القوة العسكرية الهائلة والفتاكة التي تملكها أمريكا وتخطط لزيادتها كما ونوعا، مشروع اقتصادي وسياسي ضخم جدا، لصناعة مدارج للصعود، تنزل بها إلى أعماق أراضي الدول والشعوب الضعيفة وحتى متوسطة القوة، منقبة فيها عن خزائنها، التي خص الله جل جلاله تلك الشعوب بها، كما خص بأكثر منها، كثيرا، أمريكا الطامعة. لأنها لا تشبع ولا تكتفي، تظل تبحث عن المزيد، لإدامة فكوكها بالاشتغال في ابتلاع هذا المزيد. لذا، قيامها بتراكم قوتها العسكرية الهائلة كمشروع استثماري في الاقتصاد والسياسة معا، من حيث النهايات والأهداف ذات الربح المالي الوفير وكذا الجيو سياسي بمنطلقات استراتيجية، ليتم لها بها، الفتح والاستيلاء على تلك الخزائن سواء من كان على السطح أو من هو كائن تحتها، بمفاتيح من نار وصواريخ وطائرات متطورة وذات قدرة تدميرية لا حدود لها. وهذا هو جوهر التنافس غير المشروع الأمريكي مع الدول العظمى والكبرى، والذي كلما يبرد ويستكين ويهدأ، تؤجج ناره ديناصورات المال الامبريالي الأمريكي، بأحطاب الطمع، للسيطرة على تلك الدول ومكامنها سالفة الذكر، تحت فرية الصداقة والمشاركة وأحيانا مناطق النفوذ أو إقامة الديمقراطية، لتتشكل بتلك الفريات جمعيها، أستار لإخفاء حقيقة النوايا والأهداف غير المشروعة تحت أي عنوان كان. تواردت في ذهني تلك الأفكار وأنا أسمع وأقرأ الموازنة الأمريكية الخاصة بالدفاع، موازنة برقم فلكي، لو أعطي جزء منها على شكل تبرعات ومساهمات في مناطق الجوع والكوارث في العالم لأنقذ الكثير من الناس من مطرقة الجوع وحتى التخلف. نحن ندرك ان هذا النوع من الافتراضات ما هو إلا تمن طوباوي في عالم اليوم. نعود إلى الموازنة وما أسبابها، أي دوافع إقرار موازنة بهذا الحجم، لا يوجد أي تفسير غير واحد موحد لا يقبل القسمة على اثنين، هو السعي الحثيث لليسطرة على مقدرات العالم ومن ثم نهب خيرات الدول الضعيفة وحتى متوسطة القوة وبالنتيجة اخضاعها للهيمنة الأمريكية وجبروتها واستغلالها البشع، وإلا ما الدواعي لهذا الانفاق؟ أمريكا تريد ازاحة جميع المنافسين لها في الساحة الدولية للانفراد في توجيه بوصلة العالم الوجهة التي تريد وتتوافق مع متطلباتها في تخليق عالم خاضع لها من دون مزاحمة من أي دولة أخرى حتى وان كانت عظمى كروسيا والصين، وهذا ما يفسر لنا بوضوح القلق الروسي والاستياء الصيني، فالدولتان قادرتان على كبح جماح الغول الأمريكي في إطار حدودها الجغرافية والمناطق ذات الصلة والقربية منها والتي تشكل فضاءات مرنة لحركة تلك الدولتين، لكن المشكلة في الصراع على مناطق النفوذ في بقية مناطق العالم أي المعركة هي حول بسط أو الأصح من الناحية الواقعية والموضوعية، هناك مناطق أو دول تختار الصين وروسيا، لتركن وتعتمد على قوتيهما في الحماية من كرات النار الأمريكية، حين تريد الانعتاق والتخلص من أغلال هذا الوحش المالي المدمر باعتماده على سيوف من لهب، تهزها بين حين وآخر كلما رأت أو شكت ان تلك الدولة أو الأخرى تلعب بذيلها وتنوي الانفلات. لكن هذا التطويح