لا يبدو أن هناك هوساً بشيء، مثل الهوس بالكتابة، لدى كثير من الشابات والشباب اليوم، وفي أحيان كثيرة تبدو الأمور مأساة حقيقية كاملة الأوصاف.
تتلقى رسالة من شاب يسألك بمنتهى الجدية: أستاذ، هل يمكن أن تشرح لي باختصار كيف تُكتبُ الرواية؟ وما هي المواضيع التي تهم الناس أكثر من سواها، ويفضلها القراء؟!
وبتواضع تكتب له: إذا أردت أن تكتب رواية فعليك أن تقرأ الروايات، وسواها، وإذا أردت أن تعرف ما يهم الناس فعليك أن تعيش حياتك، لتكتشف حياتهم.
الشاب الذكي الذي يريد حرق المراحل كلها في أسئلة عدة، ولا نقول في خطوات عدة، لن يكتفي بإجابتك هذه، إذ ستبدو له أنك تبخل عليه بالنصيحة، حتى تبقى أنت وأمثالك محتكرين للرواية العربية! ولذا سيكتب إليك ثانية بجرأة طائر فينيق يستحم في فوهة بركان متقدة: أستاذ، هل يمكن أن تنصحني بدار نشر جيدة أنشر فيها روايتي؟!
أظن أن شاباً كهذا، هو أكثر البشر عملية! فقد استطاع عبر أسئلته الثلاثة أن يصبح روائياً، ولم يكن ينقصه في الحقيقة سوى بعض الأسئلة الضرورية الأخرى، مثل: أي النقاد في اعتقادك يستحق أن أرسل له نسخة منها؟ ثم ما هي أفضل جائزة عليّ أن أُكرمها بتقديم روايتي إليها؟ ومن هو المخرج السينمائي الذي تنصحني بالتعامل معه لتقديمها في مسلسل، على غرار (لعبة العروش)، أو في فيلم على غرار (العرّاب).
لا نستطيع أن نقول هنا، إلا أن هذا الروائي الصاعد كالصاروخ، تعب وسأل. على الأقل سأل، وأكثر من سؤال.
في أماكن أخرى، ستجد من لا يملك جَلَدَ طرح كل هذه الأسئلة، وسيسأل سؤالاً واحداً فقط، كما يقول بعض العارفين، وذلك السؤال هو: هل تعرف أحداً يستطيع كتابة رواية لي، وأنا مستعد لأن أدفع له ما يريد؟
ليس في الحديث عن هذا الأمر محاولة للنيل من أي إنسان يريد أن يكتب رواية أولى بروحه وثقافته وقلمه، فقد أثبتت التجارب الإنسانية أن ثمة من استطاع كتابة رواية أولى هزت الدنيا وعبرت الأزمنة. لكنهم بالتأكيد، بل غالباً، ممن يكتبون لأنهم لا يستطيعون أن لا يكتبوا، فالحياة تكثفت فيهم، وحان موعد خروجها للضوء، وإن لم تخرج قتلتهم.
بالطبع، هنالك الكاتب الذي يطلقون عليه في الغرب، الكاتب الشبح، وهو ذلك الذي يكتب لأناس عاشوا الحياة طولاً وعرضاً، وأصبح لديهم ما يكفي لأن يُروى ويفيض، ولأنهم لا يستطيعون الكتابة، يستعينون بالأشباح الموهوبة، لكن المضحك المبكي هم أولئك الذي يريدون أن يصبحوا كتاباً قبل أن يعيشوا حياتهم، أو يعيشوا بعض ما كُتِبَ، ولا نقول كله.
في لقاء قبل أسبوعين في مؤسسة شومان الرائدة، في عمان، كانت هنالك أسئلة كثيرة عن العمل الروائي الناجح، وكيف يكون ناجحاً. وتتفهم هنا، أن سؤالاً كهذا يؤرق المتطلع لدخول عالم الكتابة، كما يؤرق ذلك الذي يكتب من خمسين أو ستين عاماً.
