■ حزنت كغيري لخسارة منتخب الجزائر، وليس مرد ذلك إلى الحماسة والتضامن العربي وحدهما وإنما لإدراكي العميق أو حدسي بأن ذلك سيشكل في أيامٍ مقبلة (قد تطول…) النقطة البيضاء اليتيـــمة والتمـــثــيل المشرف الوحيد؛ وليت الأحزان والخسائر توقفت عنــــد هذا الحـــد، فقد أكمل عليها إعلان تأجيل المؤتمر العالمي للكشف عن جهاز علاج كل شــــيء بالكفتة، الأمر الذي أصابني باكتئاب عميق وألقى بي في هوة إحـــباطٍ بلا قرار، حتى قلت لنفسي: ليت شعري (على عادة فصحاء العرب في العصور الغابرة التي لم نبرحها من حيث المضمون في حقيقة الأمر) ألن نفحم الغرب أبداً؟ ألن نبرهن له على تفوقنا عليه بشيءٍ معجزٍ بقدر ما هو تافه كالكفتة؟ إلا أنني سرعان ما واسيت نفسي وطمأنني الآخرون الغيورون على أوطاننا بألا أجزع، فموعدنا بعد ستة أشهــــر، وليس هذا بالكثير على بلادٍ أضاعت قروناً وأوطاناً ومازالت بعد ثــوراتٍ محبطة تلعب في الوقت الضائع. غير أن المشكلة الحقيقية أن تلك الضربتين أضعفتا مقاومتي وتركتاني فريسةً سهلة للممثلة الشابة الحلوة يسرا الخالية من أي تجاعيد، والتي قاومت الزمن والتغيير كقادة أنظمتنا لتخرج علينا بـ»حزرتُنا» و»خرسيس أدب سيس» بما يوشك أن يميتني غيظاً!
أجل، إن خسارة الجزائر يتمتني وتركتني أواجه إعلام الريادة وحيداً أعزل، بمقدرته الفذة والرائدة بحق على رفع الضغط والإصابة بالجلطات والذبحات والسكتات الدماغية، خاصةً أنه يزخر بمجموعة مذهلة من المذيعين «الأمنجية» الذين يذيعون تسجيلات الأمن للمواطنين باعتبارها خبطات صحافية، والخبراء «تحت الطلب»الذين يقومون بدورٍ مدهش، مسرحي في تقديم تصورٍ استراتيجي يتفق ورؤية ومصلحة النظام.
أدرك أنها ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن تردي الإعلام في بلداننا وتحديداً في مصر (البلد الذي جئت منه وأنتمي إليه وأتابعه عن كثــب أكثر من غيره)، وأسارع فأقول بأنها لن تكون الأخيرة في ما باتت تشكل تنويحة غراب، إلا أن مرد ذلك هو ما أراه دوراً محورياً بقدر ما هو هدام يقوم به ذلك الإعلام متضافراً مع مجموعات من الكتبة جرى العرف على وصفهم بـ»النخب»، فاستثمرا في حالة الإحباط والكفر بالثورة والخوف من المستقبل ومن أي تغييرٍ باتت القطاعات الأوسع من الجماهير تشعر بأنه دائماً إلى الأسوأ.
ليس من أدنى شك في أن الثورة ألقت بصخرةٍ في المياه الآسنة فرجتها بعنف، إلا أنها لم تحسم، لم تحكم لأسبابٍ عديدة، فكانت المحصلة أن خرجنا من مستنقع التاريخ المترهل إلى أوحال التلاسن العبثي بين المنتصرين للثورة ومعاديها، الذين صاروا يشعرون بأن زمنهم قد عاد فهم يريدون الانتقام.. لا أعتقد أنني أظلِمُنا كشعب حين أقول اننا نكره التغيير ونخشى مما لا نعرف، ولم نخبر بصورةٍ تزيد عن شعوبٍ أخرى كثيرة ،ولأننا طاعنون في التاريخ فإن لنا ميراثاً عريقاً وعاداتٍ نتشبث بها، وليس ذلك بالضرورة سيئاً، إلا انه في أحيانٍ كثيرة قد يكون معرقلاً.. إن كل من يهاجم الثورة يلعب على تلك النزعة الأصيلة، خاصةً أن إنفلات الأمن وغياب الخدمات والتردي الاقتصادي مهدت الأرض لذلك فأكملت عليه أجهزة الإعلام بتلك الحكاية الشائقة عن المؤامرة الكونية موظفةٍ في سبيل ذلك كل مقدرتها على التدليس والخلط ولي الحقائق… خلقت فقاعةً كبيرة نعيش فيها، وللدقة، فإن التمهيد الحقيقي تمثل في سنوات التجريف الشنيعة طيلة عهد مبارك الميمون، ولعل ذلك يذكرنا بتوصيف غرامشي النافذ عن روسيا عشية الثورة، حيث كانت الدولة كل شيء قبالة مجتمعٍ وطبقاتٍ شعبية رخوة… فما بالك بالمجتمعات الكسيحة التي لم يتوفر فيها تنظيمٌ ثوريٌ حقيقيٌ واحد!
