الهروب الكبير

ككل عام، مع حلول ذكرى 23 يوليو/تموز، يتجدد الجدل حولها، حول قائدها ورفاقه، السياق التاريخي والظرف السياسي والدوافع، الملابسات، الإنجازات والإخفاقات، المسارات والمآلات.. الانتصارات الشحيحة المبكرة (التي قد تكون مبهرة) والهزائم الثقيلة اللاحقة، الحصاد المرير، وهو جدلٌ لا ينقطع كما ينبغي لكل حدثٍ كبيرٍ وفاصلٍ في التاريخ يحفل برجالٍ كثر وتفاصيل جمة وصراعاتٍ عديدة مترابطة ومتشعبة؛ بيد أنه للأسف فإن ذلك السجال يخاض أغلبه في مناخٍ صاخبٍ بروح الحمية الدينية والتحزب الطائفي، عوضاً عن العقلانية التي تزعم أنها تتوخى الموضوعية وتلتزم بها، فيصبح أطراف الصراع ملائكةً أو شياطين، بحسب الفريق الذي تنتمي إليه، ما يجعله يؤول في الأغلب الأعم إلى حوار طرشان يتراشق فيه الطرفان بالسباب والتهم التي قد تكال جزافاً في أحيان كثيرة مستقاةً من الأساطير والحكايا المختلقة وأنصاف الحقائق المجتزأة المبتورة بخبثٍ مخلٍ متعمد.
لا بد أن أعترف بأنني سئمت من هذا الجدل بهذه الصورة التي لا تروم إلا إدانة عبد الناصر وشيطنته من جهة، أو تبرئة ساحته وتقديسه من جهةٍ أخرى، كما سئمت من لاعني ثورة يوليو ممجدي الحقبة الملكية، كأن مصر كانت جنة الله على أرضه، أو كأنها كانت قوة عظمى خسفها الضباط، أو أن حركتهم والتفاف الجماهير حولها وحول عبد الناصر تحديداً، جاءت كلها من فراغ، وما من سنةٍ تمر عقب يناير/كانون الثاني 2011 إلا ويزيد هذا السأم، إذ أرى أننا الآن أمام واقعٍ أكثر بؤساً بمراحل من الذي ثار عليه الضباط.
قديماً حين كنت أصغر سناً خضت في الجدل حول شخص عبد الناصر وحقبته، أما الآن عقب يناير وما نعيش في ظله من ثورةٍ مضادة، فإنني، وقد نضجت تجربتي وتحررت تقريباً من كل نوستالجيا عقيمة لا تفيد، فلم يعد يعنيني سوى ما تبقى منه مؤثراً بعمقٍ في واقعنا وفي انكفاء ثورة يناير: نظامه.
أجل، لقد رحل عبد الناصر، وتم الانقلاب على مشروعه التنموي في خطوطه العريضة بشراسةٍ منقطعة النظير من سلفه الذي لم يكتف بذلك بل شن عليه حملة تجريحٍ شرسة كيلت له فيها أبشع التهم، التي طالت شرفه وذمته، لكن نظامه بمركزيته المفرطة ومؤسسة رئاسته كلية الجبروت والسلطة، وعسكرته للحياة السياسية، ومصادرة المجال العام، وسحق الاعتراض والهوس الأمني، كل ذلك مازال قائماً، راسخاً ساحقاً لمحاولات التغيير بقدمه الثقيلة.
ذهبت المنجزات وبقي النظام. كما بقي انكسار الروح والأحلام عقب هزيمة 67 الثقيلة.
ومشكلتي الحقيقية مع ذلك الجدل (في حقيقته مناكفة ضرائر) أنه لم يعد لدى السواد الأعظم سوى لحظةٍ أو مثالٍ آخر لظاهرة أعم: الهروب.
نهرب من الواقع والراهن.
نتكلم في كل شيءٍ سوى ما يهم. أجل، إن مجتمعاتنا تعيش حالة هروبٍ كبيرة، بمعنييها الحرفي والمجازي، في الزمان والمكان، والمسؤول الأول من دون جدال هو الأنظمة. أقرب نماذج هذا الهروب المحسوسة وأصرخها وأكثرها مادية هو تلك القوافل من سفن اللاجئين الذين يعبرون المتوسط، محشورين كالمواشي في قوارب فاقدة الصلاحية شبه محكومٍ عليها بالغرق، فراراً من بطش الأنظمة أو الفقر.
