كثيرا ما تدخل جملة «هل سمعت آخر نكتة» في الحديث بين اثنين أو مجموعة من الأصدقاء، وتكون النكتة الملقاة شفويا حينها مدخلا لنكاتٍ أخرى أو بابا مشرعا لحديث يأخذ طابعه من انتماء النكتة لمجال معين، فالنكتة السياسية تجر حديثا سياسيا والنكتة الاجتماعية تجر حديثا اجتماعيا. وهكذا نجد أنه في كل مجالات الحياة التي يعيشها الإنسان تُطرح نكات تختزل بأسلوب مضحك طريف وذكي قضايا معينة ضمن مجتمع معين وفي زمان معين أيضا، أما قائلها ويمكن وصفه بالمبدع فهو العنصر المجهول المخفي الذي لا يعرفه أحد وما من أحد يسأل من هو مبتكر أو قائل أو مبدع هذه النكتة!
والنكتة الشعبية تنتقل وتتداول بسرعة من حيزها الصغير إلى الأكبر فالأكبر، وقد زاد في سرعة انتقالها التطور الذي شهدناه في وسائل التواصل، فنجد أن النكتة أو الطرفة التي تحكى عن الحمصي في سوريا مثلا هي ذاتها عن الصعيدي في مصر ونسمعها أيضا في لبنان أو في المغرب مع تغيّر في اللهجة لتتناسب مع طبيعة المجتمع الذي تحكى فيه. وبعضها نجده يتداول بلغات أجنبية خاصة عندما تكون الطرفة ذات نكهة اجتماعية كالنكات التي تطلق على الحموات والطعام والأعياد والمهن والمهابيل وغير ذلك كثير مع بعض التغييرات الخفيفة عليها بشكل يصعبُ معه أن نعرف أيا منهما النكتة الأصل.
لم تقتصر النكتة أو الطرفة على الحالة الشعبية الشفوية بل دخلت في حيز الآداب منذ عصورٍ قديمة واتخذت لها مكانا ضمن الأجناس الأدبية الأخرى، والأدب العربي مليء بالحكايات والنوادر والطرائف الأدبية على أنواعها. ومن أشهرها كتاب البخلاء للجاحظ، والثعالبي في كتابه لطائف الظرفاء من طبقات الفضلاء، وبينما صور الجاحظ البخلاء في كتابه تصويرا واقعيا فكاهيا، فبين لنا حركاتهم ونظراتهم القلقة أو المطمئنة ونزواتهم النفسية، وفضح أسرارهم وخفايا منازلهم، نجد الثعالبي قد قسمه إلى أبواب متعددة، باب عن ظرائف الملوك وآخر عن الوزراء وغيره عن الفقهاء ثم الفلاسفة وأيضا باب عن الجواري والشعر والمغنين.
ومما رواه الجاحظ عن البخلاء في كتابه أن أحدهم قال لبخيل: لماذا لا تدعوني إلى طعامك، فأجابه البخيل: لأنك جيد المضغ، سريع البلع، إذا أكلت لقمة هيأت لأخرى، فأجابه الرجل: يا أخي أتريد إذا أكلت عندك أن أصلي ركعتين بعد كلّ لقمتين؟
ولا يمكن أن نذكر ما كتب في الطرائف دون أن نذكر طرائف جحا وحماره التي انتشرت شعبيا في الكثير من الثقافات القديمة ونسبت إلى شخصيات عديدة عاشت في عصور ومجتمعات مختلفة.
ومن نوادر جحا العربي وحماره أنه ذات يوم كان جحا راكبا حماره حينما مر بقوم وأراد أحدهم أن يمزح معه فقال له: يا جحا، لقد عرفت حمارك ولم أعرفك، فقال جحا: هذا طبيعي، لأن الحمير تعرف بعضها!
كما أن في ديوان العرب الكثير من الشعر الساخر الطريف لشعراء عرفوا بالحس الفكاهي ومنهم أبو دلامة وأبو نواس، وأورد مثالا عن طرفة لابن الرومي أنه طلب من صديق له أن يهديه ثوبا فوعده الصديق به لكنه أبطأ في تنفيذ وعده فأرسل له يعاتبه:
جعلتُ فداك لم أسألك ذاك الثوب للكفن
سألتكَ لألبسه وروحي بعد في البدن
ومن أهم ما قدمه الأدب في خصوص الطرفة والفكاهة كان فنّ المقامة الأدبية التي جمعت بين الشعر والنثر، وهي تشبه القصة لأنها تتضمن بعض العناصر القصصية ﻣﻦ ﺣﻴﺚ الحوار والمضمون بالإضافة لاحتوائها البلاغة اللفظية والسجع، ومن أشهر من كتب المقامات الهمذاني والحريري. وتطور هذا النوع من الأدب كثيرا عبر قرون متتالية حتى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين فأبدع فيها فارس الشدياق وناصيف اليازجي ومحمد المويلحي وأخيرا حافظ إبراهيم.
