برفضها الخضوع للشروط المالية للترويكا: المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وضعت اليونان الاتحاد الأوروبي أمام أكبر التحديات التي واجهها خلال العقود الأخيرة. وتتجاوز الأزمة اليونانية الحدود الأوروبية إلى ما هو أبعد بسبب تخوف المؤسسات المالية الدولية من إرساء اليسار الحاكم في أثينا بزعامة أليكسيس تسيبراس ثقافة جديدة تدفع دولا أخرى إلى تقليده والتمرد على شروط هذه المؤسسات التي تتحكم في اقتصاديات الكثير من الدول وخاصة الضعيفة منها. وبينما يضغط اليونان بالقوانين والخبراء التكنوقراط، ترفع حكومة اليونان الشرعية الديمقراطية عبر استفتاء يوم الأحد للبت في قبول أو رفض الاتفاق المالي مستقبلا.
ومنذ فوز حزب سيريزا في الانتخابات التي جرت خلال كانون الثاني/يناير الماضي، تكهن المحللون السياسيون بدخول الاتحاد الأوروبي مرحلة جديدة من التوتر بسبب الأطروحات التي حملها هذا الحزب المنتمي إلى اليسار الأوروبي الراديكالي الجديد، يسار يحمل مفاهيم جديدة في تسيير الدولة لشؤون الشعوب غير كلاسيكية ومختلفة عن تلك التي تعود عليها الاتحاد الأوروبي.
ووصل حزب سيريسا إلى الحكم ببرنامج يتضمن أساسا عدم الخضوع التام لشروط المؤسسات المالية الدولية ومنها البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، بل التفاوض على أسس جديدة. ويرفض الحزب سياسة التقشف المتطرفة على حساب الطبقات الفقيرة بحكم أن سياسة التقشف تمس التعليم والتطبيب والمتقاعدين. ويقول وزير المالية اليوناني يانيس فاروفاكيس «فشلت المفاوضات الحالية لأن المقرضين رفضوا تخفيض ديوننا العمومية التي يستحيل تأديتها، وبدل ذلك أصروا على تأدية القروض كاملة من طرف ضعفاء الشعب وأبنائهم وأحفادهم». وذلك في إشارة إلى سياسة التقشف التي تؤثر سلبا على الطبقات المتوسطة والفقيرة.
ووجد الحزب الحاكم في اليونان وضعا اقتصاديا كارثيا، فالديون وصلت إلى 300 مليار دولار، بما يشكل 185 في المئة من الناتج الإجمالي الخام للبلاد، وهو الأعلى في العالم. ونظريا، تعتبر اليونان دوليا فاشلة اقتصاديا بسبب هذه الديون.
وطرح حزب سيريزا تصورات جديدة لمواجهة هذه الأزمة وأساسا إعادة جدولة الديون بشكل لين، وهو طرح تقدمت به الترويكا الثلاثية سنة 2012، أي قبل وصول الحزب الحاكم حاليا. لكن أثينا تعتبر أن الهيئات الأوروبية لم تلتزم بهذا التعهد وتركته بدون جدول زمني.
ومن جهة أخرى، تربط اليونان تسديد الديون بالنمو الاقتصادي للبلاد وتفادي تطبيق شروط جديدة تؤثر على المواطنين العاديين.
وكانت المواجهة بين الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية مع اليونان مرتقبة للغاية. فمن جهة، أراد حزب سيريزا أن يكون وفيا للتعهدات الانتخابية التي التزم بها في الحملة الانتخابية الأخيرة، ومن جهة أخرى، قررت المؤسسات المالية الدولية وكذلك البيروقراطية في الاتحاد الأوروبي الرهان على سياسة التشدد في مواجهة أثينا لتفادي إرساء حكومة اليونان ثقافة جديدة في العلاقات المالية الدولية في شقها المتعلق بالقروض تساعد على تمرد الدول المثقلة بالقروض.
وهكذا، أمام الباب المسدود ولكي لا يتنكر لوعوده، عاد حزب سيريزا إلى الشعب اليوناني لتنظيم استفتاء اليوم الأحد 5 تموز/يوليو لكي يبت اليونانيون في قبولهم أو رفضهم الاتفاق المالي مع المقرضين الأجانب. وفي الوقت ذاته، قررت الحكومة تجميد سحب الأموال في حدود. وهذا الإجراء كانت قد طبقته الأرجنتين سنة 2001 عندما تعرضت لأزمة مالية خانقة.
