نرى ونقرأ يوميا من يكتب أو يضع على صفحته الإلكترونية، استغراب المواطنين من التناقض الهائل بين إمكانيات الأمة الاقتصادية والإنسانية من جهة، ونقص أو غياب رفاهية المواطن العربي وأمنه، وقلة حيلته في إعانة نفسه من جهة أخرى، وهو ما يؤدي غالبا إلى مطالبة المسؤولين بالدولة بضرورة التحلي بالنزاهة، والابتعاد عن الفساد والعمل الدؤوب لخدمة المواطن. ولكن هذه المناشدات لم تؤد إلا إلى المزيد من إهدار حقوق الناس.
الحقيقة أن الأزمة ليست عند الرئيس أو الوزير أو مدير المؤسسة أو مسؤول معين، ولكنها كامنة في دواخل البنى التركيبية للدولة العربية الحديثة، والتي أتت بعد التخلص من الاستعمار والحصول على الاستقلال.
بنيت الدولة العربية على أسس أربعة، وهي الزبائنية السياسية بشقيها الداخلي والخارجي، الفساد الاقتصادي والنهب الممنهج ، ضعف المؤسسات وتبعيتها وتبني السلطة لمفهوم الشرعية الذاتية.
هذه السمات هي ما يميز الدولة العربية بعد الاستقلال، ويفسر أيضا فشلها، وهو ما أدى إلى الخلط بين السلطة والدولة، وبين الدولة والمُلك الخاص، وتجيير مؤسسات الدولة لمصلحة النظام فقط، وفي معظم الأحيان لأشخاص النظام وعائلاتهم وأقاربهم، أو في أحيان أخرى لقبائلهم وطوائفهم. السلطة ليست في خدمة الدولة ومؤسساتها لتحقيق مصالح المواطن، وإنما المواطن ومؤسسات الدولة لخدمة السلطة وأصحابها وتأمين امتيازاتهم.
الشرعية
في الدولة الحديثة الديمقراطية والتي انتشرت بشكل واسع بفي كل بقاع الأرض باستثناء دول العرب، منطلقة من أوروبا العتيقة إلى آسيا وأمريكا اللاتينية، أو أفريقيا السوداء وشرق أوروبا منذ انتهاء الحقبة السوفيتية، تستمد السلطة شرعيتها من الشعب عن طريق الإنتخابات الحرة، الديمقراطية التعددية المراقبة، بعد حملات متوازنة للتنافس بين الأحزاب تحت رعاية الدستور وقانون الانتخاب وهيئات مستقلة عن السلطة.
في بلاد العرب عامة، ما زال مصدر الشرعية هو السلطة نفسها، وهي التي تشرع لنفسها حق البقاء والاستمرار، متلحفة بشرعيات لا تمت بصلة للدولة الحديثة، بل مرتبطة بالماضي، وخاصة الشرعية الغيبية المرتبطة بالدين، أو الشرعية الوراثية بالمملكات أو جمهوريات التوريث، هذا النظام الذي ساد العالم قبل ميلاد القوميات والدولة الحديثة، كما حلله عالم الإجتماع الفرنسي بيير بورديو بوصفه للاقطاع، حيث يختلط العام بالخاص، والملك بالملكية، ويتعامل الملك مع الناس من منطلق عمال المزرعة. وقد لدت الدولة الحديثة بعد إنهيار النظام الإقطاعي، أو ما يسمى نظام السلالة المالكة،عن طريق خلق مؤسسات للدولة مستقلة عن السلطة، والفصل التام بالسياسة بين الخاص والعام.
نعيش حتى الآن في ظل أنظمة قبلية، لا علاقة لها بالدولة الحديثة إلا شكليا، الجيش في مصر مثلا هو مصدر الشرعية، العائلة المالكة هي مصدر الشرعية في دول كالسعودية والمغرب، القبيلة هي مصدر الشرعية بنظام البعث في سوريا المرتكز على الطائفة العلوية ضد أغلبية الشعب السوري.
قد تجري في هذه الدول انتخابات، ولكن حتى لو كانت حرة ومراقبة، فإنها لا تهدف إلى اختيار السلطة الحاكمة، وإنما إلى اختيار وسائط بين الشعب والسلطة، الشعب بانتخابات كهذه لا يصل إلى السلطة مطلقا ولا ينتخبها، البرلمانات العربية في أحسن الأحوال هي غرف تسجيل، النائب العربي في الدولة العربية، حتى ولو كان منتخبا، يقوم فقط بدور الوسيط بين عائلته أو قبيلته والسلطة، للحصول على بعض المصالح وتحقيق بعض المطالب.
