أردت الكتابة عن هذه الرواية منذ أشهر، منذ أن قرأتها في جلسة واحدة استغرقت ساعتين، في محيط من الوحدة التامّة. تراجعتُ عن الكتابة، وتركتها تمشي معي هذه الفترة كلّها، ذلك أنّ الكتابة عن النصوص تشفي شغفنا بها، وتمنح الناقد شعوراً بالتحرّر منها، تماماً مثلما يتحرّر المبدع حينما يدفع بنصّه إلى المطبعة.
والنقد وإن كان علماً بمناهج وأدوات، لا يكون فاعلاً ما لم يصدر عن الحسّ السليم! نعم، يحتاج الناقد إلى حسّ سليم نقيّ من دوافع الموضة، والمواقف الايديولوجيّة، والصور التسويقيّة عن المجتمعات، فمصدر الثقة التي يمنحها النصّ للناقد، هو تجربة المعاناة الشخصيّة لمن كُتب عنهم، بتعبير كاثرين بيلسي، وذلك مهما كان المدخل القرائيّ للنصوص، وتبقى النصوص التي تستحقّ القراءة، هي تلك التي تنقل الحقائق عن الحقبة التي أنتجتها، وعن العالم ككلّ، وعن الطبيعة الإنسانيّة، وبهذا النقل تعبّر عن المدركات الخاصّة والبصائر الفرديّة لمؤلّفيها.
تأتي قراءتي لرواية «الميكانيكيّ» للكاتب السعودي طاهر الزهراني، مئة وعشر صفحات من القطع المتوسّط، ومن منشورات الدار العربيّة للعلوم عام2014، ضمن هذا الإطار، بعيداً عن محرقة النفط، وهوس الماركات، وفضائح الطغم الحاكمة، ذلك أنّها كتبت بالإعراض عن ذلك كلّه. إنّها محاولة لطرح نماذج بديلة لتلك التي عرفتها الرواية السعوديّة، تكسر نمطيّة الكتابة بصيغة اكزوتيكيّة.
يبدأ ذلك الإعراض بالعنوان «الميكانيكيّ»، الذي يتجاوز أسماء الأحياء القريبة من أيّ من الحرمين، أو روائح البخور، أو أسماء العبيد، أو التناصّات مع المقدّس، التي تقود إلى فكرة أنّ بين يديك رواية من السعوديّة، فنحن، بسبب من التنميط الذي يختصر المجتمع إلى أيقونات دالّة، لم نتعرّف إلى ميكانيكيّ في السعوديّة إلاّ إذا كان وافداً، غير مواطن، ليقوم العمل الأدبيّ بنقلنا إلى جغرافيا بشريّة تضيء ما هو مغيب، وتقدّم من جهة أخرى رؤية جديدة للمعتاد.
ينتمي النصّ إلى ذلك التيّار المستعاد في الكتابة الروائيّة، والذي يتمثّل بما يسمّى (النوفيلاّ)، إنّها رواية صغيرة ومؤثّرة، تطرح قضيّة تبدو بسيطة، لتشفّ عمّا وراءها من قضايا كبرى، إنسانيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة، وينتمي إلى هذا النوع نصوص من مثل «الشيخ والبحر» لهمنغواي، و»حرير» لأليخاندرو باريكو، و»حوض السباحة» ليوكو أوغاوا، و»النقاب الملوّن» لسومرست موم، و»راوية الأفلام» لإيرنان ريبيرا لتيليير، والتي كانت ثيمة فاعلة في نصّ «الميكانيكي».
الحكاية التي يعرضها النصّ تشكّل الحكاية الموازية للفيلم الذي يذهب الميكانيكي من جدّة إلى البحرين كي يحضره، وهي الحكاية التي تحمل الفكرة، إذ تطرح هذه الرحلة شكلاً من أشكال تغييب الحريّات العامّة من خلال الحرمان من السينما، التي تعني غياب مصدر كبير وتاريخيّ من الثقافة، شكّل وجدان كثير من المجتمعات، والمجتمعات المجاورة بخاصّة، والذي يمثّل فعلاً جمعيّاً مؤازراً للبحث عن المعرفة والآخريّة. يسافر الميكانيكي لحضور فيلم الخيال العلميّ الشهير وول- ي، المنتج من قبل استوديوهات بيسكار- دزني، عام 2008.
وويل- ي هو روبوت مُصمم لتنظيف كوكب الأرض الذي سيُهجر ويُغطّى بالنفايات في المستقبل البعيد. يقع وول-ي في حب روبوت آخر إسمها إيفا، فيتبعها إلى الفضاء الخارجيّ، في مغامرة تُغير مصير جنسه والجنس البشري. يُظهر كل من الروبوتين مظاهر من حريّة الإرادة والمشاعر، التي تتطور مع تقدم أحداث الفيلم. حينما يخرج «الميكانيكيّ» من الفيلم يعيش أحداثاً مشابهة مع سارة، التي أشبه ما تكون بإيفا، والتي جاءت من الظهران، حيث تعمل في آرامكو، والشغوفة بالسينما والأدب والفنون، في حين يقيس «الميكانيكيّ» حياته على وول-ي: «لقد كان الدمار الذي يعيش فيه ويلي فاتناً، أن تعيش وحدك في عالم مدمّر، تجمع الخردة بعد أن تشكّلها في قوالب، أمر غريب ومرعب. ربّما كان لقضائي فترة طويلة بين الركام، وفي أماكن التشليح، لأخرج قطعة قديمة أو مفقودة أو نادرة في مواقع ضخمة، كتشليح بريمان، وغيرها من التشاليح التي ترقد شرق المدينة، ربّما كان هذا التقاطع سبباً لقصد مشاهدة هذا الفيلم تحديداً».
يحمل الاسمان، إيفا وسارة دلالة رمزيّة لنساء الأرض، أياً كانت جنسيّتهنّ أو ديانتهنّ، إنّ أيّاً منهنّ هي المرأة التي تقودك إلى ما تشتهي، والمتحرّرة في مجتمع محاصر بالممنوع. لعلّ سارة، النموذج السعوديّ المطروح في النصّ، امرأة متحرّرة بالثقافة، والعلم، والعمل، من غير التخلّص من اللواذ بالعائلة، الذي ينقص من فرديّتها، مّما منحها مصداقيّتها النسقيّة، إنّها نصف متحرّرة. في حين يظهر عادل أو «الميكانيكيّ» وقد تحرّر بالأفلام بعيداً عن أيّة منظومة ثقافيّة خاصّة، بل لعلّه استبدل بالقيم الإنسانيّة (الباء تدخل على المتروك) القيم الدينيّة والقوميّة.
يأتي الانكسار بالمرض، إذ تغيب سارة عند العتبات الأولى لقصّة الحبّ، وينشغل عادل بمرض أمّه، ليلتقيا بطريقة مؤثّرة ومباغتة في مستشفى السرطان، لنكتشف ما فاتنا معرفته من أسباب الغياب، حيث تذوب الفروقات جميعها. وتتلاشى وصمة المهنة أمام الثقافة الرفيعة كما يقول إيغلتون، والتي تشير إلى القراءة والكتابة والفنون، وننكسر نحن أيضاً مع الجمال الذي عليه دائماً أن ينقضي سريعاً، لكنّه ترك لنا هذه المرّة نموذجاً جماليّاً للدراميّ، إنّه رجل في غاية النبل، ونحن أحوج ما نكون لمعرفة أكثر عن الرجال النبيلين، لأنّ النماذج المضادّة أكلت مخيّلتنا.
يعمل النصّ على إضاءة زوايا مجتمعيّة عتّم عليها الإعلام بانشغاله بالمولات والفنادق الفاخرة، والشركات العملاقة القابضة، وخدمة الأماكن المقدّسة: «عندما أذهب لمدرستي لابدّ من أن أقطع تلك المستنقعات القذرة، أن أمشي بمحاذاة البيوت المهجورة التي تسكنها العفاريت ويرتادها السكارى…نافورة جدّة تغري الزائرين، تصرف نظر الناس عن بشاعة الشرق، للنظر إلى زيف الغرب».
«عندما كبرنا تلوّثنا بالوعي، والوعي لعنة كبيرة، لنعرف أنّ شبكة الصرف لم تكن من أجل سواد عيون الرعيّة، ولكن من أجل سواد الإسفلت، لقد عملت الشبكة، لأنّ مياه المجاري تفسد طريق الحرمين، فيكلّف الدولة مبالغ باهظة جدّاً، وهذا يعني بشكل سافر ووقح، أنّ الإسفلت أهمّ من الناس، وأنّ خطر الخراء المنحدر لابدّ من أن يوضع في الحسبان وترصد له ميزانيّة هائلة، ليس من أجل البشر، لكن من أجل الإسفلت».
سيستقبل المتلقّي لهذا النصّ فكرة غياب الحريّات بالطريقة ذاتها التي سيستقبل فيها العلاقة بين رجل وامرأة معزولين عن النسق الثقافيّ، يقعان في الحبّ بسبب من هذه العزلة، إذ يهرب «الميكانيكيّ» من المجارير المفتوحة إلى السينما، حيث النظافة والأناقة والحكايات، وإن كان كلّ حبيب يحبّ امرأته لأنّها مختلفة، كما يدّعي، فـ»الميكانيكيّ» يجدول أسباب الاختلاف، فحبيبته بريئة وعذبة، ومتحرّرة من أوهام النخبة: «أحبّك لأنّك تبكين كثيراً عندما تشاهدين «صاحب الظلّ الطويل» منحازة لجودي أبوت، أحبّك لأنّك تسمعين أم كلثوم الثانية ظهراً…».
لعلّ المضيّ في هذه الصفحات القليلة، سيكشف حنين الرجال للعطاء، وحنين المرأة للعطف الغائب، الذي يمنحه رجل ربّته أمّه المطلّقة والوحيدة، لا أيدي الخادمات الآسيويّات، وهذا نوع من الكتابات التي تقوم على الحسّ الواقعيّ، لا على التخييل، كما يرى إميل زولاّ في ملاحظاته على الكتابة الروائيّة، حينما يمايز بين ألكسندر دوما وأوجين سو وفكتور هوغو وجورج صاند الذين استطاعوا تخيّل شخوص وحبكات وعلاقات عاطفيّة غاية في الإثارة، وبين بلزاك وستندال، اللذين لم تعز إليهما هذه المخيّلة، فأهمّيتهما تتأتّى من رسمهما ملامح الحقبة، لا من إبداع الحكايات.
يمكن مع ذلك قراءة تلك الحكاية البسيطة، إذا ما آمنّا بالطبيعة الرمزيّة للّغة، وبحريّة الرمز ولا نهائيّته، على أنّها صناعة للجميل، والخيّر من مواد قبيحة: فـعلى «الرغم من هذه القذارة الشاسعة، هناك شيء جميل، فالمياه كانت قد تجمّعت مشكّلة بحيرة هائلة، هذه البحيرة كانت محطّة للطيور المهاجرة…مالك الحزين، النوارس، البط، ومرّة رأيت البجع يعوم…».
«كثيرة هي القصص التي نرويها عن المستنقعات والبيوت المهجورة، والطرق المطحلبة الزلقة، يكفي أن تعرفي أنّ بعض المنازل قد يقطع عنه الطريق بسبب مياه المجاري، وما أزال أذكر إحدى النساء التي كانت تطلب منّا الخبز، وكنّا نرمي لها الخبز الأبيض ساخناً شهيّاً نقيّاً في الهواء، يقطع ذلك الوسخ، ليصل بين يديها».
أكاديمية وروائية سورية
شهلا العُجيلي