متغيرة دوما وكذا التحالفات. ويزيد النزاع تعقيدا غياب الإستراتيجية الأمريكية الواضحة بعد تعهد الرئيس دونالد ترامب بالتركيز على هزيمة تنظيم «الدولة». وهو هدف يقول البعض، لا يمكن تحقيقه إلا بنشر قوات عسكرية على الأرض.
ومن هنا تحمل عملية الباب وتحريرها أهمية خاصة لتركيا وتداعيات صعبة. فمن ناحية حققت القوات التركية تقدمها في الباب من خلال الدعم الجوي والغطاء الدبلوماسي الروسي. كما وتنهي الباب طموح المقاتلين الأكراد لبناء ممر بين مناطقهم في الشرق والجيوب الكردية في غرب الفرات ما يجعلهم قادرين على ربط منطقة حكمهم التي يطلقون عليها «روج آفا». وتعلق ماريا بيتكوفا في موقع «الجزيرة» الإنكليزية (16/2/2017) أن الباب ستقدم لتركيا الموقع الإستراتيجي المهم في أي عمليات محتملة ضد تنظيم «الدولة» الإسلامية وقوات حماية الشعب الكردية. ويحذرالمحللون في الوقت نفسه من أن خطط تركيا التقدم جنوبا وشرقا باتجاه منبج والرقة تحمل الكثير من التحديات الدبلوماسية والعسكرية. وقالت إن الجيش التركي أعلن أكثر من مرة عن تقدمه إلى مركز مدينة الباب إلا أن عملية تحرير المدينة بالكامل تحتاج إلى أسابيع. ويقول شان كاسابغلو من مركز الاقتصاديات والسياسة الخارجية في اسطنبول إن درع الفرات استطاع تدمير الدفاعات الأمامية لتنظيم «الدولة» لكنه يحتاج إلى أسابيع من أجل تطهيرها. وقال «كلما تقدمت العملية التركية عميقا وواجهت حروب شوارع فستكون المعارك أشد وتواجه دفاعا شرسا من العناصر التابعة لتنظيم الدولة». مضيفا «يحدث هذا دائما، رأيناه في العراق والرمادي فعندما يشعر تنظيم الدولة ان الموجة بدأت تميل ضده يصبح أكثر جنونا ولكنه لا يستطيع وقف العملية». وكانت العملية التركية في سوريا قد بدأت في آب (أغسطس) 2016 عندما دعمت القوات التركية جماعات سورية من الجيش السوري الحر ومقاتلين تركمان ولكنها اضطرت لتعزيز قواتها في سوريا. واليوم هناك آلاف من الجنود الأتراك يقاتلون على الأرض. وبدأت عملية التقدم نحو الباب في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016 حيث تم حصارها بالكامل بداية الشهر الحالي عندما قامت القوات الموالية لنظام بشار الأسد بقطع آخر خط للإمداد متوفر لتنظيم «الدولة». وعليه فقد قاتلت الأطراف المعارضة في الحرب السورية، أي النظام والمعارضة، على جبهة واحدة وضد عدو بدا مشتركا، على الأقل في سياق الحرب السورية. ولم يمنع هذا من حدوث بعض المواجهات بين الطرفين، ولا من تطور النزاع بين الطرفين بعد تحرير الباب. والضامن الحالي لعدم وقوعه هي روسيا التي اتفقت على منع تقدم القوات الموالية لنظام الأسد باتجاه الباب. وفي كانون الثاني (يناير) شن الأتراك والروس أول عملية جوية مشتركة بينهما، ورغم مقتل ثلاثة جنود أتراك نتيجة للغارات الروسية إلا أن التعاون استمر خاصة أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لا يشارك في العمليات على مواقع التنظيم في الباب. ويعلق أسامة الكوشك، المحلل والناشط السوري قائلا «دفع هذا تركيا للتفاهم مع روسيا كشريك محتمل لحماية مصالحه. ففي الوقت الذي قدمت فيه روسيا الدعم الجوي تراجعت أمريكا» عن تقديم الدعم.