.
الزبائنية السياسية
تبني السلطة الفاقدة للشرعية الحقيقية النابعة من الشعب علاقاتها مع المجتمع على مبدأ الزبائنية السياسية الداخلية، المرتبطة عضويا بالفساد المالي والذي هو السمة المكملة لها، حتى ولو اختلف عنها بالمفهوم.
الزبائنية السياسية، كما درسها أستاذ السياسة الأمريكي جيمس سكوت، والمختص بالدراسات الإجتماعية الفرنسي جان فرانسوا ميدار، هي العلاقة غير المتكافئة في القدرات والمركز بين طرفين، يستعملها الطرف القوي، أي المسؤول السياسي لشراء ذمم الناس مقابل خدمات إجتماعية، قد تكون حقوقا أصلا أو تجاوزا للحقوق. هذا يعني الخلط التام بين المنصب السياسي ومصلحة الشخص الذي يحتل هذا المنصب، فهو يقدم الخدمات الاجتماعية مقابل الولاء وأصوات الناخبين، فالصحة مثلا هي هبة من القائد تعطى بمكرمات، وليس حقا مضمونا بالدستور. فالامتيازات الإقتصادية تعطى للمقربين والنافذين بالمجتمع لضمان ولائهم وفي فترة الانتخابات أصواتهم، وهكذا بكل المجالات، التعليم والتسجيل في الجامعة أو الحصول على عمل وغيره.
ولهذا لا توجد في النظام الزبائني السياسي مؤسسات فاعلة للدولة، فوزارة الصحة أو التعليم أو العمل لا تستطيع تجاوز هذا النظام، ولا تستطيع تقديم أي خدمة للمواطن كحق له رغم ادعاء العكس.
مقابل الزبائنية الداخلية، توجد هناك زبائنية خارجية تنظم العلاقة الفاسدة بين السلطة والقوى الخارجية الحامية لها، مقابل حماية ودعم الطرف الخارجي تؤمن السلطة خدمات مثل تسهيل الإستثمار لهذه الدول أو إتخاذ مواقف سياسية تناسبها، كما نرى حاليا مثلا بين بعض دول الخليج أو مصر وأمريكا وإسرائيل. الطرف القوي بهذه المعادلة هو الطرف الأجنبي، والطرف الضعيف متلقي خدمة الحماية هو السلطة، وذلك بعكس الزبائنية الداخلية.
الفساد الاقتصادي
الفساد المالي والاقتصادي يختلف عن الزبائنية السياسية، ولكنه مرتبط بها بشكل وثيق، وله نوعان: الفساد الأصغر وهو يعني بهذه الحالة الرشوة العينية التي تقدم للمسؤول السياسي لإعطاء موافقته على مشروع أو تمرير تشريع ما، صاحب النفوذ الاقتصادي من رجال الأعمال الأغنياء، عربا أو أجانب، يشتري بهذه الحالة التشريع الذي سيسمح له بعمل ما يشاء من خصخصة المال العام، أو الحصول على إمتيازات تمنع المنافسة الحرة، والتي تؤدي إلى زيادة الأسعار، وتقليل الجودة وسرقة المواطن، والأضرار بالاقتصاد الوطني لصالح مجموعة نافذة.
النوع الثاني: هو الفساد الأكبر المرتبط ببنية الدولة والنظام، منذ نشأة الدولة وحتى خلال مرحلة التحرر الوطني التي سبقته، وهو ذو علاقة باستيلاء مجموعة تمتهن العنف على السلطة، وهذا النوع من السلطة، حوّل بعد سنوات الدولة الرأسمالية التي تبعت الاستقلال، إلى دولة مافيوية، حيث يستولي المقربون والأقرباء على ثروات الأمة بقرار سياسي.
لا يستعمل الفساد فقط في الدول الريعية مثلا للحفاظ على السلم الإجتماعي، وإبعاد شبح الاحتجاجات الجماهيرية وإبعاد العنف ضد السلطة، وإنما على العكس تماما الشكل الأكبر للفساد لا يترعرع إلا في إطار العنف، القائمون على السلطة وهم في معظم الدول العربية من العسكر، يقومون بايقاد العنف المفرط، حتى ترتفع كلفة أي احتجاج ضد التحول الإقتصادي المافيوي، كاتما أي صوت منتقد.
يحلل المؤرخ الجزائري محمد همشاوي الفساد في الجزائر خلال فترة التسعينيات والحرب على الإرهاب، وكيف توازى ذلك مع خصخصة الإقتصاد لصالح رجال الأعمال والعسكر، الشيء نفسه نجده في مصر وخلال الفترة نفسها وتحت الغطاء ذاته زمن حسني مبارك. حيث الحزب الواحد في مثل هذه الدول ليس إلاّ غطاء شكليا لنفوذ للطغمة العسكرية الحاكمة.
