تعيش الثقافة العربية منذ بداية القرن العشرين حالة من التيه والتنازع المعرفي بين محاولات اللحاق بالمنتجات الغربية الفكرية، ومن ثم تبنيها والعمل على تنزيلها ضمن الواقع العربي من جهة، وبين محاولات أخرى لاستعادة الثقافة التاريخية وبناء نهضة موازية على أساس من التقليد ومن ابتعاث الحضارة من جهة أخرى.
دخل الفريقان في معارك مفتوحة، لام فيها فريق التغريب المجموعات التقليدية ووصفها بأنها تريد العيش ضمن عالمٍ موازٍ لا علاقة له بالواقع الذي تسيطر عليه النظرية المعرفية بأدواتها الغربية. إلا أن ذلك الفريق الذي كان يسعى للدخول ضمن نادي الفكر الغربي، سرعان ما وقع في مأزق كبير، سببه تبنيه القطيعة مع تراثه المعرفي الأصولي، واعتباره أن الزمن تجاوز ذلك الميراث، وأنه لم تعد هناك حاجة للرجوع إليه والبناء على ما وضع فيه، بل تمادت بعض الشخصيات «الحداثية» في هذا الاتجاه، حتى كونت تياراً ينظر باستعلاء، وربما باحتقار إلى كل ما هو تراثي.
تجلت المشكلة في حقل تعريف العلوم والمصطلحات الغربية التي كان يجب على أولئك النهضويين إيجاد مقابل عربي لها. وما جعل المشكلة معقدة أكثر هو إصرار ذلك الجيل من المثقفين على عدم الاعتراف بالخصوصية الثقافية التي أوجدت وأنشات المدارس النقدية والفلسفية وحتى السياسية الغربية، باعتبار أن تلك المدارس والرؤى أضحت مكاسب وقيما عالمية صالحة لكل مكان، بغض النظر عن الاختلاف في الثقافة أو اللغة.
لتوضيح ما أقول آخذ كلمة واسعة الانتشار على الساحة الثقافية والفكرية وهي الهرمنيوطيقا، التي تنقل إلى العربية عادة تحت مسمى علم التأويل. والسؤال الذي أطرحه هنا هو عن مدى دقة الترجمة وتعبيرها عن روح الكلمة كما في أصلها الأوروبي، آخذاً في الاعتبار أن كلمة التأويل العربية المبنية على الفعل آل ويؤول تُشرح بأنها ما يوضح إلى ماذا تعود الأشياء في أصلها، وهو ما يجعلها قريبة في معناها من كلمة التفسير. ليس ذلك فقط، بل إن الكلمة قد اكتسبت دلالات فقهية وشرعية، باعتبارها داخلة ضمن القاموس القرآني الذي استخدمها أكثر من مرة وضمن سياقات مختلفة، كتأويل الرؤيا وتأويل الطاعة بمعنى جزاؤها كما في قوله تعالى: «ذلك خير وأحسن تأويلاً». وكالتأويل الذي يأتي بمعنى الحقيقة المتحققة، كما في الآية التي خاطبت الكفار والمشركين: «هل ينظرون إلا تأويله؟» بمعنى هل ينتظر أولئك حتى يأتي يوم القيامة ويصبح الحساب والعقاب حقيقة واقعة ومحققة؟ وقريب من ذلك الآية الأخرى التي تؤكد المعنى ذاته: «وما يعلم تأويله إلا الله» أي الحقيقة الكاملة والتامة لكل شيء.
أما في التراث الفقهي فيتم التفريق بين التفسير والتأويل، على أساس أن الأول هو مجرد ترجمة لظاهر المعنى، في حين يعرّف الثاني بأنه صرف اللفظ أو النص عن معناه الواضح لمعنىً آخر مستبطن بشرط توافر الدليل. بهذا تكون عملية التأويل هي الجزء الأكثر عمقاً وصعوبة من مجرد التفسير، فهو الجزء الذي يحتاج رسوخاً أكثر وربطاً بين علوم اللغة والبيان وعلوم الفقه والسيرة والشريعة، وإلا فإن التمادي في الـتأويل وصرف الألفاظ عن معانيها الظاهرة قد يقود، وقد قاد بالفعل في كثير من الحالات، إلى التحريف، وفي هذا أبواب متفرقة يمكن الرجوع إليها في كتب العقيدة وغيرها، مما ناقش الاختلافات الناشئة عن تأويل الصفات الإلهية مثلاً.