برماح الجمر الحارق للزرع والضرع كما كان منها وحدث في غزوها للعراق، وكما كان وقامت به قبل هذا الغزو ولاحقا بعده في مناطق كثيرة من بقاع الكرة الأرضية، هذه الغزوات والتي تعيد العالم إلى عصر الامبراطوريات المنقرضة ولكن أكثر منها دهاء وخداعا، وحداثة في الخطاب الذي تعتمد في تبرير غزوها، لذا تستنجد بروسيا حاليا وربما الصين لاحقا (وهذا لا يعني ان ليس لروسيا مطامع ولكن مطامع عن مطامع… هناك اختلاف كبير جدا جدا…أي هناك مساحة واسعة لترسيخ السيادة والقرار المستقل، مع روسيا في صياغة الاتفاق أو التحالف…لأنها ببساطة أي روسيا وحتى الصين، تحتاج لمثل هذه الاتفاقات أو التحالفات لتحجيم مضار الديناصور المالي الأمريكي وإذا ما كان وصار حقيقة واقعية تفعل فعلها في أرض الواقع أي إذا ما صار عديد تلك الدول كثيرا جدا، وبمشتركات موضوعية ومتفق عليها إجرائيا، سوف يدفع لا محال غول المال الأمريكي إلى الانكفاء أو المهادنة والمساومة، وهذا يفتح أمام الشعوب دروب الانعتاق..)، دول وشعوب داعب مخيلتها جمال وحلاوة السيادة الكاملة والقرار المستقل باستثمار ثرواتها لصالح شعوبها في التنمية والتطور، تستنجد بهما، لإطفاء حرائق أمريكا عندما تقترب من أسوارها، النيران الأمريكية التي تروم حرق رغبات مخيلة الدول والشعوب، قبل ان تتجوهر وتترسخ وتتجذر. وهنا من الواجب ان نعرج على قوة الشعب في الإرادة، إرادة التحرر من البلاء الأمريكي، وهي قوة أكثر أمنا وصلابة إذا كانت حديثة وليست متخلفة، وواعية للمخطط الكوني الأمريكي وغيره. نعود إلى الزيادة الفلكية للموازنة الأمريكية للأغراض العسكرية، لنجري حسابا لمفردات تلك الموازنة كما أوردتها عدة قنوات فضائية ومواقع الكترونية. سوف نعلق على كل مفردة وموجباتها ونتائجها: مجموع الموازنة: 717 مليار دولار لعام 2018-2019. وقبل الخوض في محيط المياه العكرة لتلك الموازنة؛ نلفت انتباه القارئ لهذه السطور المتواضعة، ان هناك شيئين أساسيين في الوضع الأمريكي في الوقت الحاضر وله ما ولده قبل هذا الحاضر أي سيرورة هذا الوضع وموجهاته وكذا المتحكمة في اتجاه حركته سواء بانتخاب المجلسين أو من يُنتخب ليجلس على كرسي الإدارة:
1-ان من يحكم أمريكا فعليا هي الحكومة العميقة، المتكونة من الشركات العملاقة ومؤسسات البحوث الاستراتيجية المرتبطة أصلا بها وبالنتيجة في مؤسسات الإدارة، الخارجية والدفاع والبيت الأبيض ومن الطبيعي في بلد يحكمه رأس المال الضخم، ترتبط بتلك الشركات مؤسسات أخرى تبدو ظاهريا مستقلة وتمتع بالحرية، لكنها وفي حقيقتها ليست كذلك وان كان لها هامش واسع من حرية الرأي والتحليل حتى تبدو على غير حقيقتها، أي عملية خداع للرأي العام. وأيضا الإعلام المسؤول عن صناعة الرأي العام أي السير به، المسار الذي تريد. لذا فان انتخاب ترامب (وان دخل الديمقراطيون في معارك لا تزال مشتعلة لإزاحته) لم يكن صدفة أو ضربة حظ أو أي شيء من هذا القبيل، لقد جيء به بدفع من تلك المؤسسات، لأنه شخصية تتلائم مع طبيعة المرحلة في العالم وفي منطقتنا.