مع دخول العالم القرن العشرين حدثت تحولات علمية وفكرية واجتماعية وسياسية كان لها أثر كبير على تطور مادة الأدب عموما ومنه أدب الطرفة التي قفزت بدورها من شكلها القديم الممتلئ بالجزالة اللفظية الممزوجة بالفكاهة إلى لون الشارع وأحداثه وصارت أكثر التصاقا به ونتج عن هذا نوع جديد من الأدب تحت عنوان الكوميديا السوداء الذي استقى مواضيعه مما هو محرم الخوض فيه ليعبر عنه بشكل فكاهي بمعنى أنه اعتمد على ما يؤلم الإنسان في حياته اليومية ومعاناته ليجعله مادة ساخرة تدفعه للضحك. وكان لكتّاب القصة القصيرة والمسرح الحصة الأكبر في الإبداع بهذا اللون الأدبي الذي برع فيه الأديب القاص زكريا تامر وأذكر له «الحصرم»، وأيضا محمد الماغوط وأذكر له «كأسك يا وطن» وغيرهم الكثير من الكتّاب العرب الذين أبدعوا الكتابة في هذا النوع الأدبي في القرن العشرين.
لكنّ أسلوب الأدب في التعبير الفكاهي الساخر عن معاناة الإنسان يجعله يسكن في ركن أعلى من ركن الشارع ووعيه ولهجة العموم مهما حاول التواصل معه، فنحن في حياتنا اليومية لن نجد أحدا يلقي الطرفة بأسلوب أدبي، بل في واقع الأمر نجد أنه كلما هبطت المفردات عن عرشها الأدبي المهذب أمتعت الإنسان وجعلته يضحك أكثر. وهذا ما جعل الطرفة الأدبية تتنحى أمام طرفة الشارع أيا كان موضوعها. والملاحظ أنه مع تطور تكنولوجيا الإعلام والتواصل الاجتماعي في القرن الحادي والعشرين كثرت المنتديات العربية على الانترنت تحت اسم منتديات ثقافية ومنها مواقع اهتمت بالطرفة فانتشر نوع من الكتابة الساخرة بلهجات عامية ومناطقية فيها الكثير من المتعة للقارئ وأغلبها يستقي موضوعه من معاناة الإنسان في حياته اليومية، بالإضافة إلى ظهور نوع من النكات لها نكهة عنصرية وطائفية وعرقية، غير أنه لا يمكن لنا تصنيفها ضمن أشكال الأدب.
ومن تلك أورد طرفة طائفية أن أحد رجال السنة طلب من رجل شيعي أن يؤجره منزلا، وعندما دخل لمعاينة البيت وجد على الجدار صورة تصور أهل بيت الرسول فسأله:
من هؤلاء؟
فرد عليه الرجل الشيعي: هم أهل البيت
فتساءل السني في دهشة:
وانتو قاعدين هنا إيجار!
والسؤال الذي يطـــــرح نفسه هنا هو: هل سيكون هذا النوع من الكتابة الساخرة بالعامية نواة أو بذرة لشكل جديد يقتحم باب الأدب العربي يعتبره المهتمون به تجديدا وقفزة ويسمونه معاصرة أو حداثة.
٭ كاتبة من سوريا
ماسه الموصلي
كان لنا في العراق عدة صحف ومجلات متخصصة بالفكاهة الاجتماعية والأدبية والسياسية النقدية منها مجلة ( حبزبوز) ومجلة ( المتفرج ) ومجلة ( الفكاهة ) ومجلة ( قرندل ) ومجلة ( الناقد ) ومجلة ( كناس الشوارع ) ومجلة ( الضحكات ) ومجلة ( جحا ) ومجلة ( البلبل ) ومجلة ( بهلول ) ومجلة ( خان الذهب ) وجريدة ( الكشكول ) وجريدة ( الأسرار).وأغلب هذه المنشورات صدرت بعد الحرب العالمية الأولى لغاية حرب تشرين 1973.وتعدّ جريدة ( جكه باز/ بمعنى : الثرثارأو المهذار) أول صحيفة فكاهية سياسية عراقية صدرت في عام 1911 في مدينة الموصل ؛ لصاحبها عبد المجيد خيالي.وكانت تصدرباللغتين : العربية والتركية يومـذاك… وهذا المقال مناسبة ودعوة لإنشاء هذا النمط الأدبيّ الإعلاميّ من الصحافة الفكاهية الجديدة وسط دراما الحروب (الدراماتيكية) في المنطقة العربية لعلّها تخفف قليلًا من النيران الصديقة والعدّوة؟ فالموت وعلى الشفاه ضحكة بيضاء ساخرة ؛ خيرمن الموت وفي العين دمعة سوداء مالحة !!! ( جئنا بالموت الأول والموت الثاني من الجناس وببيضاء وسوداء وضحكة ودمعة ؛ وهذا من الطباق والمقابلة ؛ وهما أساس نكتة الفكاهة في الأدب والبلاغة ).