إلا أن هذا الهروب لم يبدأ اليوم أو البارحة، بل بدأ من عقودٍ بعيدة، ولست مبالغاً إذ أزعم أنه، وإن كان قد بدأ مع هزيمة الروح وانكسار النفس في 67، فإنه تكرس وترسخ مع سياسات السادات بانحيازاته الاجتماعية المعادية للفقراء وانفتاحه وتصفيته للقضية الوطنية، وانسحابه من القضية الفلسطينية وبداية انسحاب الدولة وتحللها من كل التزامتها تجاه الجمهور، والانقلاب على كل مشروع النهضة والتنمية الذي لسلفه (بغض النظر عما قد يكون من اختلافاتنا على مدى عمقه وجدواه وانحيازه الحقيقي). تبددت الأحلام الكبيرة وتبخر الشوق لنهضةٍ عامةٍ تشمل الجميع، وترسخت ثقافة الحلول الفردية والمنفعة الشخصية البحتة، وأمام سلطة دولةٍ ذات سطوةٍ متغولة، لم يبق أمام الأغلبية سوى الهروب.
الهروب بكل معانيه بحثاً عن الخلاص الفردي. الهروب إلى الماضي بكل يقينه وأمجاده الأسطورية المتصورة، سواءً أكان الماضي القريب الملكي أو الفرعوني أو الإسلامي، الهروب إلى الغيبيات واليقين الديني، الهروب إلى المخدرات، الهروب إلى الخليج بحثاً عن الثروة والصعود الطبقي، الهروب إلى الجدل العقيم. هروب إلى كل الأزمنة والأمكنة المغايرة. كل نماذج الهروب. لذا فلم يكن حراك يناير الثوري عودةً للتاريخ فحسب، وإنما نفي لحالة الهروب تلك وعودة للواقع من قبل الجمهور الأعرض الذي استعاد الأمل في التغيير والقدرة على صنع المستقبل، كما كان كسراً لفكرة الحلول الفردية وإحياءً لثقافة العمل الجماعي والمشاركة الجماهيرية الواسعة القادرة على إحداث طفرةٍ نوعية وتغييرٍ حقيقيٍ عميقٍ. يضيق المقام هنا عن التوسع في ما تعنيه ثورة من إمكانيات إعادة خلق المجتمع والإنسان وصياغة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، إلا أن الثورة كانت الفرصة التاريخية بأل التعريف لكسر حالة الاغتراب البشعة التي مسخت مجتمعاتنا، وقد ضاعت هذه الفرصة أو ضُيعت لأسبابٍ عديدة ليس هنا مجالها.
وعاد الناس إلى الهروب.. كثيرون منهم هربوا إلى أوهام السيسي، تلك التي يُصطلح على تسميتها بـ»إنجازات السيسي المعجزة» من تفريعةٍ جديدة لقناة السويس واستثماراتٍ بعشرات المليارات من الدولارات (لم يرها أحد بالمناسبة) وطرقه وجسوره التي يستثمر فيها القطاع الهندسي في الجيش، ووحده الله يعلم جدواها الاقتصادية (إن وجد)، ومازال الآخرون هاربين في ماوراء الموت وأحلامٍ بالسفر الخ.
والكل هاربون من الخوف، بل الرعب، من المستقبل، وهم يسمعون يومياً عن القروض ورفع الدعم والغلاء الفاحش، وهم يسمعون عن جرائم بشعةٍ تشهد بالتوحش وتؤذن بالمزيد منه، وهم يسمعون عن ارتفاع سد النهضة والعطش المقبل، ويمنع فلاحونا من زراعة الأرز.
نستطيع أن نستمر إذن كل عام في مناقشة 23 يوليو والجدل على شخص عبد الناصر بروح الثأر، وفي الخلاف في ما إذا كان الملائكة ذكوراً أم إناثا، إلا أن ذلك بالتأكيد لن يوصلنا إلى شيء (كما لم يفعل سلفاً). لقد تغير العالم بعد يناير 2011 شاء من شاء وأبى من أبى، وإن أي نقاشٍ لأي ظاهرةٍ تاريخية على أرض السياسة لا بد أن ينطلق من هدف التوظيف لإيجاد مخرجٍ من مأزق التاريخ العالقين فيه.
وكل ما سوى ذلك لا يعدو أن يكون مثالاً آخر للهروب، مع فارق أن زمن مبارك البليد قد انتهى، وإذ أخذنا بعين الاعتبار سرعة تغييرات السيسي (هرولته نحو القاع في حقيقة الأمر) فإن رفاهية الهروب تلك لن تتاح في المستقبل القريب، وحينذاك سيفرض الواقع القبيح نفسه بكل ثقله وقسوته وإحباطه، وعلى ذكر السيرة فإن لنا في 67 لسابقةً ومثالاً وعبرة.
كاتب مصري

الهروب الكبير

د. يحيى مصطفى كامل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية