الموسيقار الذي يجرد خصومه من ثيابهم

حجم الخط
3

في الأسبوع الماضي توقفت عند كتاب محمد عبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد لمؤلفه الكاتب محمود عوض، وفي الكتاب الذي ما زال بين يدي مراحل كثيرة من حياة الموسيقار ووقفات عند الجانب الإنساني في شخصيته والذي يجهله عدد كبير من محبيه.
إلى جانب الإنساني العميق في تكوين شخصية الموسيقار، الذي اختلط فيه حبه للمال مع عشقه للموسيقى، واختلطت فيه حياته التي عانى في بدايتها الكثير بحياته عندما نال الشهرة، وانعكاس ماضي طفولته على شبابه ومن ثم كهولته، إلى جانب كل هذا كان هناك شق علاقاته الإنسانية التي ربطته بموسيقيي جيله من الكبار، فقد كان الموسيقار متشعب العلاقات جدا، محبا لأصدقائه، وفي الوقت نفسه كان يجد في عزلته إبداعه، لكن عزلة المبدع لا تعني أبدا انقطاعه عن الناس، بل التحكم بما يشبه عملية القط والفأر، فهو يريد الأصدقاء من حوله لأنه أيضا يغتني بهم، لكنه يريد صوت السكون القوي الذي لا تخلقه إلا وحدته مع نفسه ليبدع بمؤلفاته الموسيقية.
عبد الوهاب كما كتب عوض شخص يفكر كثيرا قبل أن يجيب عن سؤال، فهو يخاف دائما فكرة أن يتورط في رأي ما، خصوصا عندما يكون هذا الرأي يخص موسيقيا آخر، لكن الموسيقار الذي لا يتورط كما يقول عوض «يفعل ما هو أسوأ من ذلك، أسوأ وأذكى، إنه يكتفي بأن يجرد خصومه من ثيابهم.. ويتركك تحكم عليهم كما تحكم على اللوحة العارية تماما. إنك في النهاية تكتشف أنه لم يقل شيئا مع أنه في الواقع قال كل شيء». مع عمق الصداقات الكثيرة التي أثرت في حياة عبد الوهاب يرى المؤلف أن علاقته بالشاعر أحمد شوقي كانت الأكثر انعكاسا على شخصيته «إن كثيرا من ملامح عبد الوهاب التي نراها اليوم – ملامح شخصية وفنية- تعود في أصلها إلى نتائج صدام الشخصيات الذي تم بين الاثنين». «إن أحمد شوقي كان يعد عبد الوهاب جزءا من مستقبله هو، ووسيلة لتخليده، وامتدادا لكلماته بالصوت والأنغام» فقد كانت الأحوال في ذلك الزمن ليست كما هي عليه الآن، فلم تكن هناك وسائل التواصل الاجتماعي، كما كان دور الإذاعة بالنسبة للشاعر محدودا، وكذلك الصحف فليس الجميع يقرأها، وليس كل من يقرأها يهتم بالشعر، وهذا ما دفع شوقي ليقول لعبد الوهاب «أرجوك يا محمد ألا تهمل شعري بعد أن أموت.. وتبقى دايما تغني قصايدي». وكان شوقي بدوره مصدرا ملهما لعبد الوهاب، وكان لا ينفك يعطيه الدروس في الحياة درسا بعد الآخر، وقد صادف أن توفي والد الموسيقار وهو في لبنان وقرأ خبر الوفاة في الصحف وهو يستعد لإقامة حفل فقرر أن يلغي حفلاته، وجاءه شوقي مواسيا ثم اصطحبه لزيارة طه حسين الذي كان أيامها في عاليه، حيث جاء عبد الوهاب.. هذه المرة كان الدرس على لسان طه حسين الذي سأله لماذا تلغي حفلاتك؟ هل الغناء للفرح فقط، ألا تغني في حزنك؟ «بدلا أن تعبر عن حزنك بالدموع عبر عنه بالغناء».. وليلتها نظم شوقي وغنى عبد الوهاب «الليل بدموعه جاني.. يا حمام نوح ويايه.. نوح واشرح أشجاني».
محمد عبد الوهاب يتكلم: «في أثناء انهماك سيد درويش في إجراء بروفات أوبريت شهرزاد، قابلني أحد الزملاء الممثلين ـ ولعله الأخ فهمي أمان- وعرض عليّ أن أصحبه لسماع بروفات وألحان الرواية، فذهبت معه وفي نفسي سرور لا يوصف بهذه الفرصة الفريدة، وجلست في صالة المسرح أستمع إلى الألحان، كنت في هذه اللحظة أجلس في خشوع وإنصات كما لو كنت في معبد أصلي فيه صلاة روحية، وكانت الأنغام تصل إلى أذني كأنها أوامر مقدسة لا ترد، وكنت بالجملة قطعة ترمز إلى الأعجاب والتقديس لهذه الموسيقى التي تهدهد النفس. وهنا حدث حادث ربما لا يحدث مثله إلا في دنيا المجاذيب.. ومع ذلك وقع بالضبط كما أرويه، فقد بدأت الفرقة تؤدي بروفة لحن في رواية شهرزاد مطلعه «أنا المصري كريم العنصرين». وجلست أستمع إلى ذلك اللحن ذاهلا عن كل ما حولي.. كما لو كان فيه سر يصل ما بينه وبين إحساسي بشيء يسلب إرادتي، وما أن انتهى اللحن حتى رأيت نفسي أجري بكل ما أملك من قوة. وظللت أجري حتى وصلت إلى ميدان باب الحديد، ثم جلست على أحد الأرصفة ألتقط أنفاسي وأمعن الفكر في السبب الذي دفعني إلى هذا التصرف الغريب. لم يكن ثمة سبب واحد أراه معقولا لتفسير ما فعلت، كل ما استطعت أن أصل إليه هو أنني سمعت لحنا خارقا لم أتعود سماعه، وأنني جريت بكل قوتي كما لو كان شيء مخيف يطاردني».
كان الموسيقار على ثقافة موسيقية واسعة، والفنان الحقيقي هو الذي يثقف نفسه تثقيفا شاملا وليس بآليات عمله وحده وحسب، فالفنان الحقيقي يدرك تماما أن نصف إبداعه مرتبط بكمية الثقافة التي دخلت رأسه واحتلت زواياه. ومع سيد درويش الموسيقار العظيم الذي جرى عبد الوهاب كالمجانين بعد أن استمع إليه كان نصيب عبد الوهاب الفشل في أول عمل مشترك بينهما.. حينها كانت كثير من الأقلام تحاول أن تحلل ظاهرة سقوط الأوبريت.. وبعضهم قال إن العمل نجح لكن «الجمهور هو الذي سقط».. هل يسقط الجمهور؟
لي وقفة في الأيام المقبلة مع هذا السؤال.
موسيقي عراقي

