النسيان

حجم الخط
1

أرغب في لفت الأنظار إلى موضوع ما يزال الخوض فيه سابقاً لأوانه. لا أتجاوز التنبيه إلى وجاهته وليس في جعبتي كلام كثيرٌ أقوله فيه. تحملني على التطرّق إلى هذا الموضوع عودتي – لسببٍ عارض – إلى كتابٍ يصحّ أن يعتبر افتتاحاً فكرياً لهذا القرن الذي نحن فيه اقترحه، في أواخر حياته الطويلة، فيلسوفٌ كان قد وجد الوقت للنظر النقدي في مدارسَ تصدّرت ساحات الفكر الفلسفي وعلوم الإنسان في القرن العشرين: من الظواهرية والوجودية إلى التأويلية إلى التحليل النفسي إلى الألسنية ونظرية الرواية… وكان قد جهد في مدّ الجسور بينها وفي البحث عمّا يمكن أن يرفد به كلّ منها جهد الفلسفة والعلوم لتكوين صورة متكاملة الأبعاد للإنسان المعاصر كما يظهر في سائر أوضاعه وأفعاله.
الفيلسوف الذي أشير إليه هو الفرنسي بول ريكور وكان لي شرف التتلمذ عليه مدّةً قصيرةً في باريس، في وسط الستينيات من القرن الماضي. وأما الكتاب فواحد من أواخر كتبه الأخيرة نشره سنة 2000 قبل رحيله بخمس سنوات. وكان قد بلغ السابعة والثمانين عند ظهور الكتاب ولكنه وجد وقتاً، بعد ذلك، لنشر بضعة كتبٍ أخرى قد يصحّ اعتبارها دون ذلك الكتاب طموحاً أو أهميّةً بين مؤلّفاته.
جعل ريكور لكتابه ذاك عنواناً استعاد بأمانة مدارات أقسامه «الذاكرة، التاريخ، النسيان». ولأقُلْ، على الفور، أنني لا أزمع عرضه هنا. فتلك مهمةٌ لا تتسع لها هذه السطور المعدودة دائماً ولا مناسبةَ تسوّغ الإقدام عليها ههنا. وإنما أحبّ ان أسترشد الصفحات الأخيرة من الكتاب في صوغ سؤال أو أسئلة تلحّ عليّ – وعلى غيري – في أيام الشقاء الذي نحن فيه.
جعل ريكور النسيان موضوعاً للقسم الأخير من كتابه فحصلنا في موضوع النسيان على صفحاتٍ لا تنسى! وهو، بذلك، قد قرن هذا العنوان الذي يبدو، أول وهلة، محتاجاً إلى ما يثبت وجاهته، بعنوانين تفرض أهمّيتهما نفسها من غير سؤال وتفرض معها أهمّية البحث في الجدل المصيري بينهما وهما الذاكرة والتاريخ. والحال أن ريكور يفلح في إبراز النسيان على أنه شرط للتذكّر ولتكوين النص التاريخي معاً. ولكنه يتتبّع النسيان أيضاً بما هو ممارسة قائمة برأسها، بمعنىً ما، كثيرة الوجوه والتجليات تنتشر من سرّ الذاكرة الفردية إلى علن الذاكرة الاجتماعية أو التاريخية. هذه الممارسة تنشعب إلى فرعين رئيسيين يسمّي المؤلف أوّلهما النسيان بمحو الأثر، وهو الضياع القطعي للذكرى، ويسمّي الثاني النسيان الاحتياطي وهو، بخلاف الأوّل، بمثابة الكنز الذي تستقي منه الذاكرة مادّتها محققةً «معجزة التعرّف الصغيرة» لكلّ وجه أو حدَثٍ أو شيء تفلح في استعادته.
وإذ يسوس النسيان الذاكرة ويفرض نفسه في ممارسة التاريخ أيضاً يدخل في أبعد مناطق الشخصية غوراً أي في تشكيل خريطة المواقف المؤسِّسة وما يداخلها من أهواء وعواطف وانفعالات ويدخل في لعبة الهويّات المتحرّكة التي يتداولها السلوك الشخصي. على المستوى الاجتماعي أيضاً، توجد سياسة للنسيان قد تتشعّب إلى سياساتٍ تتواجه عبر الصدوع والخنادق التي ترسم خريطة المجتمع بمستوياتها المتداخلة أو المتراكبة. على هذا المستوى نفسه، أيضاً، يداخل النسيان هشاشة الهويّات التي تصبح هويّاتٍ لجماعات إذ يستوي بعداً من أبعاد الروايات التي تنشأ الهوية أو تتحوّل بالتواطؤ عليها. هذا النسيان الأخير له سياسة أيضاً، بطبيعة الحال. بل إن سياسته أقربُ إلى المعنى العامّ الذي نعرفه للسياسة.
