ان من ينظر إلى الوضع العراقي اليوم لا يجد أمامه غير الألم الممض يعتصر قلبه. فهو يرى حال نخبه أو طبقته السياسية الرثة التي لوث أغلبها الفساد الذي لم يشهد له العالم مثيلا ومآسي جمهوره الذي يطالب بأبسط حقوق العيش الإنساني ولا يجده، بلد يعوم على أكبر بحيرة بترول في العالم، فيه وفرة مائية وأراض زراعية وهرمه السكاني مكون من ثلثين من الشباب القادر على العمل والعطاء، ومع ذلك فالبلد يعيش في ظروف أقسى من ظروف أي بلد افريقي فقير في ظل احتراب أهلي ونهب الثروات وانسداد الأفق أمام أي أمل بالاصلاح.
ان علاقة النخبة بالجمهور وفق منظور علماء الاجتماع والسياسة علاقة شائكة ومعقدة فيها الكثير من عدم الوضوح وعدم التحديد، فمن هي النخب وكيف تحدد وهل هناك آلية علمية لقياسها؟ يشير عالم الاجتماع المصري د.احمد زايد إلى التباس مفهوم النخبة منذ ظهوره بمضامين ايديولوجية. فقد كان عالم الاجتماع الإيطالي باريتو عندما استعار مفهوم النخبة (Elite) من عالم السلع أو التجارة حيث كان المفهوم يستخدم عادة للتمييز بين السلع الرديئة والسلع المتميزة ليدخله إلى عالم الدراسات الاجتماعية، كان يريد أن يعاند مفهوم الطبقة الحاكمة كما صاغه كارل ماركـس، فالمجتمع لا يتأسس على سيطرة الحياة المادية وعلاقاتها، كما لا تتأسس القوة فيه على سيطرة الطبقة الاقتصادية الحاكمة التي أطلق عليها ماركس الطبقة البرجوازية.
لذلك فقد شكك منظرو النخبة الأوائل – وجلهم من إيطاليا ـ في إمكانية أن تكون هذه التغيرات قد نتجت عن تغيـر في قوى وعلاقات الإنتاج. وأكدوا في المقابل أنها نتجت عن الدور الذي تقوم به النخبة الحاكمة. إن النخبة هي «عقل المجتمع» وفكره المدبر، هي التي توقفه عن التجديد وتميل به إلى المحافظة، وهي التي تنطلق به إلى التجديد بلا حدود (بحسب تفرقة باريتو بيـن النخبة المحافظة والنخبة المجددة)؛ وهي التي تنظم شؤونه بما تجيده من فـن الإدارة والتنظيم (بحسب صياغة موسكا عن القدرة التنظيمية للطبقة الحاكمة)؛ وهي التي تجمع في يدها خيوط اللعبة السياسية بل تحتكرها احتكاراً (بحسب صياغة روبرتو ميشيلز عن الأوليغاركية).
ان العملية السياسية العراقية اليوم عملية غريبة ومختلفة عن سواها من التجارب السياسية، أو لا تخضع بسهولة للتحليلات النظرية، فجل الطبقة السياسية الممسكة بالحكم اليوم كانت معارضة سابقة للنظام الشمولي قبل 2003، ولكنها لم تستطع ان تقدم شيئا ملموسا للشارع العراقي سوى تاريخها المضمخ بدماء ضحاياها من شهداء النضال على مدى أكثر من ثلاثة عقود، لكنها لم تستطع الإطاحة بالنظام السابق، انما القوات الأمريكية الغازية هي من أطاحت به، لذلك فان الشارع يعرف جيدا ان لا دين في رقبته ازاء الطبقة السياسية الحالية بهذا الخصوص، وان محاولات توزيع الاتهامات أو التخويف بها حيال كل من يخرج أو يرفض أو يتهم العملية السياسية بالتخوين أو ممالئة النظام السابق لم تعد فعالة أو شغالة أمام الشارع. ان رثاثة اداء الطبقة السياسية الحالية جعلت المواطن البسيط يحن إلى زمن أسوأ دكتاتور عرفه تاريخ البلد، فقط لان فيه هامشا خدماتيا حتى وان كان يقدم ملفوفا بذل الدكتاتورية. اليوم يوجد جيل كانت أعمارهم لا تتجاوز العاشرة عندما تمت الاطاحة بالنظام السابق، أصبحوا اليوم في منتصف العشرينيات وهم لب الطبقة الشابة التي تحضر إلى ساحات الاحتجاج، هذه الشريحة لم تعش مآسي النظام السابق ولا تؤمن بتظلمات التاريخ، بل تسعى جاهدة للعيش بصورة كريمة كبقية خلق الله في بلد قادر على تقديم الأفضل لمواطنيه.