تكمن المفارقة في أنه كما كانت فكرة التأويل عميقة ومتجذرة في التراث اللغوي العربي، بحيث لا يمكن فصلها عنه، فكذلك تبدو الهرمنيوطيقا متجذرة ضمن التراث الغربي. تخبرنا القواميس أن أصل الكلمة يعود باليونانية لفعل يعني التفسير، وأن الكلمة مرتبطة في جذرها بالإله الأسطوري «هرمس» الذي كان، بحسب قدماء اليونان، واسطة بين الآلهة والبشر، والذي كان يعمل بحسب الأسطورة على نقل وشرح الرسائل الإلهية.
لقد ولدت الهيرمونيطيقا كعلم من العلوم اللاهوتية المتأخرة على يد الألماني شليرماخر (1768 -1834) الذي كان يهدف إلى التوفيق بين مكتسبات عصر التنوير الأوروبي وتراث الكتب المقدسة الجامد والمتناقض. تمدد هذا العلم وتوسع على يد دلتاي وهايدغر، وصولاً إلى غادامر الذي أعطى في كتابه الشهير «الحقيقة والمنهج» بعداً آخر للهرمنيوطيقا، متمثلاً في كونها أداة مساعدة ليس لفهم النصوص الدينية، ولا غيرها من النصوص الأدبية فقط، بل أكثر من ذلك أداة مساعدة على الفهم بشكل عام وعلى فهم «الآخر» بشكل خاص.
الهرمنيوطيقا هي تلك العلاقة الناشئة عن التزاوج بين علم اللغة والفلسفة وقد جاءت، كغيرها من المصطلحات الغربية، نتيجة لما مر به العقل الأوروبي من تحولات سياسية واجتماعية ناشئة عن التسلط الكنسي في مرحلة أولى، وما تلاه من مغالاة في رفض الدين ومحاولة فصله عن الدولة في مراحل لاحقة.
تجلت هذه التأثيرات السياسية في التحول الذي مرت به الهرمنيوطيقا من تأكيد قدسية النصوص الدينية عبر تفسيرها، كما قلنا، بما لا يتعارض مع قواعد العلم والمنطق، خلال حقبة الثورة الفرنسية وما قبلها، مروراً بدعوات التحاور مع تلك النصوص وصولاً إلى فتح باب النقد الصريح لها واتهامها بأنها سبب التخلف الحضاري، بمعنى آخر تفريغها من القدسية، وهو الاتجاه الذي شاع بعد ترسّخ الثورة التي تمادت في احتقار كل ما له صلة بالدين.
إن تجاهل العوالق الثقافية المرتبطة بالمصطلحات الأجنبية يقود إلى التعسف في النقل والتطبيق وحتى الترجمة، ومن هنا يأتي رفضنا لترجمة الهرمنيوطيقا على أنها مجرد تأويل، لأن التأويل المقصود هنا ليس التأويل الذي نعرفه ويعرفه كل لغوي أو مفسر عربي، ولكنه التأويل الذي يستند ابتداء إلى نفي القدسية عن المقدس. هو المدرسة النقدية التي تعتبر أن النص، أي نص، قابل للتأويل وإعادة التأويل بحسب اختلاف الحال والزمان، فلا يوجد ما هو ثابت، كما لا يوجد ما يمكن تسميته بالحقائق المطلقة أو غير القابلة للنقاش، فكل الحقائق هي بشكل ما زائفة.
لكل ذلك فإننا يجب ألا نعجب إذا كان أكثر الهرمنيوطيقيين العرب وتحت إدعاء الموضوعية والعلمية لا يجدون حرجاً في مناقشة ما يعتبر عند غالب المسلمين من الأصول، كالمسائل المتعلقة بما إذا كان القرآن الكريم نصاً إلهياً بالأساس ومحفوظاً، وغيرها من الثوابت العقدية والمنهجية، ما جعل عدداً من رموز هذا الاتجاه يواجهون بتهمة الخروج عن الدين لا من قبل التكفيريين أو المتطرفين ولكن من قبل مؤسسات مشهورة بوسطيتها واعتدالها كالأزهر الشريف. في تشبيه بسيط وختامي يمكننا أن نخلص باختصار لأن من ينقل الهرمنيوطيقا على أنها التأويل يبدو في عمله ذاك أشبه بمن يكتفي بترجمة كلمة الديمقراطية على أنها الشورى.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
ما المانع من أن يعرف مفهوم التأويل نفس التطور كما في أروبا ؟