كتب كثيرة ظهرت مستلهمة الأحداث والتحوّلات التاريخية لمصر، منذ الاحتلالين الفرنسي والإنكليزي، حيث ظهر معها قادة كبار، يعملون ويفكرون ويكتبون، بغية إزالة ما رسّخه المحتل في الأرض الميثولوجية لمصر من مخلفات كولونيالية، أرض الحضارات الأولى، تلك التي بنت وفكرت في الغد والآتي، فظلت ملامح ذلك الماضي الأسطوري محفورة في تراب أرض الكنانة كشاهد تاريخي للعصر، وظل القادة القدامى كمثال لتحدي الوافد الأجنبي ومراسمه الكولونيالية، منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحتى لحظة انطلاق أحداث الثورات الجديدة، تلك التي لمعتْ أثناء التحولات الجديدة عام 2011، لتظل المسيرة سائرة ومتخذة أبعاداً أخرى .
من هنا آثر روائيون مصريون كثيرون أن ينحوا إلى الاستيحاء الجمالي والاستبطان السردي، وإعمال مناطق الخيال والوعي معاً في بناء المعمار الروائي للثورات. وقد أكد ذلك رائد الروائية العربية، نجيب محفوظ، في بعض رواياته الشهيرة، ولا سيما الثلاثية، فمن من خلالها نرى الصورة أجلى في رصد عالم التحولات الثورية لمصر، وآية ذلك تجلى في «زقاق المدق» بتتبعها لرسم صورة المحتل، وما يخلفه في الحياة الاجتماعية العربية، من عاهات ومباذل ومناسك غريبة على أرض المعنى وتراثها، وقيمها الفكرية والإنسانية والاجتماعية والتاريخية، هذا ناهيك عن تجارب روائية مماثلة بعد محفوظ، ظهرت تالياً لتجسد هذا التيار، كرواية صنع الله إبراهيم «بريد بيروت»، حين عمد صنع الله جمالياً وفنياً وتكنيكياً إلى تقنيات الريبورتاج الصحافي، وفن اللصق والقطع، من أجل إضفاء نوع من الصدقية الواقعية، والتعبيرية الفنية، والبداهة الإعلامية على النص الروائي، ذلك الذي تحاشى السرد التنميطي، بعبوره للحكاية إلى الفن المُجسَّد والمرئي، وصولاً إلى قول شيء آخر، مغاير لما هو معهود في الدأب الروائي العربي، والبنى السردية المعلومة في السياق ذاته .
في ظل هذا السياق أتيح لي أن أقرأ بعض الروايات التي تابعت واستوحت واستغورت معالم الثورة المصرية، أو ظلالاً منها، كرواية «يكفي أننا معاً» لعزت القمحاوي، ورواية “مدن السور” لهالة البدري ، ورواية «بياض ساخن» لسهير المصادفة، ورواية «سبع جنات» لمنير مطاوع، وأخيراً رواية «المهرّج» للروائي نعيم صبري، والتي هي ستكون مدار بحثنا في هذا الحيز.
تتمتع رواية «المهرّج» أو النوفيلا، بحس واقعي صرف، ولكنه ليس الواقع العياني، الفوتوغرافي، بل الواقع المسحور، أو المفتون بالرؤى وسلاسة الحياة اليومية، وتدويناتها الآنية عن الحالي والحسّي والمتوقع، أو الحال المهجوس بين الواقع والخيال، بين اليومي والمستقبلي، بين المحلوم والمتحقَّق، أو الذي كان حلماً فصار واقعاً ملموساً وقابلاً للجس وتقليب محتواه الآني، ذلك أن الثورة المحلومة، قد تحققت كواقع لا يدحض، وتجسَّدت بالشغف الثوري الذي كان نتاج الطبقات جميعها، بكل أطيافها وتشكيلاتها المجتمعية، وبكل أهدافها ومراميها، إنها الثورة التي أحدثت تغييراً في الواقع، وخلخلت البنى الثابتة، وحولت الأحلام إلى حقائق مجسدة، منذ بدء الانطلاقة الأولى في الخامس والعشرين من «يناير» مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة، في العاصمة المصرية القاهرة .
