كان التواصل في المرحلة الشفاهية مشتركا بين المرسل والمتلقي، حيث بإمكان كل منهما أن يكون، في الوقت نفسه مرسلا أو متلقيا، وذلك عبر تبادل المواقع بينهما. إن الوسيط الشفاهي موجود أبدا رغم تطور الوسائط وظهور أخريات عبر الزمن؛ ولا يمكن، في أي وقت، ادعاء أنه انتهى بانتهاء «المرحلة الشفاهية»، وبروز مراحل أخرى في التطور الإنساني.
مع ظهور الكتابة سيصبح التواصل خطيا يتحدد من خلال علاقة خاصة بين الكاتب والقارئ. وهو ما سيتأكد مع ظهور الطباعة، مع فارق أساسي هو اتساع دائرة الكتاب والقراء مع التطور الاجتماعي والثقافي الذي صاحب مرحلة الطباعة. ولقد أدى تكنولوجيا السمعي ـ البصــــري إلى ظهـــــور وسائط أخرى للتواصل ونقل المعلومات عن طــــريق المذياع والتلفزيون، حيث تم استخدام الوسيط الشفاهي إلى جانب الطباعي مع السمعي ـ البصري. وبذلك صرنا أمام تطور يستجمع كل الوسائط والعلامات التي يوظفها الإنسان في التواصل والإنتاج والتلقي.
أدى تطور الوسائط إلى بروز ثقافات تتمفصل بسحب ما يوفره الوسيط من إمكانات للتواصل بين الناس. فكانت «الثقافة الشعبية» مرتبطة بالمرحلة الشفاهية. وجاءت «الثقافة العالمة» متصلة بالكتاب والكتابة. ثم صار بالإمكان الحديث عن «الثقافة الجماهيرية» التي تولدت من الوسائط الجماهيرية، وبتنا الآن، مع تطور التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل، أمام إمكان الحديث عن «الوسائط المتفاعلة»، خاصة مع الجيل الثاني من الفضاء الشبكي (2.0). وداخل الوسائط المتفاعلة، فرضت «وسائل التواصل الاجتماعي»، أو «الوسائط الاجتماعية» نفسها على ما عداها، وصار مستعملو كل الوسائط شفاهية كانت، أو كتابية أو جماهيرية، أيا كان نوعها أو وظيفتها، في أمس الحاجة إلى استثمارها واستعمالها للتواصل حول مختلف القضايا والمسائل.
صار بإمكان أي فرد من أفراد المجتمع، وفي أي مكان، وأيا كانت ثقافته، أن يمتلك موقعا في الفضاء الشبكي التفاعلي ويبلّغ ما يريد إيصاله إلى الآخرين، عبر النص أو الصوت أو الصورة، ويجد بالضرورة من يتواصل معه، ويشاركه ما قام بتقديمه عبر استغلال ما يتيحه له هذا الوسيط الجديد.
تم الاتفاق على تسمية الوسيط الجديد في اللغة العربية وسائط أو «وسائل التواصل الاجتماعي»، وهي ترجمة عن الإنكليزية لـ»الوسائط الاجتماعية». ولما كانت للمصطلحات دلالات خاصة على ما تعبر عنه، وجدتني وأنا أتابع «الوسائط الاجتماعية العربية» أن المصطلح غير دال على المضمون الاجتماعي لهذه الوسائط. إن الحديث عن «الوسيط الاجتماعي» يقضي بوجود مجتمع، وتصور مجتمعي مشترك يُمكِّننا من نعت التواصل الذي يتأسس على قاعدة هذه الوسائط بأنه «تواصل اجتماعي»، وأن الثقافة التي يسعى إلى تشكيلها «ثقافة اجتماعية»، قياسا بما كان عليه الحديث عن «ثقافة شعبية» في المرحلة الشفاهية، و»ثقافة عالمة» مع المرحلة الكتابية والطباعية، و»ثقافة جماهيرية»، مع «الوسائط الجماهيرية».
إن ارتقاء الوسائط وتطورها التاريخي يعني ارتقاء الإنسان في مجالات التواصل والإنتاج الثقافي والمعرفي وتلقيه بتحقيق درجات عليا من التفاعل بين المكونات البشرية. لكن حين لا يتحقق هذا البعد السامي في التفاعل، وهذا ما يجري في الفضاء العربي، لا يمكننا إلا أن نتحدث عن «وسائط شعبية» جديدة، تستفيد مما تقدمه «الوسائط المتفاعلة»، وهي أرقى الوسائط التي حققها التطور العلمي والتكنولوجي إلى الآن، بدون أن تصل إلى المستوى الحقيقي الذي من أجله عمل الإنسان على تطوير وسائط تواصله بين مختلف عناصره ومكوناته. ليست «الوسائط الشعبية» التي نتواصل من خلالها، نحن العرب، سوى تعبير عن المستوى «الاجتماعي» الذي يوجد عليه العرب. وأهم خاصية لهذا المستوى تكمن في أننا لا نفكر في القضايا التي تهمنا باعتبارنا جماعة، أو مجتمعا، ونعمل مجتمعين على التفكير فيها على أنها قضايا ومشاكل عامة، ولكن بصفة كل منا فردا يسقط مشاكله التي يعاني منها، على أنها مشاكل اجتماعية، أي أن الوسيط الجديد بدل أن يكون فعلا «وسيطا اجتماعيا»، بات فرديا تعمل الذات من خلاله على التعبير عن فرديتها الخاصة. وما الرغبة في التعبير عن تلك «الفردانية» سوى تجسيد لعدم التناغم مع المجتمع. ومن هنا نجد البعد الشعبي في إلحاحنا على تسمية وسائطنا بـ»الشعبية». ولما كانت «الشعبية» في المرحلة الشفاهية متصلة بنظام اجتماعي له تناغمه وانسجامه، كان الفرد يحس بالانتماء ويعبر عن هوية جماعية. أما في الوسائط الشعبية الجديدة، فيقضي عدم الإحساس بالانتماء باستغلال الوسيط الجديد للتعبير عن الذات وهمومها وهواجسها بلا أفق أو تفاعل مع الآخر، أو رغبة في التواصل معه، وإن كان في العمق يبحث عمن يشترك معه ذاتيا في تلك الهموم والتوجسات. وذاك كل العزاء.
يبرز هذا البعد الفردي، في هيمنة «ثقافة شعبية جديدة» لا تنتج معرفة، ولا يتواصل فيها الناس بجدية لفهم المجتمع، وللتعبير عن الانتماء الاجتماعي بشكل واع ومسؤول بهدف إنتاج «ثقافة اجتماعية» تخدم المجتمع. إن غياب المحتوى الاجتماعي الحقيقي في الوسائط الاجتماعية العربية يجعلها: وسائل لتزجية الوقت، وللتنفيس، وللسخرية، والانتقام من الآخر، وللضحك الشعبي، كما تحدث عنه باختين. شعبوية وسائطنا لا تجعلها للتواصل الاجتماعي.
٭ كاتب مغربي
سعيد يقطين
اشكرك استاذ يقطين على هذا المقال وكنت اتمنى ان تقترح علينا مصطلحا يتطابق وحالة الاعلام الجديد ” الشبكي الفضائي” و”وسائط أو وسائل التواصل الاجتماعي”
وفيما يتعلق بالعلاقة بين هذا الاعلام الشعبوي او الشعبي والعرب أو هنا أن اضيف ان العرب استقبلوا هذه الوسيلة الجديدة وهم خارجين من نفق طويل من الظلم الإعلامي للسلطة عليهم، ثم غالبيتهم لا يمتلكون ثقافة على مستوى معين كي يتبادلوها مع الآخر فالإناء بما فيه ينضح، ولهذا السبب بقيت هذه الوسائل الجديدة مساحات حرة مفتوحة للردح وتبادل الاتهامات والشتائم التي انتقلت من الشارع إلى وسائل التواصل والاخطر من ذلك في الامر انتشار الكتابة بالعامية المحلية المحكية في عملية تشويه للغة بقدر لا مثيل له بحيث بات الفرد غير قادر على كتابة الفصحى. فالعرب لم يحسنوا التصرف بهذه الوسائل وهذه تحتاج لمدة طويلة من الزمن او الارتقاء الثقافي كي نصل الى عملية تواصلية تشكل ثقافة جديدة متبادلة