اليوم هنالك محاولات لظهور نخبة جديدة، سمتها انها من المثقفين الداعين للتغيير عبر رفض ما طبع الشارع من انقسام مذهبي وعرقي، لكنها ما تزال متخبطة وخائفة، خائفة من بطش الطبقة السياسية الفاسدة والفاشلة التي كشرت عن أنيابها عبر العديد من التصفيات والاعتقالات والتسقيط الذي طال المثقفين، واغتيالات يتم التحقيق فيها منذ سنوات دون الرغبة في الوصول إلى نتائج أو إعلان عن مرتكبيها كما حدث مع عدد من الكتاب والناشطين مثل كامل شياع وهادي المهدي و … القائمة تطول إذا أردنا ان نعد الذين اغتالتهم كواتم الصوت والكل يخشى من الإشارة إلى الفاعل، لذلك نرى اليوم النخبة التي دعت إلى التجمع والتظاهر ضد الفساد لا تجرؤ على اتخاذ خطوة فعالة في الإعلان عن نفسها عبر تنظيم حالها في قيادة فعالة ضاغطة على الطبقة السياسية لتنفيذ مطالب الشارع.
كتب بعض الناشطين على صفحات التواصل الاجتماعي مخاوفهم من تحول ساحة التحرير في بغداد وساحات التظاهر الأخرى في المحافظات إلى نوع من (هايدبارك) يخرج إليه الناس كل نهاية اسبوع للهتاف والسب والشتم ثم تنتهي الحالة وتعود الحياة إلى مجراها المعتاد خلال أيام الاسبوع، لتعاد الكرة مرة أخرى في الاسبوع المقبل، وان من أبسط المعلومات التي باتت من المسلمات اليوم في (فن التظاهر والعصيان) هو أهمية تصاعد الفعل الضاغط على الطبقة السياسية لدفعها للوصول إلى الحلول المطلوبة، وهذا ما لم نشاهده في الحراك العراقي إلى حد الآن.
ان من ينظر إلى الحشود البشرية في ساحة التحرير في بغداد اليوم يرى كتلة بشرية مليونية متماسكة ترفع شعار محاربة الفساد، لكنك ما ان تقترب أكثر من تفاصيل الصورة حتى ترى التشرذم وعدم الاتساق والمطالب الفئوية. فهنالك مجاميع خرجت تطالب بحلول لعمال شركة ما، وهنالك شيخ يطالب بحقه في الخدمة الاجتماعية وأيضا تجد أفرادا يمارسون متعة التظاهر التي لم يجربوها خلال ما مضى من عمرهم فتراهم يلتقطون صور السيلفي وهم فرحون وفخورون بذلك، وكل هذا مهم وجميل ومبشر بخير، لكن هل يجب ان يترك هذا الحراك هكذا على علاته؟ وإذا ترك هل سيقود إلى التغيير المرجو من الاحتجاج؟
لقد كتب بعض أفراد النخبة الجديدة على صفحاتهم على مواقع التواصل أفكارا وطروحات مذهلة مثل (لاننا بلد لا تصلحه ثورة منفعلة سنضيع في الصراخ فقط، نريد ان نسمع كلاما علميا وان نقوم باشراك الدنيا في تخطيط الاصلاحات.. أي ان مجرد شتم المحاصصة والفساد لن يكون مجديا)، كما كتب البعض تحت (هاشتاغ #مظاهرات العراق) عن خطورة الفراغ السياسي «فراغ العقلانية» يجري ملؤه بمقترحات حل تنتمي إلى «الفوضوية السياسية». فهذا يطالب بالغاء مجالس المحافظات، وذاك يطالب بالغاء البرلمان، وغيره يطالب بالغاء الجيش، ومجمل الصورة تجعل المرء يشعر بانه يعيش في حروب اوروبا القرن الثامن عشر، التي ازدهر فيها الجنون السياسي والكفر بالدولة والقناعة بعدم جدوى أي شيء.
اليوم بات واضحا ان الطبقة السياسة تلعب مع الشارع لعبة ما، فرئيس الحكومة يطلق (حزم اصلاح ) تغازل مطالب الشارع ويحيلها إلى البرلمان الذي يرحب بها ويؤطرها بدوره بحزمة اصلاحات، لكن النتيجة التي تعلن، هي استدعاء وزير الكهرباء (سوء خدمات الكهرباء كانت الشرارة التي اطلقت موجة الحراك) للاستجواب في البرلمان لتنتهي الجلسة بعدم إدانته، والقول بانه لا يتحمل تبعات وزارة ورثها مليئة بالمشاكل، وفوق ذلك التأكيد على ان الحلول لن تكون سريعة وانما تحتاج إلى وقت طويل.
وفي تصريح للرئيس العبادي للصحافيين قبل أيام، يقول بانه لا يستطيع إجـــــراء تغــــيرات وهو ملتزم بالشرعية الدستورية، ويضيف: أما إذا خرج الشارع وحصلت على تفويض منه، حينئذ نستطيع إجراء استفتاء جديد على الدستور قد يقود إلى تعديلات تخرج الوضع من عنق الزجاجة الذي انحشر فيه.
