شرع عدد من الباحثين الغربيين والعرب مع أوائل التسعينيات من القرن الفائت، بوضع العاصمة المصرية القاهرة تحت الدرس الاجتماعي والميداني، لأسباب تتعلق بمواجهة أو إعادة النظر ببعض الأساطير التي أخذت تنتشر حول المدينة العربية المعاصرة، والمتعلقة بالإرهاب والعشوائيات، أو بحالة الفتور وموت أشكال المقاومة داخل المجال العام، بالإضافة إلى حالة الجمود على المستوى الاجتماعي والديني، وهو ما أثار تشويهات بالغة التعقيد على مستوى فهم الحياة اليومية داخل القاهرة والشرق الأوسط بوجه عام.
وقد نتج عن حصيلة هذه الجهود الجديدة في العمل الميداني داخل أحياء وقرى القاهرة، ولادة مدرسة جديدة في علم الاجتماع الحضري لمدينة القاهرة تحت مسمى «كلية القاهرة للدراسات الحضرية»، التي أخذت على عاتقها عبر عدد من المؤسسات والباحثين الغربيين و العرب (العاملين في الجامعات الغربية) المتخصصين في الأنثربولوجيا والجغرافيا الحضرية (دايان سينجرمان، إريد دينيس، والتر إرمبراست، بول عمار، نزار الصياد وغيرهم) محاولة تجميع عدد من الأبحاث والدراسات العلمية التي باتت تطرح أسئلة جديدة عن المدن والمواطنة وعن هيمنة النخبة والحركات الاجتماعية الحضرية، وعن الجنوسة والجماعات المهمشة والسينما. وقد نتج عن هذه الجهود في تجميع هذه الدراسات والجهود وربطها ببعض عدد من الدراسات والكتب المهمة التي ترجم بعضها للعربية، وهنا نشير مثلاً إلى كتاب «أحلام عولمية: الطبقة والجندر والفضاء العام في القاهرة الكوزموبوليتانية» للباحثة الأنثروبولوجية الهولندية انوك دي كونينغ، الذي جاء في نتائجه ومقارباته وأدواته البحثية الجديدة كامتداد لنتائج الاتجاهات البحثية الجديدة التي أخذت تتولد في القاهرة مع منتصف الستعينيات.
وكمثال عن هذه المقاربات الجديدة في الطرح، نشير إلى مقارنة أنوك دي كوننغ إلى مقاهي الكافيه لاتيه وسلطة سيزر في أحياء القاهرة الراقية، التي باتت برأيها تؤسس لإجراءات وأشكال جديدة لتحديد موقع الفرد المصري داخل النسق الاجتماعي والاقتصادي الجديد، الذي أخذ يتشكل في مصر مع فترة الانفتاح الليبرالي في مرحلتي السادات وحسني مبارك. فقد غدا ارتياد المقاهي العالمية الجديدة من قبل أبناء الطبقة الوسطى العليا في نهاية التسعينيات من القرن العشرين، بمثابة الإعلان عن ولادة جماعة متخيلة جديدة، أو رؤية انقسامية جديدة للمراتب والطبقات في مصر من منظور مطبخي. ففي مقابل عالم «سلطة سيزر» الكوزموبوليتانية/مجتمع الطبقة الوسطى العليا، أخذ يتشكل عالم مهمش وتقليدي جديد بوصفه جزءا من عالم «الفول والطعمية».