أين يكمن السر في أن تكون رواية ما، رواية متّفق عليها، مثل (الحرافيش) لنجيب محفوظ، أو (رجال في الشمس) لغسان كنفاني، أو (مائة عام من العزلة) لماركيز، أو (العمى) لسراماغو أو (شرق المتوسط) لمنيف، أو (العطر) لباتريك زوسكيند، أو …
الغريب في الأمر أن هذه الروايات المتفق عليها، ليست موجودة في خزائن مغلقة بإحكام، لا يجوز لأحد أن يتصفحها، بل هي موجودة بملايين النسخ في أسواق العالم، كسرٍّ مُشرع على آخره، ولكنهم قلة أولئك الذين يستطيعون كتابة روايات توضع في خانة هذه الروايات الكبرى.
ويبقى السبب لماذا؟
في دروس تعليم الرواية وورشاتها، سيقول لك المعلم أو المشرف: عليك أن تعرف كيف تبني الشخصية، كيف تبني الحدث، الشكل، كيف تتحرك في الزمن، كيف ترى المكان، كيف تبتكر حبكة عملك، كيف تتعامل مع لغتك… إلى آخر هذه الوصايا، التي يمكن أن ترشدك للحديقة لكنها لن تكون كافية لك لإبداع سحر وردة واحدة أو رحيقها.
وستجد هذه الوصايا في عشرات الكتب حول فن الرواية، وكتابتها، وشهادات الروائيين، ودراسات النقاد، وفي الندوات والمجلات والجرائد ومواقع الإنترنت، وكلها تشير بوضوح مبالغ فيه الى معالم الطريق، لكنها لا تضمن لسالكه لا الوصول ولا فرحة الوصول.
مثلما يحدث أن ترى شخصاً وسيماً، أنيقاً، بملامح جميلة، وعينين واسعتين، وقامة مثالية، فتتقدم نحوه/ نحوها، للتعرف إليه، وما أن ينطق/تنطق جُملاً عدة، حتى تكتشف أنك أوقعت نفسك، بنفسك، في فخ، فتنظر حولك باحثاً عن من ينقذك.
وسأختتم بحكاية:
قال لي أحد الأصدقاء، وكان يعمل معلّماً: جاء أحد أولياء الطلاب إليَّ غاضباً، لأنني لم أمنح ولده علامة جديدة، مع أن الولد كتب قصة مكتملة العناصر، حسب قول والده، فهناك الحدث، الحبكة، البداية، النهاية، الشخصيات.
تبسم صديقنا المعلّم، وقال للأب الغاضب: إذا ذهبت إلى السوق الآن واشتريت رأس خروف، بقوائمه، وفروته، وأمعائه، وكل أجزائه الأخرى، وعدت إلى البيت، هل تستطيع أن تصنع منها خروفاً.
بُهت الأب الغاضب، وصمت طويلاً، وقال: لقد فهمتك، قبل أن يستدير هازًّاً رأسه، مفكرًا بعقله، لا برغبته، في ما قاله المعلم.
المشكلة التي لم نزل نعاني منها، أن كثيرين لا يريدون أن يفهموا ما قاله ذلك المعلّم النبيه.
إبراهيم نصر الله
أستاذ ابراهيم
لا فض فوك كما يقال. مقالك جاء في مقامه. وأريد أن أضيف أسفا آخر على ما تأسفت عليه أيضا، أن بعض الجوائز العربية باتت تمنح لغايات ليس لها من الأدب إلا قلته، وعند العرب اليوم أقل من قلة يتقنون فن الرواية وهم ملتصقون بقضايا شعوب العرب الذين باتوا شركات مساهمة لإنتاج المآسي، والأحزان. والمواضيع على كثرتها مطروحة في الطريق والخير في الاختيار الصحيح والكتابة بحبر القلب والأسلوب الفريد الذي لا يمحي من الذاكرة، كعزازيل لكاتبنا الكبير يوسف زيدان، ولا أحد ينام في الاسكندرية لابراهيم عبد المجيد، و وروائح المدينة لحسين الواد وطفل الممحاة لابراهيم نصر الله
مع تقديري