الموسيقار الذي يجرد خصومه من ثيابهم

نصير شمه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ایران:

    جمیل جدا” ما خطه قلمك المبدع كريشة عودك في الموسيقار الخالد محمد عبدالوهاب شاء الله ان يعطيه عمرا”طويلا” زاخرا بالابداع الفني حتى التسعين من عمره حين ما غنى لحنه الخالد من غيرليه والذي عبدالحليم حافظ ترك الدنيا و لم يغنيه..فغناه عبدالوهاب رغم كبر سنه ورغم عزلته للغناء …
    معلا كريم

  2. يقول ابن الجاحظ:

    ” كنت في هذه اللحظة أجلس في خشوع وإنصات كما لو كنت في معبد أصلي فيه صلاة روحية، وكانت الأنغام تصل إلى أذني كأنها أوامر مقدسة لا ترد، وكنت بالجملة قطعة ترمز إلى الأعجاب والتقديس لهذه الموسيقى التي تهدهد النفس. ”
    هذا بالضبط ما أشعر به منذ عقود و أنا أستمع الى ثومة (أم كلثوم) و موحى (محمد عبد الوهاب).
    ” ملؤوا لى درب الهواء بهجة …..كالنورى فى وجنت صبح ندى “

  3. يقول balli_mohamed casa maroc:

    وراء هده السطور اضع كلمة قصيرة لأن الحديث عن الموسيقى في لون واحد من الوانها الكثيرة طويل والمساحة محدودة والغناء الأصيل المعطرباالشعر البعيد عن الحماقة اوالجنون ونحن اد ا قلنا كما قالوا بأنها شفاء لبعض الأمراض النفسية المستعصية اي الثي تحت ظل القواعد الفنية المخصصة لها ومانسمعه اليوم للأسف ريح وليس خروجا عن الموضوع .بين قوسين الموسيقى الصامتة والغنائية لعبت دورا مهما في جل الصور ان لم تكن الكل السينمائية والمسرحية القديمة والحديثة ونقصد المتميزة واركز عليها د ائما .
    فاكلاهما عرف وجوها تفننت فيهما وتركت بصمات في فضاء الثاريخ الفني فاالقارئ المحترم من له قلب حي وعقل سليم متفتح يعرف هده الوجوه جيد ا اكثرمنا نحن .
    مازال عندنا مانقول سواء محمد عبد لوهاب اوغيره ونكرر ماقلناه سابقا بأننا ننتظر من صاحب القلب الكبير التفاتة رحمة وانسانية عالية لحالنا ولقضيتنا المتميزة عن بعض القضايا نعم والمنبر لانحقره له وزنه له مكانته ونحن نكتب بلغة الفن وحده لالغة اخرى غيره

إشترك في قائمتنا البريدية