كما يمكننا أن نشير في هذا السياق، إلى كتاب آخر جديد على مستوى الطرح لتفاعلات الحياة اليومية داخل مدينة القاهرة، وهو المتعلق بأطروحة الأنثروبولوجية الأمريكية ليسا ون، التي نشرت بالعربية تحت عنوان «سياحة الليل، سياحة النهار: الأوروبيون والخليجيون في مصر». حيث سعت من خلاله الباحثة إلى رفض فكرة الأسطورة القائلة إن الغربي يستيقظ من السادسة صباحاً ليكتشف خبايا الشرق الغامض بنية صادقة بريئة أساسها العلم والمعرفة، بينما يبدأ الخليجيون يومهم من الساعة السادسة مساء بحثاً عن التسلية والجنس والكحول. ورغم معاينة الباحثة لصحة بعض الادعاءات عن العرب عبر مرافقتها لبعض العائلات والفتيات الخليجيات في شوارع القاهرة، مع ذلك ترى أن هذه الثنائية إنما تعود في الأساس إلى بعض التنظيرات التي ربطت بين السياحة والحداثة، ما جعل أدب السياحة منحازاً على نحو كبير بوصفه مقولة غربية على وجه الحصر. ولتبيان هذه المفارقة، ترى الباحثة أن قدوم العديد من الغربيين إلى مصر وذهابهم إلى الإهرامات بدل الشوارع والأحياء اليومية، لا يعود في الأساس إلى ذلك الشغف المعرفي الأوروبي بمصر بوصفها بلداً مهماً في الشرق الأوسط، بل لكونها ذكرت في كتب العهد القديم، ولكون الأهرامات كانت مخازن قمح يوسف التي استخدمت في أيام الوفرة. من جانب آخر، تبين للباحثة أن عدم اهتمام الخليجيين بالأهرامات مثلاً وعدم استيقاظهم من الصباح لزيارتها، لا يعود إلى انشغالهم بملذاتهم الشخصية، بمقدار ما يتعلق الأمر بالمخيال الذي شكلته مصر في ذهنية الخليجيين، خاصة في العقود الأخيرة بدءاً بجمال عبد الناصر، مروراً بروايات نجيب محفوظ وأفلام عادل إمام ونجلاء فتحي، وراقصات مثل دينا وفيفى عبده. ومن هنا فهم يأتون إلى القاهرة سعياً إلى التعرف على هذا المخيال وإشباعه بشكل أفضل، وليس فقط بحثاً عن الجنس، خاصة أن تاريخ مصر بالنسبة للخليجي هو تاريخ فتحها من قبل عمرو بن العاص (وبغض النظر عن صحة الرؤية)، مع ذلك فإن هذه الرؤية التاريخية، بالإضافة إلى الرؤية الجديدة لمصر بدءاً من الستينيات هي من شكّل صورة مصر في ذهنية الخليج، ومن هنا لا يجد أي منفعة أو شغف أو رابط تاريخي أو هوياتي في زيارة مناطق مثل الأهرامات.
أساطير القاهرة الكبرى: القنبلة والمقبرة
كما يمكن أن نشير في السياق نفسه إلى الكتاب الأضخم والأهم الذي صدر عن مجموعة «كلية القاهرة للدراسات الحضرية»، الذي بات بمثابة مرجعية لكل من يرغب في الاطلاع على نتائج ومقاربات هذه المدرسة، ونعني هنا كتاب «القاهرة مدينة عالمية: عن السياسة والثقافة والمجال العمراني» الذي أشرف على تحريره كل من بول عمار (متخصص في الإثنوغرافيا الحضرية في جامعة كاليفورنيا) وديان سينجرمان (استاذة العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في القاهرة)، وشارك في كتابته ثلاثة وعشرون خبيراً في الدراسات الحضرية والإنثروبولوجيا والسياسة من مصر وأمريكا وفرنسا وهولندا وقد جاء هذا العمل كنتيجة لتراكم جهود هؤلاء الباحثين التي بدأت في أواسط سنوات التسعينيات من القرن الماضي، عندما أخذت القاهرة – وفقا لمحرري الكتاب – تجذب عدداً كبيراً من الباحثين الميدانيين في تلك الفترة، في ظل الحروب الأهلية في الجزائر، وبيروت والخرطوم وبغداد، ما اضطر عددا من الباحثين والمتخصصيين إلى توجيه أنشطتهم البحثية إلى الساحة المصرية.