استراتيجية روسية
ويرى نوح بونسي، من مجموعة الأزمات الدولية في بروكسل أن الدعم الروسي لتركيا ربما كان جزءا من استراتيجية للبناء على التقدم السياسي والعسكري الذي حققته في أجزاء من سوريا وتخفيف العبء عن قدراتها العسكرية بحيث تكون قادرة على تخفيف القتال في مناطق. ويرى المراقبون أن خروج المقاتلين من حلب الشرقية نهاية العام الماضي ربما كان جزءا من هذه الترتيبات. فقد كان بإمكان تركيا اتخاذ خطوات لمساعدة المقاتلين المحاصرين في المدينة إلا أنها ترددت نظرا للتفاهم مع موسكو بشأن عمليات درع الفرات التي تقوم بها في شمال سوريا. وقد تتكرر الثيمة في حلب والباب وفي مدن أخرى مثل منبج التي دخلتها قوات سوريا الديمقراطية – ذات الغالبية الكردية- في آب (أغسطس) 2016 بغطاء جوي أمريكي مكثف. وأدى دخول قوات حماية الشعب التي تراها أنقرة فرعا إرهابيا لتنظيم «حزب العمال الكردستاني» الذي يشن حربا ضد الدولة التركية منذ الثمانينات من القرن الماضي منبج لغضب المسؤولين الأتراك. وفي الوقت الذي أكد فيه رئيس هيئة أركان الجيش التركي خلوصي أتشار ورئيسه أردوغان على أن العملية المقبلة بعد الباب ستكون منبج وبعدها الرقة إلا أن أنقرة التي تحسب خطواتها وتراقب تصرفات الأكراد وتخشى من هجمات تنظيم «الدولة» على أراضيها لن تشن عملية في منبج بدون توفر الشروط الدبلوماسية المناسبة لها. وقد ترتفع أسهم تركيا داخل التحالف المعادي لتنظيم «الدولة» بعد عملياتها الناجحة في سوريا ضد الجهاديين. ويفهم في هذا السياق تطلع حكومة أنقرة للعمل مع إدارة أردوغان التي جعلت من قتال تنظيم «الدولة» أولوية لها.
الرقة أكبر
ولو صدق أردوغان في تهديداته ووجه قواته نحو الرقة فإن العملية ستكون أكبر ومحفوفة بالتحديات خاصة أن أمريكا تقوم بدعم قوات سوريا الديمقراطية- أي الأكراد- وهم الذين تبنتهم إدارة أوباما وأكد مبعوثه للتحالف الدولي بريت ماغيرك أهمية دعمهم وفضلهم على بقية الفصائل السورية. وأقام الأمريكيون قواعد عسكرية لهم داخل المناطق الكردية وهناك مئات من المستشارين العسكريين الذين يدعمون قوات حماية الشعب. وقبل نهاية ولايتها أرسلت الإدارة الأمريكية عربات مصفحة لهم. وفي هذا السياق نقل موقع «ميدل إيست آي» في لندن تأكيدا من وزارة الخارجية الأمريكية أن الموقف من وحدات حماية الشعب لم يتغير، وذلك في تعليق على تلميحات وزير الدفاع التركي فكري أيسيك للصحافيين في بروكسل»إن كنا نريد أن تكون عملية الرقة ناجحة فيجب أن تقوم بها القوات العربية في المنطقة وليس وحدات حماية الشعب الكردية».