يكتب نعيم صبري يومياته أثناء المسار اليومي للثورة، يكتب سيرة الثورة من خلال سيرته، وذلك بتدعيم نصه بالأدلة والبراهين واليوميات والوقائع والإحداثيات التي تقع كل يوم، في عموم مصر كلها، في الإسكندرية والإسماعيلية وبعض المدن الأخرى، لكن القاهرة هي البؤرة المركزية للعمل والمدار الفعلي للشباب الغاضب على الحكم وقواه الآيلة للسقوط، والمُدعّمة بوسائل القمع السلطوي، تجاه شباب غاضب يسعى إلى تجسيد فعل الحرية وإنهاء سطوة الحكم الفاسد .
وفق هذا المدار، تدور تدوينات صاحب رواية «شبرا» اليومية، وشبه السيرة الذاتية، لتلك الأيام الممزوجة بحس القلق والترقب والتوجس، وكذلك المطبوعة بطابع من الفرح الرائي والبهجة المترقِّبة، والسرور المشوب بنوع من حس التمهّل والتروّي والحكمة التي تنتظر مفعول يوميات الثورة، تلك اليوميات التي تأتي من الميديا وأخبارها المتسارعة والمتغيرة كل لحظة، أخبار الصحافة اليومية التي يلجأ الكاتب إلى تمريرها إلى الروائية لتكون البوصلة التي ستقود العمل وتعطيه قوة الرؤيا المستبصرة لواقعها، ووهج الاستبطان الباطني، للحس الداخلي في الإنسان المشارك في الثورة، أو المراقب لها كما يفعل الكاتب هنا، رقابة تنظر وتشارك مواربة، لتسجل ما ترى ويقع من يوميات تفصيلية رافقت الإحداثيات، والمنظر اليومي، وسيرة تلك الأيام في مسار الهبّة البشرية .
لا نستطيع أن نسمي هذا العمل رواية، بل تدوينة، أو تغريدة طويلة، تغريدة تعمد إلى السمة التسجيلية، ونقل الواقعة كهامش يُضاف إلى المتن، فالخبر الصحافي الذي ينقله الروائي نعيم صبري، يظهر في النص كقرينة وبرهان وعامل مساعد للنص، ولكونه عاملاً مساعداً، فهو يظهر في سياق العمل كهامش، يضيء المتن ويمنح طابع الإشراق والبصيرة للعمل، فنصوصه المستلة من مؤرخين وباحثين من أمثال عبد الرحمن الرافعي وسليم حسن وكمال مغيث والمثول أمام كتبهم، مثل «الثورة العرابية والاحتلال الإنكليزي» و»تاريخ الحركة القومية» و»موسوعة مصر القديمة» لم تأت اعتباطاً، إنما لإنارة المغزى العام، والإطار الكلي للنص، مما أضفى المزيد من التوكيد لرؤية العمل الفنية، وأنار كذلك الخبر الصحافي المسلك اليومي لتجليات الثورة ويومياتها الواقعية .
تبلغ التدوينة الروائية، المتسمة بطابع السيرة اليومية لشخص يحيا لحظات وأيام الثورة المصرية، قرابة المئة صفحة، أما المئة الباقية من العمل فتتوزّعها الأخبار التاريخية، والوقائع التسجيلية للصحافة المصرية، أيام ثورة الخامس والعشرين من يناير. من هنا تسميتي للعمل بـ «نوفيلا» أو «تغريدة طويلة» أو «سيرة ذاتية» لشخص يصف سويعات حياته أثناء تلك الأيام .وبذا فالعمل لا يقع في خانة المُتخيَّل، ولا في ثيمات التخييل، بل ينفرد بما هو معيش لغرض التسجيل في المذكرة اليومية، وهو حقاً مذكرات تفصيلية، تتسم بلغة سلسلة ومشرقة، مطبوعة بالرهافة والإضاءة الروحية، لجانب جميل وبرّاق من جوانيّات الكاتب، المُحب للحياة والعائلة والأصدقاء، والوفي لكل ما تهبه الأرض من متع دنيوية، ديونيسية، يكون باخوس مرة ربّانها، وتارة يقود الدفة أوبولو، ليهيم الكاتب بتلك اللحظات العابرة التي توفّرها الحياة له .