يستأنس ريكور بمبدأ الكبت الفرويدي لإبراز ما يطلق عليه اسم «الذاكرة المعْتَرَضة». فها هنا يحلّ تكرار الفعل في محلّ تذكّره. وهذا مشروطٌ بنوع النسيان الذي يفرضه الكبت بما هو أبعد أنواع النسيان عن محو الذكرى إذ هو يجعلها غير قابلة للمحو. أقْرَبُ من هذا النوع من النسيان إلى النسيان الاجتماعي ما يراه ريكور مقترناً بـ»الذاكرة المتلاعَب بها» وهي تلك التي ينحو إلى تشكيلها عمل الأيديولوجية بما يقضي به من تخيّر لعناصر تناسبه من الماضي (بل من الحاضر أيضاً) ونسيانٍ لأخرى. أخيراً يصل بنا ريكور إلى «الذاكرة المأمورة» وهي ما يصبح النسيان فيها موضوعاً لقرارات تتّخذها السلطة ذات الصلاحية. هذه الذاكرة الأخيرة تجد تجسيداً بارزاً لها في «العفو العامّ» الذي يُجْعَلُ خاتمةً للنزاع الأهلي. وهي تنشئ بهذا المعنى جسراً يبدأ منه جدل معقّد بين نوعٍ من النسيان يصفه ريكور بـ»المفيد» وبين العفو بأقرب معانيه وأعمّها.
في هذا كله ما يصلح التفكير فيه لتلمّس ما قد يفضي بنا إليه مستقبل الأزمات المريرة التي تعصف بمنطقتنا ومجتمعاتنا. ذاك تلمّسٌ يبتغي ردّنا من التأمّل في حاضر هذه الأزمات وفي ما يبدو قريباً من احتمالاتها إلى ما قد تنطوي عليه من احتمالاتٍ بعيدة. وقد يكون في الأمر طموحٌ سابقٌ لأوانه ودعوى تنبّؤٍ تعوزها الأسانيد المستقاة من الواقع. ولكن يكفي أن يكون لما نتنبّأ به حظّ مقبول من السلامة المنطقية (وإن تكن استدلاليةً لا غير) ليستثيرَ أشدّ القلق.
كيف سيتمثّل أولاد هذا الجيل وأحفاده في أقطارنا التي تشهد ما تشهده من الفظائع ما سيروى لهم وصفاً لها وتعليلاً وما الذي سيُذكر وما الذي سيُنسى؟ وهل ستوجَد روايةٌ يحصل التواطؤ (أي ما يسمّى «الإجماع») عليها أم ستتشعّب الروايات فتَسْتذكر هذه ما نسيَته الأخرياتُ وترسم كلّ رواية حدوداً جديدة لجماعة واقفة عند ثاراتها؟ وهل سينفع «عفوٌ عامّ» ما في هذه البلاد أو في تلك في تعيين ذاكرة مأمورةٍ للمعنيين؟ أم أن تكرار الفعل سيترتّب على رفض تذكّره أو على تعذّره كما في الذاكرة المعترَضة؟ وهل سيُتاح لأجيالٍ تخلفنا أن ترتقي إلى سويّةٍ من الإنسانية تمنح العفو معنىً في ما يتعدّى هول ما يرتكب اليوم وما قد يرتكب غداً من الفظائع؟ أم أن جيلنا قد بلغ مبلغاً من الوحشية يُلْزِم أجيالاً مقبلة بالتفوّق عليه في الوحشية ليكون لها أن تقبل أبوّتَه لها؟
من ذا ينظر اليومَ، بين ظهرانينا، في هذا القبيل من الأسئلة قبل أن يَقْتُل أو يُقتل؟
كاتب لبناني

أحمد بيضون

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نبيل العلي:

    كدت أظنك تتحدث في التقديم عن فيلسوف عصره وما بعده عصره حتى اليوم ابن رشد… لو أخذ العرب (المسلمين) بكتاباته لأراحونا من أهوال السنين العجفاف. لقد عجزت الذاكرة عن استعادة أعمال ما سواه كونه سبق العصر وقدم التفسيرات التي يرفضها صناع “الأديان” الموازية المتناقضة المتحاربة…

إشترك في قائمتنا البريدية