إن الإعلام يريد إعادة الناس إلى حظيرة المألوف، لكن ذلك يصطدم بمشكلتين كبيرتين: أولاهما أن العالم ببساطة لم يعد مألوفاً كما كان من قبل، فهو لا يقف في محله، بل إن متغيراتٍ جمة تعتمل تحت قشرته، بما يؤذن بميزان قوى جديدٍ. قد أفهم وأتفهم أن يحن الناس إلى ماضٍ به شيٌ من الاستقرار والثبات، أما طريقة تعاطي تلك النخب مع هذه المتغيرات فتتسم في رأيي بقدرٍ غير بسيط من التضارب، فهم من ناحية يرون تراجع، إن لم يكن، تضعضع القوة والنفوذ الأمريكيين وبروز تلك القوى الجديدة التي أخذت تعارض وتبدي تمردها على الهيمنة الأمريكية وتزمجر، ويقر هؤلاء «الخبراء» والمثقفون بتلك التحركات، إلا أنهم حين يتحدثون وينظرون للخروج من مشاكلنا المزمنة والقفز إلى المستقبل تراهم يستعيرون من الماضي، وتحديداً من فترة صعود الناصرية في السنوات الحاسمة من 56 إلى ضربة النكسة، بحربها الباردة وانتصارات حركة التحرر الوطني الموازية لانحسار الاستعمار بشكله القديم التقليدي، فيرى البعض في السيسي ناصراً جديداً، وفي زيارة روسيا كسراً لاحتكار السلاح… ينسون أن السيسي ليس شاباً في بداية العقد الثالث من عمره، ولم يخطط للثورة وينشئ تنظيماً لها، وربما لم يحدث نفسه أبداً بها، وإن فعل فلا بد أن ذلك كان بناءً على تقاريرٍ كانت ترفع له بحكم وظيفته بقرب انفجارها في حال استمرار مبارك على سياساته وتبرم الجمهور، وحينذاك كان يرى مسؤوليته وواجبه في إحباطها والتصدي لها.
عبد الناصر لم يرتبط بالبرجوازية ولم يستفد من النظام القائم حينذاك بتركيبته الطبقية وكان يكن له عداوةً أصيلة، وليست تلك حال السيسي الذين يدين للنظام السابق بالترقي لأعلى المناصب بما يحمله من امتيازاتٍ بينها المالية. كما أن روسيا ليست الاتحاد السوفييتي وليست شيوعية إنما تنتهج سياسةً رأسماليةً على يمين أمريكا، وآدم سميث نفسه بنزعةٍ مافياويةٍ متوحشة لا مثيل لها في العالم. أيضاً قد أفهم حنين هؤلاء المثقفين إلى أحلام الستينات وأغاني عبد الحليم حافظ الحماسية الملتهبة، أما إسقاط تصوراتٍ وخيالات مستمدة من ماضٍ وواقعٍ لم يعد لهما وجود ومحاولة التعاطي مع المتغيرات الإقليمية على أساسها فتلك وصفة أكيدة للكارثة!
أما ثاني المشاكل فيكمن في تصديق تلك الأكاذيب من قبل الحالمين من يتامى «أمجاد الستينيات» و»أمجاد يا عرب أمجاد»، بالإضافة للكتبة والأمنجية الذين لا يؤمنون بشيء سوى بالدولة، وتحديداً أجهزة أمنها التي تطعمهم وتسقيهم.. إنهم بذلك يتجاهلون المشكلة الموضوعية من انهيار مستوى المعيشة والبطالة والقمع و»البهدلة» التي أدت إلى الثورة. إن السيسي مهما حسنت نواياه لن يستطيع أن يحقق شيئاً ما لم تتغير السياسات الاقتصادية، وتحديدا الانحياز الاقتصادي بما يستتبعه ذلك من إعادة هيكلة التشكيلة الاجتماعية، فهذه التركيبة الحالية الجائرة المستغلة أثبتت فشلها وأدت لنزول الناس للشارع بالملايين.
النظام وكتبته أيضا أعداء ما يجهلون، لكن ما حدث خلال الثلاث سنوات الماضية أكبر وأخطر من أن يختفي، إذا ما أهملناه وأدرنا له ظهورنــــا ولا نستطيع أن نكنسه تحت السجادة، وغنيٌ عن الذكر أن القمـــع وحده لن يكفي.. لا بد من مكاسب شعبية حقيقية وطويلة الأمد، لا بد أن أعترف بأنني أشعر بالذنب كلما ضربت مثلاً ببوتفليقة إلا أنني لا أجد مفراً من ذلك (وربما كنت أجد شيئاً من المتعة التي أقر بكونها شريرة!) وعليه أقرر بأن تصور أن محاولة ضخ دماء جديدة في النظام بانحيازه الاجتماعي- الاقتصادي نفسه سوف يعيد العجلة إلى الوراء، كتصور أن يعيش بوتفليقة خمسين سنة أخرى يقوم بعد عشرين منها ليلعب مع منتخب الجزائر في كأس عالم 2034… وقبل أن يزايد على الأمنجية سأقولها بنفسي: قادر على كل شيء يحيي العظام وهي رميم!
٭ كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل