■ ما قاله الناقد سعيد يقطين في مقالته «الأنواع الروائية» ثقافة «القدس العربي» 10/ 8/2016 عن عدم التمييز بين الجنس والنوع في النقد المعاصر، على الرغم من أن العرب القدماء ميزوا بينهما، إذ اعتبروا الجنس أعم من النوع، وأجروا تحت الأنواع تقسيمات فرعية أخرى، مثل الصنف والضرب، وهو يتحدّث عن الرواية بوصفها جنسا عند قسم من الباحثين والنقاد، فيقول أحدهم – والكلام للناقد علوش- الجنس الروائي، بل يذهب أيضا إلى أن الرواية البوليسية، مثلا، جنس روائي أو أدبي، لكن الأمر لا يعدو كون الرواية نوعا من السرد الذي هو اسم للجنس لتضمنه أنواعا سردية متعددة، بعضها اندثر، وبعضها الآخر ما يزال مستمرا، وآخر يتولد كلما توفرت شروط جديدة. أقول: ما قاله سعيد يقطين يمكن ملاحظته في سياقات نقديّة أخرى تتحدث عن المقالة والقصّة والسيرة والمسرحيّة والقصيدة الحديثة فتوصف جميعها بالجنس من دون أن يلجأ الواصف إلى معيار حاكم.
في هذه المناسبة سنقف عند (المقالة) لنرى كيف تعامل النقاد وهم يصفون وجودها النصي؟ بدءًا لا بد من الاعتراف بأنّ المقالة العربيّة ظلت بعيدة عن أعين النقد سنوات ليست بالقليلة على الرغم من وجودها، وانتشارها، وعناية أكثر من مجلة بها مثل: مجلة «الثقافة» التي تأسست في عام 1939، وكان مؤسسها أحمد أمين، ومجلة «الرسالة» التي أسسها أحمد حسن الزيات عام 1953، وكان عمود نشرها المقالة؛ ولهذا غابت النظرة النقديّة الفاحصة لها، والباحث في مقدمات الكتب المقاليّة، والكتب التي اعتنت بها يجد أن روّادها العرب ما كانوا معنيين بتحديد طبيعتها الشكليّة، شأنهم شأن من أبدع في فنون النثر الأخرى: القصّة والرواية والمسرحيّة الخ، لأنّهم يعتقدون – وهم على حق- أنّ المبدع لا يستقصي الطبيعة الأجناسيّة لما يكتب، عادّين تلك المهمّة موكلة بيد النقد الذي ما كان معنيّا بهذه المسألة أيضا.
في كتابات قسم من المقاليين الرواد، وعدد من النقاد يجد الباحث مصطلح (الفن) حاضرًا لتوصيف الشكل الأدبي للمقالة، وهذا ما ظهر عند محمد مندور في كتابه «الأدب وفنونه»، ومحمد يوسف نجم في كتابه «فن المقالة»، وزكي نجيب محمود في كتابه «جنّة العبيط»، وأحمد حسن الزيات في «وحي الرسالة»، ومحمد عوض محمد في كتابه «محاضرات عن فن المقالة الأدبيّة»، الذين نعتوا المقالة بأنّها (فن)، والحق أنّ مصطلح (الفن) هنا عام لا يمكن أن يكون أجناسيّا فارقا بين الأنواع الأدبيّة المعروفة، فهو إطلاق عام يُخصّ به النتاج الشعري والنثري معا، ولا يمكن أن يكون مختصّا بنقد المقالة.
وهناك من الأدباء من نعت المقالة بـ(النوع)، وهم يريدون بالنوع ـ هنا- نوعا من التأليف كما أكّد علي جواد الطاهر في قوله: «ومن المناسب أن نذكر أنّ من الناس من فهم مبكّرا من مصطلح (مقالات) مصطلحا لنوع من تأليف الكتب، وليس لنوع أدبي، فسمي (مقالات) ذلك الكتاب الذي يجمع عدة مقالات تعليمية»، وهو يريد كتب العقاد والمازني وسلامة موسى ومحمد مندور وغيرهم، التي هي في تشكيلها الأوّلي مقالات سبق نشرها في الصحف، وهذا ما بدا واضحا في قول العقاد «إنّ المقالة أنواع وليست نوعا واحدا..»، وهو يريد بالنوع الشكل المختلف للمقالة لا نوعها الأجناسي، وهذا ما كرّره أحمد أمين أيضا في مقالة له.
ممّا سبق يتبيّن لنا كما قال سعيد عدنان «إنّ مفهوم المقالة الأدبية لم يتضح على نحو يجعل من يزاولها يرى أنها نوع أدبي كالقصيدة والخطبة والرسالة، وظل من يكتبها يعنى بالفكرة قبل عنايته بشكلها الأدبي».
هناك من عدّ المقالة (جنسا)، وهو ما ظهر في كتابات بعض النقاد لعلّ من أهمهم، فائق مصطفى الذي رأى أنّ المقالة جنس أدبيّ قائم بذاته، وغنّام محمد خضر، ولعلّ فائق في رأيه السابق كان منحازا إلى المقالة وهو الأستاذ الذي عنى بها تدريساً وتوجيها على مدى السنوات التي قضاها أستاذا لمادة الأدب والنقد الحديث في جامعات: الموصل، والسليمانية، ولمّـا يزل حامل لواء التذكير بها، فكأنه في عمله هذا وارث خطى أستاذه الطاهر الذي عنى بها إبداعا ودرسا.
والمقالة في جهد عدد من النقاد (نوع) أدبي، وهذا ما ظهر واضحا عند النقاد: عزالدين إسماعيل في كتابه «الأدب وفنونه دراسة ونقد»، وعلي جواد الطاهر الذي أشار بدقة إلى توصيف شكل المقالة بقوله في كتابه «مقدمة في النقد الادبي»: لقد تأصّلت المقالة نوعا أدبيّا، وتأثّلت إذ تولاها الإنكليز عموما، والصحافة الأدبيّة لديهم خصوصا، حتى إن المعجمات الفرنسيّة تستهل كلامها على المقالة بقولها إنها (نوع أدبي نثري خاص)، وعبد الجبار داود البصري في كتابه «رواد المقالة الأدبية في الأدب العراقي»، والناقد فاضل ثامر في كتابه «مدارات نقدية».
إنّ (النوع) الذي وضحت صورته في السياق السابق درجة تنظيم لتفرعات (الجنس) الذي هو أعلى درجة من النوع، أي أنّ النوع تابع للجنس، وقديما كان أبو العلاء المعري (449هـ) موفّقاً حين فرّق بدقّة متناهية بين الجنس الذي هو أصل في الأدب، والنوع الذي هو فرع في لمحة إجرائيّة تحيل على فهم معاصر يفتقده بعض الباحثين اليوم حين قال على لسان (الشاحج) في محاورة منطقيّة:»إنّ الشعر جنس، والرجز نوع تحته»، في خطوة نقديّة فرّق فيها بين ما هو نمط أعلى (الجنس)، الذي يشير إلى فكرة محوريّة هي فكرة التشابه، أو التماثل أي مبدأ الثبات الذي يفرضه الإطلاق والتعميم، كما وضّح الناقد عبد العزيز شبيل في كتابه «نظرية الأجناس الأدبية»، وفرع أدنى هو (النوع) الذي يدور حول فكرة الانحراف، أو الاختلاف، أو التنوّع، وهي فكرة توحي بمبدأ التحول والتغيّر المرتبط بمبدأ التعيين، والتخصيص بحسب رأي شبيل نفسه، وتأسيسا على ذلك فإنّ من البداهة أن يكون النثر جنسا والمقالة نوعا ينقسم على شكل ونمط، فالمقالة لا يمكن أن تكون جنسا أدبيّا قائما بذاته؛ لأنّ نظرية الأجناس الأدبيّة تحيل الأدب عامّة على جنسين مهمين: الشعر، ثمّ النثر، والنثر بوصفه جنساً يحال على أنواع منها: المقالة، والرواية، والقصّة، والمسرحية وغيرها. هذه بعض ما يمكن الاستدلال به على وضع المقالة في نظريّة الأجناس الأدبيّة ولمن يريد المزيد ينظر كتابنا المشترك مع لطيفة الحمادي: «المقالة العربيّة تجنيسها، أنواعها، شعريتها».
٭ أكاديمي وناقد من العراق
فاضل عبود التميمي