«الولد الصغير» من هيروشيما إلى رابعة

مَقْدِم الولد الصغير ليس في كل الأحوال مجْلبة للأفراح، ففي السادس من أغسطس/آب 1945  كان «الولد الصغير» الذي ولد في مشروع مانهاتن، يهوي من قاذقة القنابل الأمريكية يحمل رائحة الموت إلى هيروشيما اليابانية، في أول استخدام نووي في التاريخ لأغراض حربية، تبعتها قنبلة أخرى بعد ثلاثة أيام تحمل اسم «الرجل البدين» على نجازاكي، فأُبيد بحلول نهاية العام ما يقارب ربع مليون ياباني، بخلاف آثار ناجمة عن التدمير لا تزال الأجيال اليابانية تتوارثها وتعاني آثارها إلى ليوم.
هذه المحرقة لم تضع نهاية للحرب العالمية وحسب، بل أصبح هذا العمل الوحشي بداية لعصر الهيمنة الأمريكية، التي ظلت تجربتها التدميرية ماثلة حتى اليوم أمام الصديق والعدو، وعليها بنت أمريكا سمعتها العسكرية، ورسمت صورتها الذهنية المرعبة، التي كانت كفيلة بالتغطية على كل فشل ذريع مُنِيت به في المعارك على الأرض، في فيتنام والصومال وأفغانستان.
أغسطس/آب لا يُجدِّد الأحزان في اليابان وحدها، هو الشهر ذاته الذي ارتُكِبت فيه مجزرة بشعة في ميدان رابعة على أرض الكنانة، هنالك قُتل الرُكّع السجود، وأُحرق من كان سلاحه حفنة من الحصى، ومن هناك خرجت النساء ثكالى والأطفال يتامى وآباء حملوا على أكتافهم نعوش الأبناء.
هكذا بكل سهولة قُتل أبناء الدين والدم والأرض بلا رحمة، وسط  تهليل المتملقين وأدعياء الوطنية، وآخرين غُرّر بهم، ساعتها خرج داعية سعودي يقبع الآن في السجون، ووجّه لهؤلاء رسالة صاعقة تُزلزل القلب لو كانوا يفقهون: «ألا أيها المستبشرون بقتلهم، أطلّت عليكم غُمّة لا تفرّجُ»، ومن وقتها خيّم الظلام على أرض مصر.
خراطيم المياه كانت كفيلة بفض الاعتصام السلمي، قنابل الغاز المُسيل للدموع كانت كفيلة بتفريق المصريين الذي خرجوا مدافعين عن حقهم الذي اكتسبوه عبر الصناديق، لكن الجنرال كان له رأي آخر، «الولد الصغير».
هل كان يجهل ما يعنيه أن يقتل المئات من المعارضين في سُويعات؟ هل غاب عنه أن تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم؟ هل غفل عن ذاكرة التاريخ التي لن تنسى وحشيته؟ كلا هو يدرك تماما ما تعنيه تلك المحرقة، لكنه أرادها مدوية، أرادها «الولد الصغير» ليعلن الشعب المصري استسلامه على غرار صنيع اليابانيين.
أبحث عن أسباب هذا المسلك النازي الفاشي للسيسي، من خلال الرجوع إلى ثورة يناير/كانون الثاني 2011، عندما تكونت لدى الشعب المصري ثقافة الاحتشاد والتجمهر، عندما أصبحت الميادين هي ثكنات الجماهير، إذا ما لمحت خروجا عن مسار الثورة ومطالبها ومكتسباتها. لكنه بعد تحقيق هدف العسكر (القضاء على الإسلام السياسي وضرب مشروع التوريث)، وبعد أن تم تجهيز السيسي ليصبح الزعيم المُنتظر الذي يعبُر بمصر إلى الجحيم، رأى الجنرال أن يُوطِّد لعرشه ولسياساته المرسومة وصفقة القرن التي سيكون هو أحد مرتكزاتها، وذلك بإعادة الشعب الثائر إلى الجحور.
تم إنتاج وإخراج هذه المجزرة على هذا النحو البشع، لتقتل في الشعب روحه الثورية، خاصة أن الزعيم الملهم أتْبعها بسياسات قمعية لا ترحم، صنعت حواجز صلبة عالية بين نفوس المصريين والميادين.
قتلَ، وشرّدَ، واعتقلَ، وكمّمَ الأفواه، وقضى على رموز المعارضة وروّض البقية، وخلَتْ الساحة من كل الشخصيات القادرة على التعبئة والتثوير. إننا إذ نتابع أحوال إخوتنا في مصر، لا تقع أعيننا إلا على كل قبيح:
*سياسات اقتصادية لا أجد ما يُعبر عنها سوى القول بأنها سياسة إفقار للشعب حتى يبقى بعيدًا عن مشاهدة فساد النظام.
*نظام لا تتعدى رؤيته الاقتصادية فرض الجبايات، ولا يرى حلا للأزمة الاقتصادية إلا بالتشديد على الفقراء، وحثّهم على الصبر على الجوع، فيما تُنفَق أموال الدولة القمعية الدموية، في شتى وجوه التفاهة وفي خدمة المترفين.
*جيش يبتلع اقتصاد الدولة ونسي أنه صُنع لحماية الحدود، ووجد أن مهمته حماية النظام..
*تحولت أموال الشعب إلى يد ثُلّة من المُتنفذين وأعوان النظام الانقلابي والمنتفعين من بقائه، فاتسعت الهوة بين طبقتي الشعب.
*حُورب الفقير في قوته، ووجد نفسه أمام طوفان رفع الدعم بموجب مسرحية القرض من صندوق النقد الدولي.
*مئات من الوعود الكاذبة التي لم يتحقق منها شيء طيلة أربع سنوات وزيادة.
*فقدان مصر لدورها الإقليمي والعربي والإسلامي والدولي..
*بيْع لتراث وتاريخ المصريين.
*قتْل للكلمة الحرة النزيهة.
*تطبيع غير مسبوق مع الكيان الصهيوني ورعاية لمصالحِه الأمنية والسياسية، بصورة جعلت من السيسي بطلًا داخل دولة الاحتلال.
كل ذلك وأبشع يحدث في مصر، ومع ذلك ينظر المصريون إلى شرايينهم المقطوعة ودمائهم المتخثرة بصمت القبور، فإن سبَحَتْ الأفكار في الثورة والميادين، حضر شبح المذبحة، فبدَّد العزم والهمّ، وهذا عين ما أراده زعيم الانقلاب. وفي الآونة الأخيرة أطلق الضابط والدبلوماسي السابق معصوم مرزوق مبادرة موجهة إلى السيسي ومعارضيه، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، عبر تصويت على بقاء النظام أو رحيله، فإن كانت الأولى فوجب الرضا بقرارات النظام، وإن اختار الشعب رحيله تنتهي ولايته وتستقيل الحكومة الحالية ومجلس النواب، وتُشكل حكومة مؤقتة لإدارة الدولة ورعاية الاستحقاقات الانتخابية اللاحقة، وفي حال رفض النظام نصّت المبادرة على أن البديل هو الاحتشاد في ميدان التحرير نهاية الشهر الجاري لدراسة الخطوات اللاحقة. ورغم أن المبادرة جاءت بعد انسداد الأُفق السياسي والأمني والاقتصادي، إلا أن التعاطي الشعبي والحزبي معها بَدَا باهتًا، غير مُتّسِق بالمرة مع حجم الأزمات، فهناك حالة من الهلع والخوف في جميع الأوساط من فكرة الاحتشاد، والسبب هو «الولد الصغير»، تلك المذبحة المُخيفة الرادعة التي أُريد لها أن تكون بهذه البشاعة، ليخمد القوم ويغرقوا في سبات عميق، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية

«الولد الصغير» من هيروشيما إلى رابعة

إحسان الفقيه

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    مذبحة رابعة عار على كل من خرج بيوم 30-6-2013 , فالدماء الطاهرة الزكية التي سُكبت بهذا اليوم برقبتهم ليوم الدين ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول أسامة حميد-المغرب:

    تحية صادقة للكاتبة المحترمة وشكرا على مقالاتك الهادفة والرزينة والعميقة. ولكن برأيي المتواضع لا يكفي الهلع من “الولد الصغير” ولا حتى من “الرجل البدين” لتفسير هذا الخنوع والاستسلام و”صمت القبور”…السبب الأساسي يكمن في اهتزاز العزيمة وضعف الإيمان بالقضية وخلود القوم الى الأرض مؤثرين السلامة على الكرامة…فالشعوب الحية لا ترضى بحياة الذل والمهانة بمبرر الخوف ولو إلى حين…قد “تصمت” لبعض الوقت متحينة الفرصة والوقت المناسب للانقضاض على “الولد الحقير” وتمزيقه كما فعلت بأشرس الطواغيت من طينة تشاوشيسكو وبول بوط وبينوشي وغيرهم… والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

  3. يقول عبدالنعيم كساسبه (الاردن):

    دققتي الوصف كاتبتنا الفاضله .
    لك الله يامصر اللهم ارفع الغمه عن مصر حتى في عهد مبارك كان هناك حريه وتقول ما تشاء اما اليوم حتى المنافقين والطبالين منعوا من برامج الفضائيات

  4. يقول سمير الجبوري \لندن:

    الفضل في رقي حضاره المسلمين ليس للدين الاسلامي كمى التيارات الاسلاميه تجتره على البسطاء من الناس وانمى الفضل للاستقرار الذي حققه الحاكم لفتره طويله وهذا ليس تخمينا للننضر لكل حضاره حاليا من حولنا نمت وترعرعت ليس بالدين وانمى بالاستقرار هذه اوربا كانت بعيده عن الحضاره عنمى تنازعت لاسباب في كثير منها دينيه وبعد استقرارها شواهد واضحه لكل ذي بصيره التيارات الاسلاميه تضحك على الجهله بربط ما انجزته الامه بالدين عمر الاديان لم تكون حضاره وانما الاستقرار هو العامل الوحيد في البناء الحضاري و

  5. يقول سامح //الأردن:

    *كل حاكم عربي مسؤول عن
    رعيته (شعبه) .
    *سؤال;- كم حاكم عربي مخلص
    فعلا لشعبه..؟؟؟
    سلام

إشترك في قائمتنا البريدية