وأضاف»إن الإدارة الأمريكية الجديدة تتبنى مقاربة مختلفة للقضية. إنهم لم يعودوا يصرون أن تكون وحدات حماية الشعب هي من ينفذ العملية بالضرورة ولم يقرروا بعد». إلا أن متحدثا باسم وزارة الخارجية قال إن «موقفهم من هذه القضية لم يتغير» وأشار إلى مؤتمر صحافي يوم الأربعاء للواء روبرت جونز، نائب قائد قوات فرقة العمل المشتركة ـ عملية العزيمة الصلبة، وهو التحالف الذي يحارب ضد تنظيم «الدولة» قال فيها «إن القوة التي تبدو أكثر مقدرة على القيام بتحرير الرقة تبقى هي قوات سوريا الديمقراطية»، في إشارة إلى القوات الكردية العربية التي تشكل وحدات حماية الشعب المكون الرئيسي فيها. ومن هنا فقرار الإدارة الأمريكية المقبل سيتعلق بنقل السلاح مباشرة للأكراد أم لا. وتقول أمريكا إن الأسلحة المقدمة لحد الآن لقوات سوريا الديمقراطية محدودة على العناصر العرب. وحسب بونسي، من مجموعة الأزمات الدولية، فهناك نقاش في داخل الإدارة الأمريكية حول كيفية التعامل مع عملية الرقة. وقال كما نقلت عنه «الجزيرة» الإنكليزية « معظم المسؤولين الأمريكيين الذين تحدثت إليهم واعتقد ان الرأي العام في واشنطن مجمع على استعداد قوات حماية الشعب وحلفائهم الدخول للمدينة في الوقت الحالي» مضيفا «هناك البعض في واشنطن يؤمن بمدخل تدريجي يقوم على التعاون مع تركيا والقوات التي تدعمها للسيطرة على المدينة». وستعمل الولايات المتحدة مع قوات حماية الشعب لكن الأمر متعلق بالتحرك التركي وفيما إن توجهت أنقرة نحو منبج والرقة بعدها فإنها ستتورط عميقا في المسألة السورية. ويشير إلى أن توسع المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش التركي وحلفائه يعني صعوبة في الحفاظ على الأمن فيها وحتى التمسك بها لمدة طويلة. وفي وضع هلامي وخطوط متحركة ومتغيرة فقد تجد القوات التركية نفسها عرضة لهجمات العناصر المشتتة من تنظيم «الدولة».
خيارات
وتواجه الولايات المتحدة اليوم الخيارات الصعبة نفسها التي واجهت إدارة باراك اوباما من قبل. ويرى جون اولترمان من مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن (15/2/2015) إن أحدا لا يمكنه معرفة كيفية هزيمة تنظيم متحرك يتقن حرب العصابات وحتى لو خرج من مدنه المحاصرة فإنه سيصبح أكثر خطرا على سوريا والعراق والغرب من ذي قبل. وفي وضع تقود فيه روسيا النفوذ في سوريا فإدارة أوباما أمامها خيار ترك سوريا للأسد وحلفائه وهذا يعني مزيدا من الهجرة والعنف. أما الخيار الثاني فهو التورط أعمق في سوريا وتوسيع النفوذ الأمريكي عبر إرسال قوات عسكرية إلى هناك. ويقتضي هذا الخيار مخاطر مواجهة مع روسيا لكنه يعطي واشنطن قولا في مستقبل سوريا ويعزز موقع أمريكا في الشرق الأوسط. ويرفض العميد المتقاعد دانيال ديفز هذا الخيار ويقول بمقال نشره موقع «ناشونال إنترست» (17/2/2017) إن إرسال قوات أمريكية إلى سوريا يعتبر في حد ذاته خطرا جوهريا استراتيجيا ولا يمنح الكثير من الفوائد. ويقول إن بعض التصريحات التي اقترحت إمكانية إرسال قوات أمريكية لم تجب عن أسئلة مهمة وتتعلق بما بعد الرقة. فهل ستبقى القوات الأمريكية فيها وإن لم يكن فكيف سترد على عملية سيطرة تقوم بها روسيا وإيران والنظام السوري؟ هل ستنتقم منها؟ وماذا عن الدعم اللوجيستي للقوات الأمريكية في المنطقة والذي لا يتم إلا عبر الجو؟ ويناقش أن أي عملية يصادق عليها العسكريون في البنتاغون يجب أن تحقق الأهداف الإستراتيجية المناطة بها، ولكن إن كانت المخاطر أكثر من المنافع فيجب التخلي عنها. كما أنه لا يوجد مبرر قانوني للقيام بالعملية على دولة ذات سيادة وهذا يعني تعريض الولايات المتحدة لمصاعب قانونية. ويعتقد العميد المتقاعد أن التدخل العسكري الأمريكي المباشر ليس ضروريا لأن تنظيم «الدولة» يتعرض للهزيمة وهو مثل الرجل الميت. وعلى الرئيس تجنب حرب مع عدو قوي لكن لا أهمية استراتيجية لها على صالح البلاد- أمريكا.
إبراهيم درويش