أما ظاهرة إستعمال العنف لتمرير الفساد واستيلاء أشخاص مقربين على إقتصاد البلد، فهي ظاهرة عالمية أيضا، رأيناها في التشيلي زمن بينوشيه، أو روسيا يلتسين وبعده بوتين.
في الفساد الأكبر السياسة هي من تعطي وتأخذ وليس التطور الطبيعي للحركة الإقتصادية. فيما العنف هو وسيلة مثل هذه الأنظمة لتحقيق الأرباح، والاستيلاء على المقدرات دون معارضة، تحت شعار «الحرب على الإرهاب» الإسلامي في الدول الإسلامية، أو الشيوعية في التشيلي، أو الفاشية في روسيا. وأسماء مثل عبد المؤمن خليفة وأحمد عز ورامي مخلوف، هي فقط الشجرة التي نراها وتحجب غابة الفساد.
لا تستطيع مثل هذه الأنظمة، حتى في الدول الغنية، السير نحو انفتاح اقتصادي، كما حدث في كوريا الجنوبية أو سنغافورة، بسبب أنها وضعت نفسها داخل قفص فولاذي منذ البدء، فالانفتاح على المجتمع المدني، يعني زوالها ومحاكمتها بعد حين، إلا أن خيارها الآخر بالانغلاق والتقوقع يفتح الباب أمام الانقلابات داخل الطغمة العسكرية نفسها، وهذا ما يجعلها على الدوام بين نارين. السمة الأخيرة للدولة العربية هي سمة جامعة، تفسر ما سبق ذكره. هزال النظام المؤسساتي العربي هو سبب ونتيجة لغياب الدولة، بعد سيطرة الطغم الحاكمة أو الأحزاب عليها وتجييرها لمصالحهم الخاصة. مفهوم الدولة حسب النظرية المؤسسة لها، للفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو في كتابه «روح القوانين» عام 1748 هي حماية المواطن من الانفراد بالسلطة، والابتعاد عن العنف الطبيعي الذي كان سائدا بمفهوم «الكل ضد الكل» إلى تقنين العلاقات داخل المجتمع لصالح الجميع. لذلك وضع مونيتسكيو مبدأ دولة المؤسسات والفصل التام بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.
وهنا نرى أن المشكلة العربية هي في غياب الفصل بين السلطات، فالتشريع والقضاء وكل مظاهر الدولة هي تحت تصرف السلطة التنفيذية، كذلك يجري تجيير وسائل الدولة والمجتمع مثل الصحافة والدبلوماسية والجيش والبوليس والمحاكم لتنفيذ رغباتها. وفيما القانون في الدولة الديمقراطية المؤسساتية يعاقب الفاسد، فإن القانون نفسه في الدولة الديكتاتورية يحميه. أما ضعف دولة المؤسسات، فهو يؤدي أيضا إلى توغل الأحزاب وسيطرتهم عليها، والخلط بين الدولة والسلطة لصالح الاخيرة، وهذا ما نراه مع الزعماء الأقوياء الذين ينقلون مؤسسة ومركز السلطة معهم عندما يغيرون منصبهم، وهذا ما حدث في روسيا عبر لعبة الكراسي الموسيقية بين بوتين ومدفيدف. وخلاصة القول أن تطور وتوسع الطبقة الوسطى بالمجتمعات العربية وانفتاحها على العالم، لا يتناسب مع تقوقع الأنظمة وتكلسها وتمترسها في أقبية السلطة، خصوصا مع ازدياد رفض الشعوب للفساد والتغييب بكل القارات، كما رأينا حديثا في انتخابات المكسيك. فالانفتاح على المجتمع المدني، هو بنظري أنجع الوسائل لإبعاد خطر العنف والدمار الذي نراه يعم وينتشر في العديد من الدول العربية، وهو أيضا وسيلتنا لبناء السلم الإجتماعي، والبدء بعملية ترميم المهدم وبناء مستقبل الأمة.
كاتب أردني
د. نزار بدران
شرح موفق . تحيه للدكتور نزار بدران
*للأسف معظم الدول العربية
(منكوبة) بشكل أو بآخر ..؟؟
*الحل؛ بسيط ولكن تطبيقه أصبح
من المستحيلات ف العالم العربي
*(الديموقراطية) والتداول السلمي
للسلطة..
سلام
تحليل راقي وملخص