2-تشهد دول الغرب المتقدم، بروز ظاهرة الشعبوية، في أوروبا وأمريكا. في أمريكا ان من يسيطر ويمتلك الشركات العملاقة آنفة الذكر، بدرجة كبيرة جدا أي أغلبية مالكيها من العنصر الانكلو ساكسون، وتحديدا من المؤمنين البروتستانتيين، ومن رحمهم كان صعود المحافظين الجدد، ومنهم ترامب. هؤلاء يؤمنون بتسيد أمريكا على العالم كوعد إلهي أي قيادة العالم سياسيا واقتصاديا، وتكون إسرائيل ركيزة لهذه القيادة. وهذا هو الذي يوضح لنا بالإضافة إلى الأبعاد الامبريالية، التزام أمريكا بأمن إسرائيل وتطورها وتوسعها على حساب العرب وبالتحديد على حساب الحق الفلسطيني في الحياة والوجود.
نعود إلى مفردات الموازنة: 616 مليار دولار لوزارة الدفاع لمضاعفة قوتها العسكرية، كي تكون في نهاية المطاف الغلبة لها في التراكم النوعي والكمي لقدرتها العسكرية بالشكل الذي تسبق به الآخرين بمسافة كبيرة جدا مع تقادم الزمن. هذا الرقم يفوق بكثير موازنة روسيا وهذا هو الذي دفع الأخيرة للقلق وربما الخوف من قادم الزمن. إذا، لا وجود لتهديد استراتيجي لأمريكا من روسيا أو الصين حاليا ومستقبلا، للفارق الهائل في الاعتماد المالي للأغراض العسكرية للدولتين الأخيرتين، فقد بلغت موازنة روسيا للأعوام الثلاثة القادمة 116,6 أما الصين والتي قامت بزيادة موازنتها بنسبة7 في المئة والتي هي في الأصل تشكل 45 في المئة من موازنة أمريكا. وهنا نقول ان هذه الضخامة في الموازنة العسكرية الأمريكية، ليست في هذه الموازنة فقط. الموازنة العسكرية الأمريكية عام 2004 وفي عهد بوش الابن، بلغت 450 مليار ويتضمن ذلك بناء 13 سفينة حربية وحاملة طائرات جديدة. ان أمريكا دولة عظمى وغنية جدا ومتفوقة على جميع الدول العظمى والكبرى بما لا يقاس، نقصد كل واحدة من تلك الدول على انفراد. لذا، ان موازنة بهذا الحجم تثير الكثير من الاسئلة والريبة عن النوايا والأهداف التي ترمي أمريكا بلوغها والعبور إليها عبر هذا المعبر، وهنا نسأل هل هذا الاتجاه في السياسة سليم؟ وهذا ما سوف نخوض به لاحقا في هذه الحروف المتواضعة؟
2-69 مليار دولار عمليات خارجية، وهو مبلغ كبير جدا للعمليات الخارجية أي التي تقوم بها أمريكا ومخابراتها وجيوشها سواء في قواعدها أو في مناطق نفوذها أو تلك التي تنوي وتخطط للاطاحة بانظمتها المستقلة والاتيان بأخرى من صناعتها وطوع بنانها، تُسيرها في أي اتجاه تريد لها ان تسير وتمشي بلا أدنى انحراف عن جادة (الصواب الأمريكي) لتغير العالم رويدا رويدا إلى الشكل السياسي والاقتصادي والثقافي أي تشكيل العالم وشعوبه ودوله على صورتها، لكن بصورة خاوية ديكورية، ضعيفة القوام والركائز أي دول استهلاكية على الشكل الأمريكي من دون قوة أمريكا الصناعية والإنتاجية أي دول بلا مقومات حقيقية يقودها ويعشش فيها الكومبرادور.