ومما يسجله المحرران في مقدمتها الطويلة، حول أسباب ودوافع هذا الكتاب. هو أن مدينة القاهرة غالباً ما نظر إليها في السنوات الماضية (وربما إلى وقتنا هذا) من خلال أسطورة تقول إنها مدينة سريعة الانفجار في أي لحظة، حيث يعمد الكثير من الأكاديميين والصحافيين، والدبلوماسيين العالميين إلى وضع مسيرة حياتهم المهنية على المحك بتبني صورة المدينة الملتهبة: القاهرة كقنبلة سكانية، ومركز للتلوث، ومعمل تفريخ خلاق للأعمال التفجيرية، ونقطة اشتعال لعمال الشغب بين الأقباط والمسلمين، ومركزاً مستهدفاً للجماعات الثورية المتضامنة مثل الحركات المناوئة للولايات المتحدة، والاحتجاجات المناهضة لتسلط وهيمنة قرارات صندوق النقد الدولي والحركات الإسلامية. وقد أبرزت هذه اللوحات التصويرية – بحسب المحررين- البشر، والأماكن العامة، والرأي العام، ومؤسسات الدولة في القاهرة كطيف من خيال مصطلح «أولاد الشارع»، وهو تعبير عنصري مخفف وشائع لدى الصحافيين. وكان تعبير «أولاد الشارع» في القرن التاسع عشر يشير إلى العنصريين، وقطاع الطرق المشردين من الأطفال، والمهربين من بين الفئات الدنيا من العمال في لندن، ونيويورك، وشيكاغو، الذي كان من المتصور أنهم يشكلون مصدر التهديد الأساسي والممارسات الفوضوية، وأوكار الرذيلة، والطبقات الخطرة. أعيد تسليط الضوء لاحقاً على ذلك المصطلح وإبرازه بعد الحقبة الاستعمارية للشرق الأوسط. عندما يعمد الصحافيون والأكاديميون إلى بث الحياة في فكرة «أولاد الشارع» اليوم، الذي بات يحمل معنى أسوأ أنواع رعاع الشوارع البرابرة، الذين يهددون النظم المحلية والعالمية كاتفاقيات كامب ديفيد أو التجارة الحرة أو التعديلات الهيكلية للاقتصاد التي قام بتطبيقها صندوق النقد الدولي. وكما يقول أريك دينيس في دراسته المنشورة في الكتاب والمعنونة بـ «القاهرة: عاصمة لليبرالية الجديدة؟» أن سماسرة التنمية العقاريون والسياسيون دائماً ما يقومون باستغلال وصمة الشارع السلبية أكثر فأكثر، التي تدعي أن الحواضر العربية تعتبر معامل تفريخ لخطر الإرهاب.
ويقوم هذا الخطر، شأنه شأن الخطر الشيوعي الأحمر إبان سنوات الحرب الباردة باضفاء ثوب الشرعية على سلب الحريات، من قمع وغياب مظاهر الانتقال السلمي للسلطة.
ومن المتناقضات الشهيرة التي يسلط الكتاب الضوء عليها كذلك، هي أسطورة أخرى بالية عن القاهرة تصفها بمدينة المقابر، ولذا فهي هامدة لا حراك فيها. وتنطلق هذه المقولة غالباً من حقيقة أن بعض القاهريين يسكنون منطقة المقابر، وهي الحقيقة التي جعلت بعض التنظيمات الاجتماعية العالمية تقوم بوصف القاهرة بطريقة رومانتيكية «كمدينة للموتى». وكما يتم تصوير القاهرة كمشهد صحراوي من المومياءات، وسراديب الأهرام الخفية، ومتحف في الهواء الطلق للآثار، وكمكان لإخضاع النساء لارتداء النقاب، والحريم، وتقاليد الفلاحين الخالدة، أو أرض العبيد الهامدين الذين يحكمهم الطواغيت وكبت التعدد الداخلي والمعارضة. وقد نتج عن هذه الرؤية –بحسب المحررين – قصور واضح في فهم الشرق الأوسط المعاصر. الأمر الذي يسعى الكتاب والقائمون والمشاركون إلى تجاوزه عبر إعادة الاعتبار لأهمية المدينة بوصفها تتألف من أجزاء شديدة الترابط مع أنماط سكن واتصالات وأمكنة عامة متداخلة ومتبادلة التأثير، وليس بوصفها مدينة للموتى وللجنس وقطاع الطرق والحشيشة كما درجت عليها صورة القاهرة في العديد من النكت والأفلام السينمائية.
كاتب سوري
محمد تركي الربيعو