ماذا يمكن ان نفهم من تصريحات العبادي الأخيرة؟ هل هي صرخة اســــتغاثة للتخلص مما يكبله من علاقات الفرقاء الســـياسيين تحــــت قيادته؟ هل هي صرخة شبيهة بما أطلقـــه الرئيــــس المصري السيسي قبيل الإطاحة بحكم الإخـــوان في مصر؟ هنا يجب ان يكون للنخــــب الجديدة التي دعت للخروج دور، عبر تحولها إلى نموذج (المثقـــف العضوي) الفاعل الذي لا يكتفي بالتحريض بل يكمل عمله عبر تنظيم هذه الكتلة الجماهيرية الكبيرة وتوجيه مطالبها عبر تأطيرها ببرنامج عمل عقلاني نحو هدف التغيير.
ويجب ان يعلم الشباب الجديد ان البحث عن حل من داخل المنظومة السياسية القائمة بات حلا ميؤسا منه، وفي لحظات الأزمة بدأت ملفات الفرقاء السياسيين تظهر، كل يحاول ان يهدد الآخر بما يملك من وثائق ضد غريمه السياسي وفي هذه الحالة ستغرق البلد في لجة فوضى عارمة لا يعرف أحد كيفة الخلاص منها. ويجب ان نقول ان خلاصة الأمر في (ان النخبة التي تصفق للجمهور وتجعله يتصور انها تتبعه تخلق بلدانا عرجاء في الغالب، أما النخبة التي تصارح الجمهور قدر الامكان وتقسو على رغباته فهي التي يمكن ان تساهم بخلق أمة قوية).
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي
في لقاء مع احدى القنوات أجاب النائب محمود المشهداني عن رأيه بالمتظاهرين فأجاب لو بيدي أبيدهم ابادة جماعية – لأنهم يعرفون أننا حرامية وانتخبونا مرتين
السؤال هو :
أليس ما قاله هذا النائب صحيحا ؟
أليس الشعب العراقي من انتخب الفاسدين مرتين ؟
ومع هذا لعلها صحوة من غفلة – ولعلها شعور بالمسؤولية من جديد
اقتراح : لماذا لا يرجع العراق الى الملكية الدستورية
فتعيين ملك هاشمي يرضي السنة والشيعة – أليس الهاشمي من آل البيت
أرقى دول العالم انسانيا بها نظام ملكي دستوري
كالنرويج والسويد والدانمارك وهولندا وبريطانيا
أطالب المتظاهرين بالمناداة برجوع الملكية الدستورية الجامعة للعراقيين
ولا حول ولا قوة الا بالله
مقالك متميز جداً ليس بأسلوبه المتميز فقط وإنما بمعالجته لوضع العراق المعقد ولتفوقه على الكثير مما كتب فإنك بهذا المقال وضعت الاصبع على الجرح تماماً فهل سنجد تحركا نخبويا من نوع مختلف في الأيام القادمة ام ان ما اصاب السياسيين العراقيين من فساد وإفساد شمل ببركاته تلك النخب التي يعول عليها في ضبط وإدارة الصراع في جميع بلدان العالم وتوجيه بوصلة العمل بما يحقق الأهداف النبيلة والغايات التي يسعى لها الجمهور
الاخ صادق،
انت محق في مقالك ولكن لاتوجد نخبة سياسية في العراق بل مجموعة لصوص أتى بها الاحتلال.
الطريقة الوحيدة لإزالة هذه النخبة المسخ هي القتال ولكن هذا الخيار غير متوفر الان بسبب الديمقراطية والامريكان والايرانيين الذين ينتظرون الحرب الأهلية لتقسيم العراق بالدم.
معالجة شيقة كما عودنا الكاتب الفاضل.
اتفق مع تقديم اثر النخبىة على اثر الطبقة. و مع ان للعراق ظروفه فان هناك قواسم مشتركة له مع البلاد العربية الاخرى التي خاضت التغييرات و الحراكات الكبرى في هذه الايام.
المشكلة ان طول عهود الطغيان السبقة قد اضعفت النخب الاجتماعية كثيرا جدا. و ان ما ندعوه نخبة اليوم هم خريجي مدرسة طغيان العهد السابق سواء الموالين او المتمردين عليه باسلوبه.
ان النخب العربية في معظمها مهاجرة او مرهقة يائسة. و ان النخب المهاجرة صارت غريبة نوعا ما عن محيطها الاصلي.
اننا نحتاج الى وقت طويل لتكوين نخب عميقة حرة والطريق الاسرع هو التركيز على الصحة و التعليم و مكانة المرأة كما حدث في تونس من قبل