3- ا2 مليار لتطوير البرنامج النووي. وهنا الطامة الكبرى واللغز المحير في زدواجية المعايير والكيل بمكايل عدة في معالجة مشاكل العالم في حقل الاستخدام النووي، ففي الوقت الذي تعلن فيه دولة عظمى عن رصد مبلغ بهذه الضخامة ولسنة واحدة فقط لتطوير البرنامج النووي وللأغراض العسكرية حتما لأنه يقع في صلب الموازنة العسكرية، تعاقب دولا وهي تعلن أي تلك الدول جهارا نهارا من ان برنامجها للأغراض السلمية؛ إيران مثلا… وكوريا الشمالية التي امتلكت السلاح النووي لتحمي به سيادتها وحدودها وشعبها من رفسات الثور الأمريكي، بالإضافة إلى العراق الذي تم غزوه واحتلاله بتلك الحجج الباطلة أو التي تم الكشف ميدانيا عن أباطيلها في عملية كذب صارخ.
4-24،1 للتمويل أي لتمويل قواعدها المنتشرة في جميع بقاع الأرض بالإضافة إلى معسكراتها في الداخل. بالإضافة إلى 5 مليار للخطر الروسي و10 للخطر الإيراني والكوري الديمقراطي. لنترك جانبا الخطر الكوري الشمالي على اعتبار ان كوريا على مقربة من أمريكا أو ان صواريخها تصل إلى البر الأمريكي، لكن هل هناك قدرة لإيران على تهديد الأراضي الأمريكية؟ هذا هو الرياء والخداع والكذب بعينه. تشبه إلى حد التطابق فرية توني بلير عندما قال ان العراق قادر على مهاجمة لندن في ظرف45 دقيقة. ان هذه الدوامة الدامية ما هي إلا الضحك على الناس والاستخفاف بعقولها وعلى رؤوس الأشهاد.
في الخلاصة ان هذا التوجه الأمريكي سوف يقود إلى سباق تسلح بشكل أو بآخر وبالذات بالنسبة للصين، على ضوء المشاكل غير المعلنة بوضوح بينهما في فضاءات نفوذيهما، في بحر الصين الجنوبي والشرقي، في الجزر المختلف على تبعيتها بين الصين ودول أخرى، حليفة لإمريكا كاليابان مثلا وغيرها، إضافة إلى تخليق أو إيجاد تكتلات اقتصادية ناجحة حتى هذه اللحظة في كسر الهيمنة الأمريكية على اقتصادات العالم. أما بالنسبة إلى روسيا وفي ظل قيادة بوتين الداهية لها، لا نعتقد انها سوف تنجر كما انجر في حينها، الاتحاد السوفييتي إلى سباق التسلح هذا، وربما واحد من أهداف هذه الموازنة هو دفع روسيا لهذا السباق، بل سوف يكون الأمر معكوسا في حالة عدم اندفاع روسيا لكذا سباق، أي تراكم أمريكا للأسلحة الفتاكة على حساب اقتصادها. على الرغم من نهبها لثروات الشعوب بطرق ملتوية وغاية في الدهاء واستدامة التشغيل لمصانع السلاح بتخليق مناطق الاضطراب في العالم واشعال الحروب. في النهاية لا يمكن للكرة الأرضية بمن فيها من شعوب ودول ان تستقر وتتطور وتعيش بسلام وهي متخذة من قرون الديناصور المالي الأمريكي، مقعدا لها.
كاتب عراقي
مزهر جبر الساعدي
أيها العزيز الساعديّ ؛ متألّق أديبًا في أسود كثيف السواد ؛ وباحثًا في شؤون البيت الأبيض ( الباهت البياض ).وعيد سعيد عليك.مودتي.