وتطالب الحكومة من الشعب اليوناني التصويت برفض الاتفاق المالي الذي يرغب فيه المقرضون على مستوى هياكل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. وتعتبر التصويت بـ «لا» سيعزز من موقف الحكومة في المفاوضات المالية المقبلة مع ترويكا. وتتفاوض الحكومة حول 15 مليار دولار، لكن صندوق النقد الدولي نشر الخميس من الأسبوع الجاري تقريرا يؤكد حاجة اليونان إلى 50 مليار دولار خلال الثلاث سنوات المقبلة.
وتحصل حكومة اليونان على دعم فئة هامة من الشعب ومن الحركات اليسارية الأوروبية. كما تحصل على دعم الأوساط الأكاديمية. فقد ارتفع صوت كل من بول كروغمان صاحب نوبل للاقتصاد سنة 2008 وجون ستيغلتز الذي حصل على الجائزة نفسها سنة 2001، مطالبين اليونانيين بالتصويت بـ «لا» ورفض الاتفاق الاقتصادي الذي ترغب في فرضه المؤسسات الدولية.
والأزمة اليونانية تحمل مؤشرات دالة في السياسة الدولية تتعدى ما هو مالي إلى ما هو سياسي بحكم ارتباط الأول بالثاني. وفي هذا الصدد:
تؤكد اليونان بموقفها هذا ضرورة مراجعة ديون الدول التي اقترضت كثيرا في ظروف صعبة أشبه لما يعرف في التجارة «بالغبن» أي غياب الانصاف. فالمؤسسات المالية والدول وجدت في اليونان ما يشبه «البقرة الحلوب»، وأقرضتها بفوائد عالية جدا. ويوجد الآن نقاش قوي في العالم حول مستقبل الديون وكيف تهدد رخاء ورفاهية الشعوب بما في ذلك شعوب العالم الأول الغني.
وارتباطا بالنقطة السابقة، هناك تخوف حقيقي من طرف المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. فرفض اليونان للاتفاقيات المالية في ظل الشروط الحالية وإصرارها على ضرورة الجدولة اللينة وتشطيب جزء من الديون، سيجشع دولا أخرى على تبني الاستراتيجية نفسها. ومما يزيد من هذا التخوف هو أن وصول سيريزا إلى الحكم يتزامن مع فترة تشهد فيها القارة الأوروبية الانهيار التدريجي للأحزاب السياسية الكلاسيكية التي مارست الحكم لعقود وتحولت إلى مؤسسات دولة أكثر منها أحزاب تراعي مشاكل المواطنين. ومن ضمن الأمثلة، هناك حزب بوديموس في اسبانيا الذي يؤيد اليونان ويهدد باتخاذ المواقف نفسها في حالة وصوله إلى السلطة في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. ويمتلك الحزب حظوظ الفوز.
وسياسيا، يأخذ الملف اليوناني بعدا مقلقا للغرب في السياسة الدولية. فقد أكدت حكومة أثينا اليسارية وجود بدائل للمؤسسات المالية الدولية في الغرب. في هذا الصدد، يوجد تقارب كبير بين أثينا وموسكو، وأعربت هذه الأخيرة عن رغبتها في مساعدة اليونان. وكانت عدد من وسائل الإعلام الدولية مثل «والت ستريب جورنال» و»القدس العربي» سباقة إلى نقل قلق البيت الأبيض بشأن اقتراب اليونان من روسيا ثم الصين ذات الاحتياطات المالية الضخمة. فمساعدة من موسكو وبكين، يعني بدء هروب اليونان من هياكل الغرب السياسية والاقتصادية.
في الوقت ذاته، يتلقى تعامل الجهاز البيروقراطي الأوروبي مع اليونان رفضا وسط الشعوب الأوروبية، إذ تبرز الكثير من المقالات وبعض استطلاعات الرأي قلق الأوروبيين وخاصة الشطر الجنوبي بشأن كيف يرغب بعض التكنوقراط التسبب في خروج اليونان من العملة الموحدة وتركها تواجه مصيرها لوحدها.
وأصبحت المخاوف تخالج الأوروبيين، فقد بدأت الدول الكبرى مثل فرنسا والمانيا تدرك استعداد اليونان إلى ترك العملة الموحدة إذا دعت الضرورة. وتجهل الانعكاسات الحقيقية التي قد تترتب عن الانسحاب بشأن العملة الموحدة، إذ هل ستنهار، أم سترتفع قيمتها كثيرا؟
وهكذا، ستشهد اليونان هذا الأحد التصويت في استفتاء حول قبول القروض بشروط من عدمه. وبهذا تكون اليونان قد أسست لثقافة جديدة في القروض الدولية وهي ضرورة إعادة النظر في القروض التي أصبحت ترهن مستقبل شعوب عشرات الدول ومنها بعض الدول العربية والأفريقية.
د.حسين مجدوبي