يبدأ النص من شقة الراوي، الذي يتحدث بضمير المتكلم، لكي يضفي على تدويناته نسق التشويق وفعل الراهن المستمر، وإضفاء طابع الوضوح الساحر على النص.
إذاً الراوي في شقته بـ «مصر الجديدة» وحين تقوم الثورة يكون في البيت، ليراقب الميدان وحركة المتظاهرين عبر تلفزيون منزله، لم يرِقْ له هذا الفعل، يبدأ ضميره يؤنّبه على كسله وتأخره، وعدم الانخراط والمشاركة مع المتجمهرين الذين يرددون الهتافات، ويرفعون الشعارات في لافتات واضحة ومعبّرة، تستهدف رموز الحكم والتنديد بهم، وبما حل من فساد راح يستشري في مفاصل البلاد كلها، لكن الراوي لم يطلْ به المقام في البيت هكذا، رغم ما يتمسك به من عادات يومية، فينزل ويقرر الذهاب إلى الميدان، بعد أن يأخذ معه زوادة للمتظاهرين، فهم بحاجة إلى الدواء وأشياء أخرى كالطعام وغيره. في الشارع يستقل سيارة أجرة ويذهب إلى الميدان بالرغم من الزحام الشديد، وهناك سيكون بين الناس ليبرئ صفحته ويريح ضميره الذي بات يشغله كثيراً، وهو نزيل البيت يتابع الجموع من خلال الشاشة الصغيرة أو عبر الصحف اليومية .
«بعد زيارة الميدان شعرت براحة البال، كالتلميذ بعد عمل الواجب المدرسي، شعرت أن وجودي في الميدان لن يضيف شيئا، أو هكذا تهيَّأ لي، ماذا سأفعل، أقف مشاهدًا ما يحدث لي من هتافات ومسيرات، لا فائدة. الأفضل أن أجلس مستريحاً في البيت أمام التلفزيون، أتابع الأحداث، من خلال الفضائيات، أنا سعيد جداً بالثورة، وضد نظام حسني مبارك الجاثم على صدر مصر منذ ثلاثين عاماً».
تحتل النص شخصيات قليلة، ولكنها فاعلة وظاهرة تتحرك في عمقه، ولها أمكنتها الواضحة والعيانية، كـ «غاردن سيتي» و»مصر الجديدة» ومنزل ابنة الراوي في زيوريخ بسويسرا، وهم في حمأة المتابعة للثورة يأتيهم خبر من ابنتهم سارة متوّجا بقدومها إلى القاهرة، تُستقبل في المطار هي وزوجها وطفلتها الرضيعة، وكان سبب قدومها هو مواصلة بحثها لرسالة الدكتوراه التي كانت تعدّها في مصر، مكان عملها في «غاردن سيتي» ولكنه بعيد عن بيت أهلها والرضيعة، فتنتقل حينذاك العائلة إلى «غاردن سيتي» كسباً للوقت والراحة والقرب من الرضيعة أيضاً، وهكذا نجد الراوي الذي له طقوسه وعاداته في الشراب والنوم والتفاصيل الصغيرة الأخرى، سيجد نفسه موزّعاً بين مكانين، يرضخ في النهاية للأمر، لتعيش العائلة بين منطقتين هما «مصر الجديدة» و»غاردن سيتي» في القاهرة .
أهم ما يُميّز عمل نعيم صبري «المهرّج» هو الصدق الكبير في الكتابة والوضوح البديع في تسلسل النص، لا توريات لدى كاتب العمل، ولا لف ودوران، فهو يسمي الأشياء بأسمائها، دون حرج من الحداثة وتقنياتها الكتابية، فالزوجة هي نجوى، والابنة هي سارة، وحفيدته هي لارا، وكذلك زوجها، الأمكنة هي هي غير ملتبسة وغائمة، والشخصيات رقيقة وبسيطة وتحمل ملامحها الأُنسيَّة. والأمر الثاني الذي يميز العمل ويجعله مقروءاً دفعة واحدة، هو ربط التفاصيل الشخصية اليومية لعائلة صغيرة، بتفاصيل الثورة، وأظن أن هذا هو ما يجعل من العمل أن يكون نوفيلا متقنة، وذات حبكة أصيلة .
نعيم صبري: «المهرّج»
دار بتانة، القاهرة 2017
208 صفحات.
هاشم شفيق